الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما الذين عدهم هذا الرافضي أنهم تخلفوا عن بيعة الصديق من أكابر الصحابة فذلك كذب عليهم إلا على سعد بن عبادة ، فإن مبايعة هؤلاء لأبي بكر وعمر أشهر من أن تنكر ، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث والسير والمنقولات وسائر أصناف أهل العلم خلفا عن سلف .

                  وأسامة بن زيد ما خرج في السرية حتى بايعه ، ولهذا يقول له : " يا خليفة رسول الله " .

                  وكذلك جميع من ذكره بايعه ، لكن خالد بن سعيد كان نائبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا أكون نائبا لغيره " فترك الولاية ، وإلا فهو من المقرين بخلافة الصديق ، وقد علم بالتواتر أنه لم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة .

                  وأما علي وبنو هاشم فكلهم بايعه باتفاق الناس لم يمت أحد منهم إلا وهو مبايع له .

                  لكن قيل : [ علي ] [1] تأخرت بيعته ستة أشهر ، وقيل : بل بايعه ثاني يوم ، وبكل حال فقد بايعوه من غير إكراه .

                  [ ص: 331 ] ثم جميع الناس بايعوا عمر إلا سعدا ، لم يتخلف عن بيعة عمر أحد إلا بنو هاشم ولا غيرهم .

                  وأما بيعة عثمان فاتفق الناس كلهم عليها ، وكان سعد قد مات في خلافة عمر ، فلم يدركها ، وتخلف سعد قد عرف سببه ؛ فإنه [2] كان يطلب أن يصير أميرا ، ويجعل من المهاجرين أميرا ومن الأنصار أميرا ، وما طلبه [3] سعد لم يكن سائغا بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين .

                  وإذا ظهر خطأ الواحد المخالف للإجماع ، ثبت أن الإجماع كان صوابا ، وأن ذلك الواحد الذي عرف خطؤه بالنص شاذ لا يعتد به ، بخلاف الواحد الذي يظهر حجة شرعية من الكتاب والسنة ، فإن هذا يسوغ خلافة ، وقد يكون الحق معه ويرجع إليه غيره .

                  كما كان الحق مع أبي بكر في تجهيز جيش أسامة وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك ، حتى تبين صواب رأيه فيما بعد .

                  وما ذكره عن أبي قحافة فمن الكذب المتفق عليه ، ولكن أبو قحافة كان بمكة ، وكان شيخا كبيرا أسلم عام الفتح ، أتى به أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأسه ولحيته مثل الثغامة ؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لو أقررت الشيخ مكانه لأتيناه " [4] إكراما لأبي بكر . وليس [ ص: 332 ] في الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده ، وأدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدركه أيضا بنو أولاده : إلا أبو بكر من جهة الرجال والنساء . فمحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة هؤلاء الأربعة كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنين ، وعبد الله بن الزبير بن أسماء بنت أبي بكر كلهم أيضا آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبوه وأم أبي بكر أم الخير [5] آمنت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهم أهل بيت إيمان ليس فيهم منافق ، ولا يعرف في الصحابة مثل هذا لغير بيت أبي بكر .

                  وكان يقال : للإيمان بيوت وللنفاق بيوت فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين ، وبنو النجار من بيوت الإيمان من الأنصار [6] .

                  وقوله : " إنهم قالوا لأبي قحافة : إن ابنك أكبر الصحابة سنا " كذب ظاهر ، وفي الصحابة خلق كثير أسن من أبي بكر مثل العباس ، فإن العباس كان أسن من النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أسن من أبي بكر .

                  قال أبو عمر بن عبد البر [7] : " لا يختلفون أنه : يعني أبا بكر - مات وسنه ثلاث وستون سنة ، وأنه استوفى سن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما لا يصح ، لكن المأثور عن أبي قحافة أنه لما توفي النبي - صلى الله عليه [ ص: 333 ] وسلم - ارتجت مكة ، فسمع ذلك أبو قحافة فقال : ما هذا ؟ قالوا : قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أمر جليل ، فمن ولي بعده ؟ قالوا : ابنك ، قال : فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة ؟ ، قالوا : نعم ، قال : لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع " .

                  وحينئذ فالجواب عن منعه الإجماع من وجوه :

                  أحدها : أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يتخلف منهم إلا سعد بن عبادة ، وإلا فالبقية كلهم بايعوه باتفاق أهل النقل ، وطائفة من بني هاشم قد قيل : إنها تخلفت عن مبايعته أولا ، ثم بايعته بعد ستة أشهر من غير رهبة ولا رغبة .

                  والرسالة التي يذكر بعض الكتاب أنه أرسلها إلى علي كذب مختلق عند أهل العلم ، بل علي أرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ، فذهب هو إليهم فاعتذر علي إليه وبايعه .

                  ففي الصحيحين عن عائشة قالت [8] : أرسلت فاطمة إلى أبي بكر - رضي الله عنهما - تسأله ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نورث ، ما تركناه صدقة " وإنما [ ص: 334 ] يأكل آل محمد من هذا المال ، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حالها التي كانت عليه في عهده ، وإني لست تاركا شيئا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به ، وإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ " ، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته ، فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها علي .

                  وكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة ، فلما ماتت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ، ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ، ولا يأتنا معك أحد كراهة محضر عمر ، فقال عمر لأبي بكر : والله لا تدخل عليهم وحدك ، فقال أبو بكر : ما عساهم أن يفعلوا بي ؟ والله لآتينهم فدخل عليهم أبو بكر فتشهد علي ، ثم قال : إنا قد عرفنا فضيلتك يا أبا بكر وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك استبددت بالأمر علينا وكنا نرى أن لنا فيه حقا لقرابتنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر ؛ فلما تكلم أبو بكر قال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي ، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال [9] فإني لم آل فيها عن الحق ، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه فيها إلا صنعته ، فقال : علي [ ص: 335 ] لأبي بكر : موعدك العشية للبيعة ، فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر وتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة ، وعذره الذي اعتذر به ، ثم استغفر وتشهد علي فعظم حق أبي بكر ، وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكار للذي فضله الله به ، ولكنا كنا نرى أن لنا في الأمر نصيبا فاستبد علينا به ، فوجدنا في أنفسنا ؛ فسر بذلك المسلمون ، وقالوا : أصبت وكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر بالمعروف .

                  ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة ؛ فإن الإمامة أمر معين فقد يتخلف الرجل لهوى لا يعلم كتخلف سعد فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرا من جهة الأنصار ، فلم يحصل له ذلك ، فبقي [10] في نفسه بقية هوى .

                  ومن ترك الشيء لهوى ، لم يؤثر تركه بخلاف الإجماع على الأحكام العامة كالإيجاب والتحريم والإباحة ؛ فإن هذا لو خالف فيه الواحد ، أو الاثنان فهل يعتد بخلافهما ؟ فيه قولان للعلماء . وذكر عن أحمد في ذلك روايتان : إحداهما : لا يعتد بخلاف الواحد والاثنين ، وهو قول طائفة كمحمد بن جرير الطبري ، والثاني : يعتد بخلاف الواحد والاثنين في الأحكام وهو قول الأكثرين ، والفرق بينه وبين الإمامة أن الحكم أمر عام يتناول هذا وهذا ، فإن القائل بوجوب الشيء يوجبه على [ ص: 336 ] نفسه وعلى غيره والقائل بتحريمه يحرمه على نفسه وعلى غيره ، فالمنازع فيه ليس متهما ؛ ولهذا تقبل رواية الرجل للحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القصة وإن كان خصما فيها ؛ لأن الحديث عام يتناولها ويتناول غيرها ، وإن كان المحدث اليوم محكوما له بالحديث فغدا يكون محكوما عليه بخلاف شهادته لنفسه فإنها لا تقبل ; لأنه خصم ، والخصم لا يكون شاهدا .

                  فالإجماع على إمامة المعين ليس حكما على أمر عام كلي ، كالأحكام على أمر خاص معين .

                  وأيضا فالواحد إذا خالف النص المعلوم ، كان خلافه شاذا كخلاف سعيد بن المسيب في أن المطلقة ثلاثا إذا نكحت زوجا غيره أبيحت للأول بمجرد العقد ، فإن هذا لما جاءت السنة الصحيحة بخلافه لم يعتد به .

                  وسعد كان مراده أن يولوا رجلا من الأنصار ، وقد دلت النصوص الكثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإمام من قريش فلو كان المخالف قرشيا واستقر خلافه لكان شبهة ، بل علي كان من قريش ، وقد تواتر أنه بايع الصديق طائعا مختارا .

                  الثاني : أنه لو فرض خلاف هؤلاء الذين ذكرهم وبقدرهم مرتين لم يقدح ذلك في ثبوت الخلافة ، فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة .

                  [ ص: 337 ] ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عليكم بالجماعة ، فإن يد الله مع [11] الجماعة " [12] .

                  وقال : " إن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين [13] أبعد " [14] " .

                  [ ص: 338 ] وقال : " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم ، والذئب إنما يأخذ القاصية " [15] .

                  وقال : " عليكم بالسواد الأعظم ، ومن شذ شذ في النار " [16] .

                  الثالث : أن يقال إجماع الأمة على خلافة أبي بكر كان أعظم من اجتماعهم على مبايعة علي ، فإن ثلث الأمة - أو أقل أو أكثر - لم يبايعوا عليا ، بل قاتلوه والثلث الآخر لم يقاتلوا معه وفيهم من لم يبايعه أيضا ؛ والذين [17] لم يبايعوه منهم من قاتلهم ، ومنهم من لم يقاتلهم ، فإن جاز القدح في الإمامة بتخلف بعض الأمة عن البيعة كان القدح في إمامة علي أولى بكثير .

                  [ ص: 339 ] وإن قيل : جمهور الأمة لم تقاتله ، أو قيل بايعه أهل الشوكة والجمهور ، أو نحو ذلك كان هذا في حق أبي بكر أولى وأحرى .

                  وإذا قالت الرافضة : إمامة ثبتت بالنص فلا يحتاج إلى الإجماع والمبايعة .

                  قيل : النصوص إنما دلت على خلافة أبي بكر ، لا على خلافة علي ، كما تقدم التنبيه عليه ، وكما سنذكره إن شاء الله تعالى ونبين أن النصوص دلت على خلافة أبي بكر الصديق ، وعلى أن عليا لم يكن هو الخليفة في زمن الخلفاء الثلاثة ؛ فخلافة أبي بكر لا تحتاج إلى الإجماع ؛ بل النصوص دالة على صحتها وعلى انتفاء ما يناقضها .

                  الرابع : أن يقال : الكلام في إمامة الصديق إما أن يكون في وجودها وإما أن يكون في استحقاقه لها ، أما الأول فهو معلوم بالتواتر واتفاق الناس بأنه تولى الأمر وقام مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه في أمته وأقام الحدود واستوفى الحقوق وقاتل الكفار والمرتدين وولى الأعمال وقسم الأموال وفعل جميع ما يفعل [18] الإمام ، بل هو أول [19] من باشر الإمامة في الأمة .

                  وأما إن أريد بإمامته كونه مستحقا لذلك ، فهذا عليه أدلة كثيرة غير الإجماع ، فلا طريق يثبت بها كون علي مستحقا للإمامة إلا وتلك الطريق يثبت بها أن أبا بكر مستحق للإمامة ، وأنه أحق للإمامة [20] من علي [ ص: 340 ] وغيره ؛ وحينئذ فالإجماع لا يحتاج إليه في الأولى ولا في الثانية ، وإن كان الإجماع حاصلا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية