وقوله : " يشهدون ولا يستشهدون " حمله طائفة من العلماء على مطلق الشهادة حتى كرهوا أن يشهد الرجل بحق قبل أن يطلب منه المشهود له إذا علم الشهادة وجمعوا بذلك بين هذا وبين قوله : " " ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها [1] .
وقال طائفة أخرى : إنما المراد ذمهم على الكذب ، أي يشهدون [ ص: 386 ] بالكذب كما ذمهم على الخيانة وترك الوفاء ؛ فإن هذه [ من ] [2] آيات النفاق التي ذكرناها في قوله : " " أخرجاه في الصحيحين آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان [3] .
وأما الشهادة بالحق إذا أداها الشاهد لمن علم أنه محتاج إليها ، ولم يسأله ذلك فقد قام بالقسط وأدى الواجب قبل أن يسأله ، وهو أفضل ممن لا يؤديه إلا بالسؤال كمن له عند غيره أمانة ، فأداها قبل أن يسأله أداءها حيث يحتاج إليها صاحبها وهذا أفضل من أن يحوج صاحبها إلى ذل السؤال ، وهذا أظهر القولين .
وهذا يشبه اختلاف الفقهاء في الخصم إذا ادعى ولم يسأل الحاكم سؤال المدعى عليه هل يسأله الجواب ؟ والصحيح أنه يسأله الجواب [4] ولا يحتاج ذلك إلى سؤال المدعى ، لأن دلالة الحال تغني عن السؤال .
ففي الحديث الأول : " [5] من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " ، فدل على أن الرائي هو الصاحب ، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " ، ثم قال : " هل فيكم [ من رأى ] [6] : " هل فيكم من رأى من صحب [ من صحب رسول الله ؟ ] [7] " ، ثم يكون المراد بالصاحب الرائي .
[ ص: 387 ] وفي الرواية الثانية : " [8] أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . * هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ * ثم يقال في الثالثة : " هل فيكم من رأى [ من رأى ] [9]
ومعلوم إن كان [10] الحكم لصاحب الصاحب معلقا [11] بالرؤية [12] ؛ ففي الذي صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى والأحرى .
ولفظ قال فيها كلها : " صحب " وهذه الألفاظ إن البخاري [13] كانت كلها من ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي نص في المسألة ؛ وإن كان قد قال بعضها والراوي مثل يروي اللفظ بالمعنى ؛ فقد دل على أن معنى أحد اللفظين عندهم هو معنى الآخر ، وهم أعلم بمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أبي سعيد
وأيضا فإن كان لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ( رأى ) فقد حصل المقصود وإن كان لفظه " صحب " في طبقة أو طبقات ؛ فإن لم يرد به الرؤية لم يكن قد بين مراده ؛ فإن الصحبة اسم جنس ليس لها حد في الشرع ولا في اللغة ، والعرف فيها مختلف .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدرها بقدر ؛ بل علق [14] الحكم بمطلقها ، ولا مطلق لها إلا الرؤية .
[ ص: 388 ] وأيضا فإنه يقال : صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرا فتقع على القليل والكثير فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل ؛ بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال .
ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال : قد صحبه ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به [15] ، ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار والمنافقين فإنهم لم يروه رؤية من قصده لأن يؤمن به ، ويكون من أتباعه وأعوانه المصدقين له ، فيما أخبر [16] المطيعين له فيما أمر الموالين له المعادين لمن عاداه الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم وكل شيء .
وامتاز [17] [ أبو بكر ] عن سائر [18] المؤمنين بأن رآه وهذه حاله معه فكان صاحبا له بهذا الاعتبار .
ودليل ثان ما ثبت في الصحيحين عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أبي هريرة " وددت أني رأيت إخواني " قالوا : يا رسول الله أولسنا إخوانك قال : " بل أنتم أصحابي ، وإخواني الذين يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني [19] .
[ ص: 389 ] ومعلوم أن قوله : " إخواني " أراد به : إخواني الذين ليسوا بأصحابي [20] ، وأما أنتم فلكم مزية الصحبة [21] ، ثم قال : " " ؛ فجعل هذا حدا فاصلا بين إخوانه الذين ود أن يراهم وبين أصحابه ؛ فدل على قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني أن من آمن به ورآه ، فهو من أصحابه [22] لا من هؤلاء الإخوان الذين لم يرهم ولم يروه .
فإذا عرف أن الصحبة اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها ، وأدناها أن يصحبه زمنا قليلا فمعلوم أن ، وأعلى مراتبها فإنه صحبه من حين بعثه الصديق في ذروة سنام الصحبة [23] الله إلى أن مات ، وقد أجمع الناس على أنه الأحرار ، كما أجمعوا على أن أول من آمن به من الرجال أول من آمن به من النساء ومن الصبيان خديجة ومن الموالي علي ، وتنازعوا في أول من نطق بالإسلام بعد زيد بن حارثة ، فإن كان خديجة أسلم قبل أبو بكر فقد ثبت أنه أسبق صحبة كما كان أسبق إيمانا ، وإن كان علي أسلم قبله فلا ريب أن صحبة علي للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أكمل وأنفع له من صحبة أبي بكر ونحوه ؛ فإنه شاركه في الدعوة فأسلم على يديه أكابر أهل الشورى علي [24] ، كعثمان وطلحة [ ص: 390 ] والزبير وسعد وعبد الرحمن ، وكان يدفع عنه من يؤذيه ، ويخرج معه إلى القبائل ويعينه في الدعوة ، وكان يشتري المعذبين في الله كبلال وغيرهما فإنه اشترى سبعة من المعذبين في الله ، فكان أنفع الناس له في صحبته مطلقا . وعمار
ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة أبي بكر [ من وجوه ] مصاحبة [25] : أحدها : أنه كان أدوم اجتماعا به ليلا ونهارا وسفرا وحضرا كما في الصحيحين عن أنها قالت : " عائشة " لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمض علينا يوم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتينا فيه طرفي النهار [26] .
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر يذهب إلى طرفي النهار ، والإسلام إذا ذاك ضعيف والأعداء كثيرة ، وهذا غاية الفضيلة والاختصاص في الصحبة . أبي بكر
وأيضا فكان يسمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه . أبو بكر
وأيضا فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استشار أصحابه أول من يتكلم في الشورى وربما تكلم غيره ، وربما لم يتكلم غيره فيعمل برأيه وحده فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه . أبو بكر
[ ص: 391 ] فالأول كما في الصحيحين أنه شاور أصحابه في أسارى بدر فتكلم فروى أبو بكر في صحيحه عن مسلم قال : ابن عباس بدر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر : " ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ " فقال وعمر : هم بنو العم والعشيرة ، فأرى أن تقبل منهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فقال أبو بكر : لا والله يا رسول الله ما أرى ما رأى عمر ؛ ولكن أن تمكننا فنضرب أعناقهم : تمكن أبو بكر من عليا عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن من حمزة فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - قريب العباس - فأضرب عنقه . وأشار لعمر بتحريفهم فاختلف أصحابه ، فمنهم من يقول : الرأي ما رأى ابن رواحة ومنهم من يقول : الرأي ما رأى أبو بكر ، ومنهم من يقول : الرأي ما رأى عمر ، قال : فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال ابن رواحة ولم يهو ما قلت أبو بكر . وذكر تمام الحديث لما أسر الأسارى يوم [27] .