الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  باب .

                  قال الرافضي [1] : الفصل السادس : في فسخ [2] حججهم [3] على إمامة أبي بكر احتجوا بوجوه : الأول : الإجماع ، والجواب : منع الإجماع ، فإن جماعة من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص [4] [ وابن عباس ] [5] .

                  [ ص: 318 ] حتى أن أباه أنكر ذلك [6] ، وقال : من استخلف على الناس [7] ؟ فقالوا : ابنك ، فقال : وما فعل المستضعفان ؟ إشارة إلى علي والعباس [8] ، قالوا : اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأوا [ أن ] [9] ابنك أكبر [ الصحابة سنا ، فقال : أنا ] أكبر [10] منه .

                  وبنو حنيفة كافة لم يحملوا [11] الزكاة إليه ، حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم ، فأنكر [12] عمر عليه ، ورد السبايا أيام خلافته .

                  والجواب : بعد أن يقال : الحمد لله الذي أظهر من أمر هؤلاء إخوان المرتدين ما تحقق به عند الخاص والعام أنهم إخوان المرتدين حقا ، وكشف أسرارهم وهتك أستارهم بألسنتهم ، فإن الله لا يزال يطلع على خائنة منهم تبين عداوتهم لله ورسوله ولخيار عباد الله وأوليائه المتقين ، ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ) .

                  [ ص: 319 ] فنقول : من كان له أدنى علم بالسيرة ، وسمع مثل هذا الكلام ، جزم بأحد أمرين : إما بأن قائله من أجهل الناس بأخبار الصحابة ، وإما أنه من أجرأ الناس على الكذب ، فظني أن هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الرافضة ينقلون ما في كتب سلفهم من غير اعتبار منهم لذلك ، ولا نظر في أخبار [13] الإسلام ، وفي الكتب المصنفة في ذلك حتى يعرف أحوال الإسلام فيبقى هذا وأمثاله في ظلمة الجهل بالمنقول والمعقول .

                  ولا ريب أن المفترين للكذب [14] من شيوخ الرافضة كثيرون جدا [15] وغالب القوم ذوو هوى أو جهل فمن حدثهم بما يوافق هواهم صدقوه ، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه ، ومن حدثهم [16] بما يخالف أهواءهم كذبوه ، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه ولهم نصيب وافر من قوله تعالى : ( فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه ) [ سورة الزمر : 32 ] كما أن أهل العلم والدين لهم نصيب وافر من قوله تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] .

                  ومن أعظم ما في هذا الكلام من الجهل والضلال جعله [17] بني حنيفة [ ص: 320 ] من أهل الإجماع ; فإنهم لما امتنعوا عن بيعته ولم يحملوا [18] إليه الزكاة سماهم أهل الردة ، وقتلهم وسباهم ، وقد تقدم مثل هذا في كلامه .

                  وبنو حنيفة قد علم الخاص والعام أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة باليمامة ، وادعى أنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة ، وادعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقتل [19] هو والأسود العنسي بصنعاء اليمن وكان اسمه عبهلة ، واتبع الأسود أيضا خلق كثير ، ثم قتله الله بيد فيروز الديلمي ومن أعانه على ذلك ، وكان قتله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله [20] ليلة قتل ، وقال : " قتله رجل صالح من أهل [21] بيت صالحين " [22] .

                  والأسود ادعى الاستقلال بالنبوة ، ولم يقتصر على المشاركة ، وغلب على اليمن وأخرج منها عمال النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى قتله [ ص: 321 ] الله ، ونصر عليه المسلمين [23] ، بعد أن جرت أمور ، وقد نقل في ذلك ما هو معروف عند أئمة العلم .

                  وأما مسيلمة فإنه ادعى المشاركة في النبوة ، وعاش إلى خلافة أبي بكر .

                  وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " رأيت في منامي كأن في يدي سوارين من ذهب ، فأهمني شأنهما ، فقيل لي : انفخهما ، فنفختهما ، فطارا فأولتهما الكذابين : صاحب صنعاء وصاحب اليمامة " [24] وأمر مسيلمة وادعاؤه النبوة واتباع بني حنيفة له أشهر وأظهر من أن يخفى ، إلا على من هو من أبعد الناس عن المعرفة والعلم .

                  وهذا أمر قد علمه من [ يعلمه من ] اليهود [25] والنصارى ، فضلا عن المسلمين ، وقرآنه الذي قرأه قد حفظ الناس منه سورا إلى اليوم ، مثل قوله : يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي كم تنقين ، لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين ، رأسك في الماء وذنبك في الطين .

                  ومثل قوله : الفيل وما أدراك ما الفيل ، له زلوم طويل ، إن ذلك من خلق ربنا لقليل .

                  [ ص: 322 ] ومثل قوله : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وهاجر ، ولاتطع كل ساحر [26] وكافر .

                  ومثل قوله : والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ، إهالة وسمنا إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين ، ولكن قريشا قوم لا يعدلون . وأمثال هذا الهذيان .

                  ولهذا لما قدم وفد بني حنيفة على أبي بكر بعد قتل مسيلمة طلب منهم أبو بكر أن يسمعوه شيئا من قرآن مسيلمة ، فلما أسمعوه ، قال لهم : " ويحكم أين يذهب بعقولكم ؟ إن هذا كلام لم يخرج من إل " أي من رب [27] .

                  وكان مسيلمة قد كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته : " من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإني قد أشركت [28] في الأمر معك " فكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . ولما جاء رسوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : أتشهد أن مسيلمة رسول الله ؟ قال : نعم . قال : لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك ، ثم بعد هذا أظهر أحد الرسولين الردة [ ص: 323 ] بالكوفة فقتله ابن مسعود ، وذكره بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا [29] .

                  وكان مسيلمة قد [30] قدم في وفد بني حنيفة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظهر الإسلام ، ثم لما رجع إلى بلده ، قال لقومه : إن محمدا قد أشركني في الأمر معه " واستشهد برجلين [31] : أحدهما الرحال بن عنفوة ، فشهد له بذلك . ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لثلاثة أحدهم أبو هريرة ، والثاني : الرحال هذا : " إن أحدكم ضرسه في النار أعظم من كذا وكذا " فاستشهد الثالث في سبيل [ الله ] [32] وبقي أبو هريرة خائفا حتى شهد هذا لمسيلمة بالنبوة ، واتبعه فعلم أنه هو كان المراد بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - [33] .

                  وكان مؤذن مسيلمة يقول : أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله .

                  [ ص: 324 ] ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة - أولهم وآخرهم - أنه قاتل المرتدين ؛ وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة ، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة ، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب ، وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف .

                  والحنفية أم محمد ابن الحنفية سرية علي كانت من بني حنيفة ، وبهذا احتج من جوز سبي المرتدات إذا كان المرتدون محاربين ، فإذا كانوا مسلمين معصومين ، فكيف استجاز علي أن يسبي نساءهم ؟ ويطأ من ذلك السبي ؟ .

                  وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة ، فأولئك ناس آخرون ، ولم يكونوا يؤدونها وقالوا : لا نؤديها إليك ، بل امتنعوا من أدائها بالكلية ، فقاتلهم على هذا ، لم يقاتلهم ليؤدوها إليه ، وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما يقولون : إذا قالوا : نحن نؤديها [34] ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم لعلمهم بأن الصديق ، إنما قاتل من امتنع عن أدائها جملة لا من قال : أنا أؤديها بنفسي .

                  ولو عد هذا المفتري الرافضي من المتخلفين عن بيعة أبي بكر المجوس واليهود والنصارى ، لكان ذلك من جنس عده لبني حنيفة ، بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود والنصارى والمجوس ; فإن أولئك كفار مليون [35] وهؤلاء مرتدون ، وأولئك يقرون [ ص: 325 ] بالجزية ، وهؤلاء لا يقرون بالجزية [36] ، وأولئك لهم كتاب ، أو شبهة كتاب ، وهؤلاء اتبعوا مفتريا كذابا ؛ لكن كان مؤذنه يقول : أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله ، وكانوا يجعلون محمدا ومسيلمة سواء .

                  وأمر مسيلمة مشهور في جميع الكتب الذي يذكر فيها مثل ذلك من كتب الحديث والتفسير ، والمغازي والفتوح والفقه والأصول والكلام ، وهذا أمر قد خلص إلى العذارى في خدورهن ، بل قد أفرد الإخباريون لقتال أهل الردة كتبا سموها كتب " الردة " و " الفتوح " مثل كتاب " الردة " لسيف بن عمر [37] والواقدي وغيرهما ، يذكرون فيها من تفاصيل أخبار أهل الردة وقتالهم ما يذكرون كما قد أوردوا مثل ذلك في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتوح الشام .

                  فمن ذلك ما هو متواتر عند الخاصة والعامة ومنه ما نقله الثقات ، ومنه أشياء مقاطيع ومراسيل يحتمل أن تكون صدقا وكذبا ومنه ما يعلم أنه ضعيف وكذب .

                  [ ص: 326 ] لكن تواتر ردة مسليمة وقتال الصديق وحربه [ له ] [38] كتواتر هرقل وكسرى وقيصر ونحوهم ممن قاتله الصديق وعمر وعثمان ، وتواتر كفر من قاتله النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والمشركين مثل عتبة وأبي بن خلف وحيي بن أخطب ، وتواتر نفاق عبد الله بن أبي بن سلول وأمثال ذلك .

                  بل تواتر ردة مسيلمة وقتال الصديق له أظهر عند الناس من قتال الجمل وصفين ، ومن كون طلحة والزبير قاتلا عليا ، ومن كون سعد وغيره تخلفوا عن بيعة علي .

                  وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فجعل يقول : إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته ، فقدمها في بشر كثير من قومه ، فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابت بن قيس بن شماس ، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال : " لو سألني هذه القطعة ما أعطيتكها ، ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وإني لأراك الذي أريت [39] فيك ما رأيت ، وهذا ثابت يجيبك عني " ، ثم انصرف عنه قال ابن عباس : فسألت عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أريت [40] فيك ما رأيت " [ ص: 327 ] فأخبرني أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب ، فأهمني شأنهما ، فأوحي إلي [41] في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا ، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي ، فكان أحدهما العنسي صاحب صنعاء والآخر [42] مسيلمة " [43] .

                  وأما قول الرافضي : " إن عمر أنكر قتال أهل الردة " .

                  فمن أعظم الكذب والافتراء على عمر ، بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه ، ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام ، وامتنعوا عن أداء الزكاة فهؤلاء حصل لعمر أولا شبهة في قتالهم ، حتى ناظره الصديق ، وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه ، والقصة في ذلك مشهورة .

                  وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر : كيف تقاتل [ ص: 328 ] الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، [ وحسابهم على الله ] [44] " ، قال أبو بكر : ألم يقل إلا بحقها ؟ ؛ فإن الزكاة من حقها . والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها . قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق " [45] .

                  وعمر احتج بما بلغه أو سمعه [46] من النبي - صلى الله عليه وسلم - فبين له الصديق أن قوله : " بحقها " يتناول الزكاة ، فإنهما حق المال .

                  وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : [47] لا إله إلا الله وأني رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " [48] .

                  فهذا اللفظ الثاني الذي قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين فقه أبي بكر ، وهو صريح في القتال عن أداء الزكاة وهو مطابق للقرآن .

                  قال تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) [ ص: 329 ] [ سورة التوبة : 5 ] فعلق تخلية السبيل على الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .

                  والأخبار المنقولة عن هؤلاء أن منهم من كان قد [49] قبض الزكاة ، ثم أعادها إلى أصحابها لما بلغه موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهم من كان يتربص ، ثم هؤلاء الذين قاتلهم الصديق عليها لما قاتلهم صارت العمال الذين كانوا على الصدقات زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يقبضونها ، كما كانوا يقبضونها في زمنه ويصرفونها كما كانوا يصرفونها .

                  وكتب الصديق لمن كان يستعمله كتابا للصدقة فقال : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتي أمر بها " .

                  وبهذا الكتاب ونظائره يأخذ علماء المسلمين كلهم ؛ فلم يأخذ لنفسه منها شيئا ولا ولى أحدا من أقاربه ، لا هو ولا عمر بخلاف عثمان وعلي فإنهما وليا أقاربهما .

                  فإن جاز أن يطعن في الصديق والفاروق أنهما قاتلا لأخذ المال ، فالطعن في غيرهما أوجه فإذا وجب الذب عن عثمان وعلي ، فهو عن أبي بكر وعمر أوجب .

                  وعلي يقاتل ليطاع ويتصرف في النفوس والأموال ، فكيف يجعل هذا [ ص: 330 ] قتالا على الدين ؟ وأبو بكر يقاتل من ارتد عن الإسلام ، ومن ترك ما فرض الله ليطيع الله ورسوله فقط ، ولا يكون هذا قتالا [50] على الدين ؟ .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية