الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : الأول : " قول أبي بكر : إن لي شيطانا يعتريني ، فإن استقمت فأعينوني ، وإن زغت فقوموني . ومن شأن الإمام تكميل الرعية ، فكيف يطلب منهم الكمال ؟ "

                  والجواب من وجوه : أحدها : أن المأثور عنه أنه قال : " إن لي شيطانا يعتريني " يعني [ عند ] [2] الغضب " فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم [3] " . وقال : " أطيعوني ما أطعت الله ، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " . وهذا الذي قاله أبو بكر - رضي الله عنه - من أعظم ما يمدح به ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى .

                  [ ص: 267 ] الثاني : أن الشيطان الذي يعتريه قد فسر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب ، فخاف عند الغضب أن يعتدي على أحد من الرعية ; فأمرهم بمجانبته عند الغضب .

                  كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان " [4] ; فنهى عن الحكم عند [5] الغضب ، وهذا هو الذي أراده [6] أبو بكر ، أراد أن لا يحكم وقت الغضب ، وأمرهم [7] أن لا يطلبوا منه حكما ، أو يحملوه [8] على حكم في هذا الحال . وهذا من طاعته لله ورسوله .

                  الثالث : أن يقال : الغضب يعتري بني آدم كلهم ، حتى قال سيد ولد آدم : " اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ، وإني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه [9] : أيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة [ ص: 268 ] وقربة تقربه إليك يوم القيامة " أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة [10] .

                  وأخرجه مسلم عن عائشة قال : دخل رجلان على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأغضباه ; فسبهما ولعنهما ، فلما خرجا قلت : يا رسول الله من [11] أصاب من الخير ما أصاب هذان [ الرجلان ] [12] . قال : " وما ذاك ؟ " قلت : لعنتهما وسببتهما . قال : " أوما علمت ما شارطت عليه ربي ؟ . قلت : إنما أنا بشر فأي المسلمين سببته أو لعنته [13] فاجعله له زكاة وأجرا [14] " ، وفي رواية أنس : " إني اشترطت على ربي ، فقلت : إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر ، فأيما أحد دعوت عليه من [ ص: 269 ] أمتي بدعوة ليس [15] لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة " [16] .

                  وأيضا فموسى رسول كريم ، وقد أخبر الله عن [17] غضبه بما ذكره في كتابه [18] .

                  فإذا كان مثل هذا لا يقدح في الرسالة ، فكيف يقدح في الإمامة ؟ ! مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى في لينه وحلمه ، وشبه عمر بنوح وموسى في شدته في الله . فإذا كانت هذه الشدة لا تنافي الإمامة ، فكيف تنافيها شدة أبي بكر ؟ !

                  الرابع : أن يقال : أبو بكر - رضي الله عنه - قصد بذلك الاحتراز [19] أن يؤذي أحدا منهم ، فأيما [20] أكمل : هذا أو غيره ممن غضب على من عصاه ، وقاتلهم وقاتلوه بالسيف ، وسفك دماءهم ؟

                  فإن قيل : كانوا يستحقون القتال بمعصية الإمام وإغضابه .

                  قيل : ومن عصى أبا بكر وأغضبه كان أحق بذلك ، لكن أبا بكر ترك ما يستحقه ، إن كان علي يستحق ذلك ، وإلا فيمتنع أن يقال : من عصى [ ص: 270 ] عليا وأغضبه جاز أنه يقاتله ، ومن عصى أبا بكر لم يجز له تأديبه ; فدل على أن ما فعله أبو بكر أكمل [21] من الذي فعله علي .

                  وفي المسند وغيره عن أبي برزة أن رجلا أغضب أبا بكر . قال [22] : فقلت له : أتأذن لي أن أضرب عنقه يا خليفة رسول الله ؟ قال : فأذهبت كلمتي غضبه ، ثم قال : ما كانت لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم [23] . فلم يستحل أن يقتل مسلما بمجرد مخالفة أمره .

                  والعلماء في حديث أبي برزة على قولين : منهم من يقول : مراده أنه لم يكن لأحد أن يقتل أحدا سبه إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم . ومنهم من يقول : ما كان لأحد أن يحكم بعلمه في الدماء إلا الرسول .

                  وقد تخلف عن بيعته سعد بن عبادة ، فما آذاه بكلمة ، فضلا عن فعل . وقد قيل : إن عليا وغيره امتنعوا عن بيعته ستة أشهر ، فما أزعجهم ، ولا [24] ألزمهم بيعته . فهل هذا كله إلا من كمال ورعه عن أذى الأمة ، وكمال عدله وتقواه ؟

                  وهكذا قوله : فإذا اعتراني فاجتنبوني .

                  الخامس : أن في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه [ ص: 271 ] وسلم - أنه قال : " ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن " . قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : " وإياي ، ولكن ربي أعانني عليه [25] فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير " [26] .

                  وفي الصحيح عن عائشة قالت : يا رسول الله أومعي [27] شيطان ؟ قال : " نعم " . قالت : ومع كل إنسان ؟ قال : " نعم " قالت : " ومعك يا رسول الله ؟ قال : " نعم ، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم " [28] . والمراد في أصح القولين : استسلم وانقاد لي . ومن قال : حتى أسلم أنا ، فقد حرف معناه . ومن قال : الشيطان صار مؤمنا [29] ، فقد حرف لفظه .

                  وقد قال موسى لما قتل القبطي : ( هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ) [ سورة القصص : 15 ] ، وقال فتى موسى : ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) [ سورة الكهف : 63 ] . وذكر الله في قصة آدم وحواء ( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ) [ سورة البقرة : 36 ] ، وقوله : [ ص: 272 ] ( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ) [ سورة الأعراف : 20 ] .

                  فإذا كان عرض [30] الشيطان لا يقدح في نبوة الأنبياء - عليهم السلام - فكيف يقدح في إمامة الخلفاء ؟ !

                  وإن ادعى مدع أن هذه النصوص مئولة .

                  قيل له : فيجوز لغيرك أن يتأول قول الصديق ، لما ثبت بالدلائل الكثيرة من إيمانه وعلمه ، وتقواه وورعه . فإذا ورد لفظ مجمل يعارض ما علم [31] . وجب تأويله .

                  وأما قوله : " فإن استقمت فأعينوني ، وإن زغت فقوموني " ، فهذا من كمال عدله وتقواه ، وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك ، وواجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك ، فإن استقام الإمام [32] أعانوه على طاعة الله تعالى ، وإن زاغ وأخطأ بينوا له الصواب ودلوه عليه ، وإن تعمد ظلما منعوه منه بحسب الإمكان ، فإذا كان منقادا للحق ، كأبي بكر ، فلا عذر لهم في ترك ذلك [33] ، وإن كان لا يمكن دفع الظلم إلا بما هو أعظم فسادا منه ، لم يدفعوا الشر القليل بالشر الكثير .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية