الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  وأما الحديث الذي رواه [1] : عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم [2] : " يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي ، اسمه كاسمي [3] ، وكنيته كنيتي ، يملأ الأرض عدلا [4] كما ملئت جورا ، وذلك [5] هو المهدي " [6] .

                  فالجواب : أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي  أحاديث صحيحة ، رواها أبو داود ، والترمذي ، وأحمد ، وغيرهم ، من حديث ابن مسعود وغيره .

                  [ ص: 255 ] كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن مسعود : " [ لو ] [7] لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم ، حتى يخرج فيه رجل مني ، أو من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا وظلما " . ورواه الترمذي ، وأبو داود من رواية أم سلمة [8] .

                  وأيضا فيه : " المهدي من عترتي من ولد فاطمة " [9] . ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد ، وفيه : " يملك الأرض سبع سنين " [10] .

                  ورواه عن علي - رضي الله عنه - أنه نظر إلى الحسن وقال : " إن ابني هذا سيد ، كما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم ، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق ، يملأ الأرض قسطا " [11] . [ ص: 256 ] وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف : طائفة أنكروها ، واحتجوا [12] بحديث ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا مهدي إلا عيسى بن مريم " ، وهذا الحديث ضعيف ، وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه ، ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي ، والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن ، يقال له : محمد بن خالد الجندي ، وهو ممن لا يحتج به [13] . وليس هذا في مسند الشافعي ، وقد قيل : إن الشافعي لم يسمعه من الجندي ، وأن يونس لم يسمعه من الشافعي .

                  الثاني : أن الاثني عشرية الذين ادعوا أن هذا هو مهديهم ، مهديهم اسمه محمد بن الحسن . والمهدي المنعوت [14] الذي وصفه النبي - صلى [ ص: 257 ] الله عليه وسلم - اسمه محمد بن عبد الله ; ولهذا حذفت طائفة ذكر الأب من لفظ الرسول [15] حتى لا يناقض ما كذبت . وطائفة حرفته ، فقالت : جده الحسين ، وكنيته أبو عبد الله ، فمعناه محمد بن أبي عبد الله ، وجعلت الكنية اسما .

                  وممن سلك هذا ابن طلحة في كتابه الذي سماه " غاية السول في مناقب الرسول " [16] ، ومن أدنى نظر يعرف أن هذا تحريف صريح [17] وكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل يفهم أحد من قوله : " يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي " إلا أن اسم أبيه عبد الله ؟ وهل يدل هذا اللفظ على أن جده كنيته أبو عبد الله ؟

                  ثم أي تمييز يحصل له بهذا ؟ فكم من ولد الحسين من اسمه محمد ، وكل هؤلاء يقال في أجدادهم : محمد بن أبي عبد الله كما قيل في هذا ؟ وكيف يعدل من يريد البيان إلى من اسمه محمد بن الحسن ، فيقول : اسمه محمد بن عبد الله ، ويعني بذلك أن جده أبو عبد الله ؟

                  وهذا كان تعريفه [18] بأنه محمد بن الحسن ، أو ابن أبي الحسن ; لأن [ ص: 258 ] جده على كنيته أبو الحسن - أحسن من هذا ، وأبين لمن يريد الهدى والبيان .

                  وأيضا فإن المهدي المنعوت [19] من ولد الحسن بن علي ، لا من ولد الحسين ، كما تقدم لفظ حديث علي .

                  الثالث : أن طوائف ادعى [20] كل منهم أن المهدي المبشر به مثل مهدي القرامطة الباطنية ، الذي أقام دعوتهم بالمغرب  ، وهو من ولد ميمون القداح ، وادعوا أن ميمونا هذا هو [21] من ولد محمد بن إسماعيل ، وإلى ذلك انتسب الإسماعيلية ، وهم ملاحدة في الباطن ، خارجون عن جميع الملل ، أكفر من الغالية كالنصيرية ، ومذهبهم مركب من مذهب المجوس والصابئة والفلاسفة ، مع إظهار التشيع ، وجدهم رجل يهودي كان ربيبا لرجل مجوسي ، وقد كانت لهم دولة وأتباع .

                  وقد صنف العلماء كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ، مثل كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني ، والقاضي عبد الجبار الهمداني ، وكتاب الغزالي ، ونحوهم .

                  وممن ادعى أنه المهدي ابن التومرت ، الذي خرج أيضا بالمغرب ، وسمى أصحابه الموحدين  ، وكان يقال له في خطبهم : " الإمام المعصوم " ، و " المهدي المعلوم " الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا [ ص: 259 ] وظلما . وهذا ادعى أنه من ولد الحسن دون الحسين ; فإنه لم يكن رافضيا ، وكان له من الخبرة بالحديث ما ادعى به دعوى تطابق الحديث .

                  وقد علم بالاضطرار أنه ليس هو الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم .

                  ومثل عدة آخرين ادعوا ذلك : منهم من قتل [22] ، ومنهم من ادعى ذلك فيه أصحابه ، وهؤلاء كثيرون لا يحصي عددهم إلا الله ، وربما حصل بأحدهم نفع لقوم ، وإن حصل به ضرر لآخرين ، كما حصل بمهدي المغرب : انتفع به طوائف ، وتضرر به طوائف [23] ، وكان فيه ما يحمد وإن كان [24] فيه ما يذم .

                  وبكل حال فهو وأمثاله خير من مهدي الرافضة ، الذي ليس له عين ولا أثر ، ولا يعرف له حس ولا خبر ، لم ينتفع به أحد لا في الدنيا ولا في الدين ، بل حصل باعتقاد وجوده من الشر والفساد ، مالا يحصيه إلا رب العباد .

                  وأعرف في زماننا غير واحد من المشايخ ، الذين فيهم زهد وعبادة ، يظن كل منهم أنه المهدي ، وربما يخاطب أحدهم بذلك مرات متعددة ، ويكون المخاطب له بذلك الشيطان ، وهو يظن أنه خطاب من قبل الله .

                  ويكون أحدهم اسمه أحمد بن إبراهيم ، فيقال له : محمد وأحمد سواء ، [ ص: 260 ] وإبراهيم الخليل هو جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوك إبراهيم ; فقد واطأ اسمك اسمه ، واسم أبيك اسم أبيه .

                  ومع هذا فهؤلاء - مع ما وقع لهم من الجهل والغلط - كانوا خيرا من منتظر الرافضة ، ويحصل بهم [25] من النفع ما لا يحصل بمنتظر الرافضة ، ولم يحصل بهم من الضرر ما حصل بمنتظر الرافضة ، بل ما حصل بمنتظر الرافضة من الضرر أكثر منه [26] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية