باب .
قال الرافضي [1] : الفصل السادس : في [2] حججهم [3] على إمامة أبي بكر احتجوا بوجوه : الأول : الإجماع ، والجواب : منع الإجماع ، فإن جماعة من فسخ بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص [4] [ ] وابن عباس [5] .
[ ص: 318 ] حتى أن أباه أنكر ذلك [6] ، وقال : من استخلف على الناس [7] ؟ فقالوا : ابنك ، فقال : وما فعل المستضعفان ؟ إشارة إلى علي والعباس [8] ، قالوا : اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأوا [ أن ] [9] ابنك أكبر [ الصحابة سنا ، فقال : أنا ] أكبر [10] منه .
وبنو حنيفة كافة لم يحملوا [11] الزكاة إليه ، حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم ، فأنكر [12] عليه ، ورد السبايا أيام خلافته . عمر
والجواب : بعد أن يقال : الحمد لله الذي أظهر من أمر هؤلاء إخوان المرتدين ما تحقق به عند الخاص والعام أنهم إخوان المرتدين حقا ، وكشف أسرارهم وهتك أستارهم بألسنتهم ، فإن الله لا يزال يطلع على خائنة منهم تبين عداوتهم لله ورسوله ولخيار عباد الله وأوليائه المتقين ، ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ) .
[ ص: 319 ] فنقول : من كان له أدنى علم بالسيرة ، وسمع مثل هذا الكلام ، جزم بأحد أمرين : إما بأن قائله من أجهل الناس بأخبار الصحابة ، وإما أنه من أجرأ الناس على الكذب ، فظني أن هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الرافضة ينقلون ما في كتب سلفهم من غير اعتبار منهم لذلك ، ولا نظر في أخبار [13] الإسلام ، وفي الكتب المصنفة في ذلك حتى يعرف أحوال الإسلام فيبقى هذا وأمثاله في ظلمة الجهل بالمنقول والمعقول .
ولا ريب أن المفترين للكذب [14] من شيوخ الرافضة كثيرون جدا [15] وغالب القوم ذوو هوى أو جهل فمن حدثهم بما يوافق هواهم صدقوه ، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه ، ومن حدثهم [16] بما يخالف أهواءهم كذبوه ، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه ولهم نصيب وافر من قوله تعالى : ( فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه ) [ سورة الزمر : 32 ] كما أن أهل العلم والدين لهم نصيب وافر من قوله تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] .
ومن أعظم ما في هذا الكلام من الجهل والضلال جعله [17] بني حنيفة [ ص: 320 ] من أهل الإجماع ; فإنهم لما امتنعوا عن بيعته ولم يحملوا [18] إليه الزكاة سماهم أهل الردة ، وقتلهم وسباهم ، وقد تقدم مثل هذا في كلامه .
وبنو حنيفة قد علم الخاص والعام أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة باليمامة ، وادعى أنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة ، وادعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقتل [19] هو والأسود العنسي بصنعاء اليمن وكان اسمه عبهلة ، واتبع الأسود أيضا خلق كثير ، ثم قتله الله بيد فيروز الديلمي ومن أعانه على ذلك ، وكان قتله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله [20] ليلة قتل ، وقال : " قتله رجل صالح من أهل [21] بيت صالحين " [22] .
والأسود ادعى الاستقلال بالنبوة ، ولم يقتصر على المشاركة ، وغلب على اليمن وأخرج منها عمال النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى قتله [ ص: 321 ] الله ، ونصر عليه المسلمين [23] ، بعد أن جرت أمور ، وقد نقل في ذلك ما هو معروف عند أئمة العلم .
وأما مسيلمة فإنه ادعى المشاركة في النبوة ، وعاش إلى خلافة . أبي بكر
وقد ثبت في الصحيح عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أبي هريرة " رأيت في منامي كأن في يدي سوارين من ذهب ، فأهمني شأنهما ، فقيل لي : انفخهما ، فنفختهما ، فطارا فأولتهما الكذابين : صاحب صنعاء وصاحب اليمامة [24] وأمر مسيلمة وادعاؤه النبوة واتباع بني حنيفة له أشهر وأظهر من أن يخفى ، إلا على من هو من أبعد الناس عن المعرفة والعلم .
وهذا أمر قد علمه من [ يعلمه من ] اليهود [25] والنصارى ، فضلا عن المسلمين ، وقرآنه الذي قرأه قد حفظ الناس منه سورا إلى اليوم ، مثل قوله : يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي كم تنقين ، لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين ، رأسك في الماء وذنبك في الطين .
ومثل قوله : الفيل وما أدراك ما الفيل ، له زلوم طويل ، إن ذلك من خلق ربنا لقليل .
[ ص: 322 ] ومثل قوله : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وهاجر ، ولاتطع كل ساحر [26] وكافر .
ومثل قوله : والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ، إهالة وسمنا إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين ، ولكن قريشا قوم لا يعدلون . وأمثال هذا الهذيان .
ولهذا لما قدم وفد بني حنيفة على بعد قتل أبي بكر مسيلمة طلب منهم أن يسمعوه شيئا من قرآن أبو بكر مسيلمة ، فلما أسمعوه ، قال لهم : " ويحكم أين يذهب بعقولكم ؟ إن هذا كلام لم يخرج من إل " أي من رب [27] .
وكان مسيلمة قد كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته : " من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإني قد أشركت [28] في الأمر معك " فكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . ولما جاء رسوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : أتشهد أن مسيلمة رسول الله ؟ قال : نعم . قال : لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك ، ثم بعد هذا أظهر أحد الرسولين الردة [ ص: 323 ] بالكوفة فقتله ، وذكره بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا ابن مسعود [29] .
وكان مسيلمة قد [30] قدم في وفد بني حنيفة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظهر الإسلام ، ثم لما رجع إلى بلده ، قال لقومه : إن محمدا قد أشركني في الأمر معه " واستشهد برجلين [31] : أحدهما الرحال بن عنفوة ، فشهد له بذلك . ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والثاني : أبو هريرة الرحال هذا : " إن أحدكم ضرسه في النار أعظم من كذا وكذا " فاستشهد الثالث في سبيل [ الله ] أنه قال لثلاثة أحدهم [32] وبقي خائفا حتى شهد هذا أبو هريرة لمسيلمة بالنبوة ، واتبعه فعلم أنه هو كان المراد بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - [33] .
وكان مؤذن مسيلمة يقول : أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله .
[ ص: 324 ] ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة - أولهم وآخرهم - أنه ؛ وأعظم الناس ردة كان قاتل المرتدين بنو حنيفة ، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة ، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب ، وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف .
والحنفية أم محمد ابن الحنفية سرية كانت من علي بني حنيفة ، وبهذا احتج من جوز إذا كان المرتدون محاربين ، فإذا كانوا مسلمين معصومين ، فكيف استجاز سبي المرتدات أن يسبي نساءهم ؟ ويطأ من ذلك السبي ؟ . علي
وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة ، فأولئك ناس آخرون ، ولم يكونوا يؤدونها وقالوا : لا نؤديها إليك ، بل امتنعوا من أدائها بالكلية ، فقاتلهم على هذا ، لم يقاتلهم ليؤدوها إليه ، وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون : إذا قالوا : نحن نؤديها وأبي حنيفة [34] ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم لعلمهم بأن ، إنما قاتل من امتنع عن أدائها جملة لا من قال : أنا أؤديها بنفسي . الصديق
ولو عد هذا المفتري الرافضي من المتخلفين عن بيعة المجوس أبي بكر واليهود والنصارى ، لكان ذلك من جنس عده لبني حنيفة ، بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود والنصارى والمجوس ; فإن أولئك كفار مليون [35] وهؤلاء مرتدون ، وأولئك يقرون [ ص: 325 ] بالجزية ، وهؤلاء لا يقرون بالجزية [36] ، وأولئك لهم كتاب ، أو شبهة كتاب ، وهؤلاء اتبعوا مفتريا كذابا ؛ لكن كان مؤذنه يقول : أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله ، وكانوا يجعلون محمدا ومسيلمة سواء .
وأمر مسيلمة مشهور في جميع الكتب الذي يذكر فيها مثل ذلك من كتب الحديث والتفسير ، والمغازي والفتوح والفقه والأصول والكلام ، وهذا أمر قد خلص إلى العذارى في خدورهن ، بل قد أفرد الإخباريون لقتال أهل الردة كتبا سموها كتب " الردة " و " الفتوح " مثل كتاب " الردة " لسيف بن عمر [37] وغيرهما ، يذكرون فيها من تفاصيل أخبار أهل الردة وقتالهم ما يذكرون كما قد أوردوا مثل ذلك في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتوح والواقدي الشام .
فمن ذلك ما هو متواتر عند الخاصة والعامة ومنه ما نقله الثقات ، ومنه أشياء مقاطيع ومراسيل يحتمل أن تكون صدقا وكذبا ومنه ما يعلم أنه ضعيف وكذب .
[ ص: 326 ] لكن تواتر ردة مسليمة وقتال وحربه [ له ] الصديق [38] كتواتر هرقل وكسرى وقيصر ونحوهم ممن قاتله الصديق وعمر ، وتواتر كفر من قاتله النبي - صلى الله عليه وسلم - من وعثمان اليهود والمشركين مثل عتبة وأبي بن خلف وحيي بن أخطب ، وتواتر نفاق عبد الله بن أبي بن سلول وأمثال ذلك .
بل تواتر ردة مسيلمة وقتال له أظهر عند الناس من قتال الجمل وصفين ، ومن كون الصديق طلحة قاتلا والزبير ، ومن كون عليا سعد وغيره تخلفوا عن بيعة . علي
وفي الصحيحين عن قال : قدم ابن عباس مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فجعل يقول : إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته ، فقدمها في بشر كثير من قومه ، فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعة من جريد حتى وقف على ثابت بن قيس بن شماس مسيلمة في أصحابه فقال : " [39] فيك ما رأيت ، وهذا ثابت يجيبك عني " ، ثم انصرف عنه قال لو سألني هذه القطعة ما أعطيتكها ، ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وإني لأراك الذي أريت : فسألت عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أريت ابن عباس [40] فيك ما رأيت " [ ص: 327 ] فأخبرني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبو هريرة [41] في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا ، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي ، فكان أحدهما العنسي صاحب صنعاء والآخر [42] مسيلمة " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب ، فأهمني شأنهما ، فأوحي إلي [43] .
وأما قول الرافضي : " إن أنكر قتال أهل الردة " . عمر
فمن أعظم الكذب والافتراء على ، بل الصحابة كانوا متفقين على قتال عمر مسيلمة وأصحابه ، ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام ، وامتنعوا عن أداء الزكاة فهؤلاء حصل أولا شبهة في قتالهم ، حتى ناظره لعمر ، وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه ، والقصة في ذلك مشهورة . الصديق
وفي الصحيحين عن أن أبي هريرة قال عمر : كيف تقاتل [ ص: 328 ] الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لأبي بكر ] أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، [ وحسابهم على الله [44] " ، قال : ألم يقل إلا بحقها ؟ ؛ فإن الزكاة من حقها . والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها . قال أبو بكر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر عمر للقتال فعرفت أنه الحق " أبي بكر [45] .
احتج بما بلغه أو سمعه وعمر [46] من النبي - صلى الله عليه وسلم - فبين له أن قوله : " بحقها " يتناول الزكاة ، فإنهما حق المال . الصديق
وفي الصحيحين عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ابن عمر [47] لا إله إلا الله وأني رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : [48] .
فهذا اللفظ الثاني الذي قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين فقه ، وهو صريح في القتال عن أداء الزكاة وهو مطابق للقرآن . أبي بكر
قال تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) [ ص: 329 ] [ سورة التوبة : 5 ] فعلق تخلية السبيل على الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
والأخبار المنقولة عن هؤلاء أن منهم من كان قد [49] قبض الزكاة ، ثم أعادها إلى أصحابها لما بلغه موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهم من كان يتربص ، ثم هؤلاء الذين قاتلهم عليها لما قاتلهم صارت العمال الذين كانوا على الصدقات زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يقبضونها ، كما كانوا يقبضونها في زمنه ويصرفونها كما كانوا يصرفونها . الصديق
لمن كان يستعمله كتابا للصدقة فقال : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتي أمر بها الصديق " . وكتب
وبهذا الكتاب ونظائره يأخذ علماء المسلمين كلهم ؛ فلم يأخذ لنفسه منها شيئا ولا ولى أحدا من أقاربه ، لا هو ولا بخلاف عمر عثمان فإنهما وليا أقاربهما . وعلي
فإن جاز أن يطعن في الصديق أنهما قاتلا لأخذ المال ، فالطعن في غيرهما أوجه فإذا وجب الذب عن والفاروق عثمان ، فهو عن وعلي أبي بكر أوجب . وعمر
يقاتل ليطاع ويتصرف في النفوس والأموال ، فكيف يجعل هذا [ ص: 330 ] قتالا على الدين ؟ وعلي يقاتل من ارتد عن الإسلام ، ومن ترك ما فرض الله ليطيع الله ورسوله فقط ، ولا يكون هذا قتالا وأبو بكر [50] على الدين ؟ .