وأما الصديق من أكابر الصحابة فذلك كذب عليهم إلا على الذين عدهم هذا الرافضي أنهم تخلفوا عن بيعة ، فإن مبايعة هؤلاء سعد بن عبادة لأبي بكر أشهر من أن تنكر ، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث والسير والمنقولات وسائر أصناف أهل العلم خلفا عن سلف . وعمر
ما خرج في السرية حتى بايعه ، ولهذا يقول له : " يا خليفة رسول الله " . وأسامة بن زيد
وكذلك جميع من ذكره بايعه ، لكن كان نائبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خالد بن سعيد لا أكون نائبا لغيره " فترك الولاية ، وإلا فهو من المقرين بخلافة ، وقد علم بالتواتر أنه لم يتخلف عن بيعته إلا الصديق . سعد بن عبادة
وأما علي وبنو هاشم فكلهم بايعه باتفاق الناس لم يمت أحد منهم إلا وهو مبايع له .
لكن قيل : [ ] علي [1] تأخرت بيعته ستة أشهر ، وقيل : بل بايعه ثاني يوم ، وبكل حال فقد بايعوه من غير إكراه .
[ ص: 331 ] ثم جميع الناس بايعوا إلا عمر سعدا ، لم يتخلف عن بيعة أحد إلا عمر بنو هاشم ولا غيرهم .
وأما بيعة فاتفق الناس كلهم عليها ، وكان عثمان سعد قد مات في خلافة ، فلم يدركها ، وتخلف عمر سعد قد عرف سببه ؛ فإنه [2] كان يطلب أن يصير أميرا ، ويجعل من المهاجرين أميرا ومن الأنصار أميرا ، وما طلبه [3] سعد لم يكن سائغا بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين .
وإذا ظهر خطأ الواحد المخالف للإجماع ، ثبت أن الإجماع كان صوابا ، وأن ذلك شاذ لا يعتد به ، بخلاف الواحد الذي يظهر حجة شرعية من الكتاب والسنة ، فإن هذا يسوغ خلافة ، وقد يكون الحق معه ويرجع إليه غيره . الواحد الذي عرف خطؤه بالنص
كما كان الحق مع أبي بكر في تجهيز جيش وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك ، حتى تبين صواب رأيه فيما بعد . أسامة
وما ذكره عن أبي قحافة فمن الكذب المتفق عليه ، ولكن أبو قحافة كان بمكة ، وكان شيخا كبيرا أسلم عام الفتح ، أتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأسه ولحيته مثل الثغامة ؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبو بكر " لو أقررت الشيخ مكانه لأتيناه [4] إكراما . وليس [ ص: 332 ] في الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده ، وأدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدركه أيضا بنو أولاده : إلا لأبي بكر من جهة الرجال والنساء . أبو بكر فمحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة هؤلاء الأربعة كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنين ، كلهم أيضا آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبوه وعبد الله بن الزبير بن أسماء بنت أبي بكر وأم أبي بكر أم الخير [5] آمنت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهم أهل بيت إيمان ليس فيهم منافق ، ولا يعرف في الصحابة مثل هذا لغير بيت . أبي بكر
وكان يقال : للإيمان بيوت وللنفاق بيوت فبيت من بيوت الإيمان من أبي بكر المهاجرين ، وبنو النجار من بيوت الإيمان من الأنصار [6] .
وقوله : " إنهم قالوا لأبي قحافة : إن ابنك أكبر الصحابة سنا " كذب ظاهر ، وفي الصحابة خلق كثير أسن من مثل أبي بكر ، فإن العباس كان أسن من النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أسن من العباس . أبي بكر
قال أبو عمر بن عبد البر [7] : " لا يختلفون أنه : يعني - مات وسنه ثلاث وستون سنة ، وأنه استوفى سن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما لا يصح ، لكن المأثور عن أبا بكر أبي قحافة أنه لما توفي النبي - صلى الله عليه [ ص: 333 ] وسلم - ارتجت مكة ، فسمع ذلك أبو قحافة فقال : ما هذا ؟ قالوا : قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أمر جليل ، فمن ولي بعده ؟ قالوا : ابنك ، قال : فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة ؟ ، قالوا : نعم ، قال : لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع " .
وحينئذ فالجواب عن منعه الإجماع من وجوه :
أحدها : أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يتخلف منهم إلا ، وإلا فالبقية كلهم بايعوه باتفاق أهل النقل ، وطائفة من سعد بن عبادة بني هاشم قد قيل : إنها تخلفت عن مبايعته أولا ، ثم بايعته بعد ستة أشهر من غير رهبة ولا رغبة .
والرسالة التي يذكر بعض الكتاب أنه أرسلها إلى كذب مختلق عند أهل العلم ، بل علي أرسل إلى علي أن ائتنا ، فذهب هو إليهم فاعتذر أبي بكر إليه وبايعه . علي
ففي الصحيحين عن قالت عائشة [8] : أرسلت إلى فاطمة - رضي الله عنهما - تسأله ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أفاء الله عليه أبي بكر بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبو بكر " وإنما [ ص: 334 ] يأكل لا نورث ، ما تركناه صدقة آل محمد من هذا المال ، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حالها التي كانت عليه في عهده ، وإني لست تاركا شيئا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به ، وإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ " ، فوجدت على فاطمة فهجرته ، فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها أبي بكر ليلا ولم يؤذن بها علي وصلى عليها أبا بكر . علي
وكان وجه من الناس حياة لعلي ، فلما ماتت استنكر فاطمة وجوه الناس فالتمس مصالحة علي ومبايعته ، ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ، ولا يأتنا معك أحد كراهة محضر أبي بكر ، فقال عمر عمر : والله لا تدخل عليهم وحدك ، فقال لأبي بكر : ما عساهم أن يفعلوا بي ؟ والله لآتينهم فدخل عليهم أبو بكر فتشهد أبو بكر ، ثم قال : إنا قد عرفنا فضيلتك يا علي وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك استبددت بالأمر علينا وكنا نرى أن لنا فيه حقا لقرابتنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبا بكر ؛ فلما تكلم أبي بكر قال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي ، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال أبو بكر [9] فإني لم آل فيها عن الحق ، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه فيها إلا صنعته ، فقال : [ ص: 335 ] علي : موعدك العشية للبيعة ، فلما صلى لأبي بكر الظهر رقى على المنبر وتشهد وذكر شأن أبو بكر وتخلفه عن البيعة ، وعذره الذي اعتذر به ، ثم استغفر وتشهد علي فعظم حق علي ، وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكار للذي فضله الله به ، ولكنا كنا نرى أن لنا في الأمر نصيبا فاستبد علينا به ، فوجدنا في أنفسنا ؛ فسر بذلك المسلمون ، وقالوا : أصبت وكان المسلمون إلى أبي بكر قريبا حين راجع الأمر بالمعروف . علي
ولا ريب أن لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة ؛ فإن الإمامة أمر معين فقد يتخلف الرجل لهوى لا يعلم كتخلف الإجماع المعتبر في الإمامة سعد فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرا من جهة الأنصار ، فلم يحصل له ذلك ، فبقي [10] في نفسه بقية هوى .
ومن ترك الشيء لهوى ، لم يؤثر تركه بخلاف الإجماع على الأحكام العامة كالإيجاب والتحريم والإباحة ؛ فإن هذا لو خالف فيه الواحد ، أو الاثنان فهل يعتد بخلافهما ؟ فيه قولان للعلماء . وذكر عن في ذلك روايتان : إحداهما : لا يعتد بخلاف الواحد والاثنين ، وهو قول طائفة أحمد كمحمد بن جرير الطبري ، والثاني : يعتد بخلاف الواحد والاثنين في الأحكام وهو قول الأكثرين ، والفرق بينه وبين الإمامة أن الحكم أمر عام يتناول هذا وهذا ، فإن القائل بوجوب الشيء يوجبه على [ ص: 336 ] نفسه وعلى غيره والقائل بتحريمه يحرمه على نفسه وعلى غيره ، فالمنازع فيه ليس متهما ؛ ولهذا تقبل رواية الرجل للحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القصة وإن كان خصما فيها ؛ لأن الحديث عام يتناولها ويتناول غيرها ، وإن كان المحدث اليوم محكوما له بالحديث فغدا يكون محكوما عليه بخلاف شهادته لنفسه فإنها لا تقبل ; لأنه خصم ، والخصم لا يكون شاهدا .
فالإجماع على إمامة المعين ليس حكما على أمر عام كلي ، كالأحكام على أمر خاص معين .
وأيضا فالواحد إذا خالف النص المعلوم ، كان خلافه شاذا كخلاف في أن المطلقة ثلاثا إذا نكحت زوجا غيره أبيحت للأول بمجرد العقد ، فإن هذا لما جاءت السنة الصحيحة بخلافه لم يعتد به . سعيد بن المسيب
وسعد كان مراده أن يولوا رجلا من الأنصار ، وقد دلت النصوص الكثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قريش فلو كان المخالف قرشيا واستقر خلافه لكان شبهة ، بل أن الإمام من كان من علي قريش ، وقد تواتر أنه بايع طائعا مختارا . الصديق
الثاني : أنه لو فرض خلاف هؤلاء الذين ذكرهم وبقدرهم مرتين لم يقدح ذلك في ثبوت الخلافة ، فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة .
[ ص: 337 ] ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " [11] الجماعة " عليكم بالجماعة ، فإن يد الله مع [12] .
وقال : " [13] أبعد " إن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين [14] " .
[ ص: 338 ] وقال : " " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم ، والذئب إنما يأخذ القاصية [15] .
وقال : " " عليكم بالسواد الأعظم ، ومن شذ شذ في النار [16] .
الثالث : أن يقال أبي بكر كان أعظم من اجتماعهم على مبايعة إجماع الأمة على خلافة ، فإن ثلث الأمة - أو أقل أو أكثر - لم يبايعوا علي ، بل قاتلوه والثلث الآخر لم يقاتلوا معه وفيهم من لم يبايعه أيضا ؛ والذين عليا [17] لم يبايعوه منهم من قاتلهم ، ومنهم من لم يقاتلهم ، فإن جاز القدح في الإمامة بتخلف بعض الأمة عن البيعة كان القدح في إمامة أولى بكثير . علي
[ ص: 339 ] وإن قيل : جمهور الأمة لم تقاتله ، أو قيل بايعه أهل الشوكة والجمهور ، أو نحو ذلك كان هذا في حق أولى وأحرى . أبي بكر
وإذا قالت الرافضة : إمامة ثبتت بالنص فلا يحتاج إلى الإجماع والمبايعة .
قيل : النصوص إنما دلت على خلافة ، لا على خلافة أبي بكر ، كما تقدم التنبيه عليه ، وكما سنذكره إن شاء الله تعالى ونبين أن النصوص دلت على خلافة علي ، وعلى أن أبي بكر الصديق لم يكن هو الخليفة في زمن الخلفاء الثلاثة ؛ فخلافة عليا لا تحتاج إلى الإجماع ؛ بل النصوص دالة على صحتها وعلى انتفاء ما يناقضها . أبي بكر
الرابع : أن يقال : الكلام في إمامة إما أن يكون في وجودها وإما أن يكون في استحقاقه لها ، أما الأول فهو معلوم بالتواتر واتفاق الناس بأنه تولى الأمر وقام مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه في أمته وأقام الحدود واستوفى الحقوق وقاتل الكفار والمرتدين وولى الأعمال وقسم الأموال وفعل جميع ما يفعل الصديق [18] الإمام ، بل هو أول [19] من باشر الإمامة في الأمة .
وأما إن أريد بإمامته كونه مستحقا لذلك ، فهذا عليه أدلة كثيرة غير الإجماع ، فلا طريق يثبت بها كون علي مستحقا للإمامة إلا وتلك الطريق يثبت بها أن مستحق للإمامة ، وأنه أحق للإمامة أبا بكر [20] من [ ص: 340 ] وغيره ؛ وحينئذ فالإجماع لا يحتاج إليه في الأولى ولا في الثانية ، وإن كان الإجماع حاصلا . علي