الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وقوله : " يشهدون ولا يستشهدون " حمله طائفة من العلماء على مطلق الشهادة حتى كرهوا أن يشهد الرجل بحق قبل أن يطلب منه المشهود له إذا علم الشهادة وجمعوا بذلك بين هذا وبين قوله : " ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها " [1] .

                  وقال طائفة أخرى : إنما المراد ذمهم على الكذب ، أي يشهدون [ ص: 386 ] بالكذب كما ذمهم على الخيانة وترك الوفاء ؛ فإن هذه [ من ] [2] آيات النفاق التي ذكرناها في قوله : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " أخرجاه في الصحيحين [3] .

                  وأما الشهادة بالحق إذا أداها الشاهد لمن علم أنه محتاج إليها ، ولم يسأله ذلك فقد قام بالقسط وأدى الواجب قبل أن يسأله ، وهو أفضل ممن لا يؤديه إلا بالسؤال كمن له عند غيره أمانة ، فأداها قبل أن يسأله أداءها حيث يحتاج إليها صاحبها وهذا أفضل من أن يحوج صاحبها إلى ذل السؤال ، وهذا أظهر القولين .

                  وهذا يشبه اختلاف الفقهاء في الخصم إذا ادعى ولم يسأل الحاكم سؤال المدعى عليه هل يسأله الجواب ؟ والصحيح أنه يسأله الجواب [4] ولا يحتاج ذلك إلى سؤال المدعى ، لأن دلالة الحال تغني عن السؤال .

                  ففي الحديث الأول : " هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " ، ثم قال : " هل فيكم [ من رأى ] [5] من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " ، فدل على أن الرائي هو الصاحب ، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال [6] : " هل فيكم من رأى من صحب [ من صحب رسول الله ؟ ] [7] " ، ثم يكون المراد بالصاحب الرائي .

                  [ ص: 387 ] وفي الرواية الثانية : " هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ * ثم يقال في الثالثة : " هل فيكم من رأى [ من رأى ] [8] أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . * [9]

                  ومعلوم إن كان [10] الحكم لصاحب الصاحب معلقا [11] بالرؤية [12] ؛ ففي الذي صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى والأحرى .

                  ولفظ البخاري قال فيها كلها : " صحب " وهذه الألفاظ إن [13] كانت كلها من ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي نص في المسألة ؛ وإن كان قد قال بعضها والراوي مثل أبي سعيد يروي اللفظ بالمعنى ؛ فقد دل على أن معنى أحد اللفظين عندهم هو معنى الآخر ، وهم أعلم بمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                  وأيضا فإن كان لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ( رأى ) فقد حصل المقصود وإن كان لفظه " صحب " في طبقة أو طبقات ؛ فإن لم يرد به الرؤية لم يكن قد بين مراده ؛ فإن الصحبة اسم جنس ليس لها حد في الشرع ولا في اللغة ، والعرف فيها مختلف .

                  والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدرها بقدر ؛ بل علق [14] الحكم بمطلقها ، ولا مطلق لها إلا الرؤية .

                  [ ص: 388 ] وأيضا فإنه يقال : صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرا فتقع على القليل والكثير فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل ؛ بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال .

                  ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال : قد صحبه ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به [15] ، ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار والمنافقين فإنهم لم يروه رؤية من قصده لأن يؤمن به ، ويكون من أتباعه وأعوانه المصدقين له ، فيما أخبر [16] المطيعين له فيما أمر الموالين له المعادين لمن عاداه الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم وكل شيء .

                  وامتاز [17] [ أبو بكر ] عن سائر [18] المؤمنين بأن رآه وهذه حاله معه فكان صاحبا له بهذا الاعتبار .

                  ودليل ثان ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " وددت أني رأيت إخواني " قالوا : يا رسول الله أولسنا إخوانك قال : " بل أنتم أصحابي ، وإخواني الذين يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني " [19] .

                  [ ص: 389 ] ومعلوم أن قوله : " إخواني " أراد به : إخواني الذين ليسوا بأصحابي [20] ، وأما أنتم فلكم مزية الصحبة [21] ، ثم قال : " قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني " ؛ فجعل هذا حدا فاصلا بين إخوانه الذين ود أن يراهم وبين أصحابه ؛ فدل على أن من آمن به ورآه ، فهو من أصحابه  [22] لا من هؤلاء الإخوان الذين لم يرهم ولم يروه .

                  فإذا عرف أن الصحبة اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها ، وأدناها أن يصحبه زمنا قليلا فمعلوم أن الصديق في ذروة سنام الصحبة  ، وأعلى مراتبها فإنه صحبه من حين بعثه [23] الله إلى أن مات ، وقد أجمع الناس على أنه أول من آمن به من الرجال  الأحرار ، كما أجمعوا على أن أول من آمن به من النساء   خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة ، وتنازعوا في أول من نطق بالإسلام بعد خديجة ، فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي فقد ثبت أنه أسبق صحبة كما كان أسبق إيمانا ، وإن كان علي أسلم قبله فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أكمل وأنفع له من صحبة علي ونحوه ؛ فإنه شاركه في الدعوة فأسلم على يديه أكابر أهل الشورى [24] ، كعثمان وطلحة والزبير [ ص: 390 ] وسعد وعبد الرحمن ، وكان يدفع عنه من يؤذيه ، ويخرج معه إلى القبائل ويعينه في الدعوة ، وكان يشتري المعذبين في الله كبلال وعمار وغيرهما فإنه اشترى سبعة من المعذبين في الله ، فكان أنفع الناس له في صحبته مطلقا .

                  ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة   [ من وجوه ] [25] : أحدها : أنه كان أدوم اجتماعا به ليلا ونهارا وسفرا وحضرا كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : " لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمض علينا يوم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتينا فيه طرفي النهار " [26] .

                  فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر يذهب إلى أبي بكر طرفي النهار ، والإسلام إذا ذاك ضعيف والأعداء كثيرة ، وهذا غاية الفضيلة والاختصاص في الصحبة .

                  وأيضا فكان أبو بكر يسمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه .

                  وأيضا فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى وربما تكلم غيره ، وربما لم يتكلم غيره فيعمل برأيه وحده فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه .

                  [ ص: 391 ] فالأول كما في الصحيحين أنه شاور أصحابه في أسارى بدر فتكلم أبو بكر فروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : لما أسر الأسارى يوم بدر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر : " ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ " فقال أبو بكر : هم بنو العم والعشيرة ، فأرى أن تقبل منهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فقال عمر : لا والله يا رسول الله ما أرى ما رأى أبو بكر ؛ ولكن أن تمكننا فنضرب أعناقهم : تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه . وأشار ابن رواحة بتحريفهم فاختلف أصحابه ، فمنهم من يقول : الرأي ما رأى أبو بكر ومنهم من يقول : الرأي ما رأى عمر ، ومنهم من يقول : الرأي ما رأى ابن رواحة ، قال : فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت . وذكر تمام الحديث [27] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية