فصل .
قول الرافضي : " إن الآية تدل على خوره وقلة صبره ، وعدم يقينه بالله ، وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره " .
[ ص: 457 ] فهذا كله كذب منه ظاهر ، ليس في الآية ما يدل على هذا وذلك من وجهين :
أحدهما : أن النهي عن الشيء [1] لا يدل على وقوعه ، بل يدل على أنه ممنوع منه لئلا يقع فيما بعد كقوله تعالى : ( ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ) [ سورة الأحزاب : 1 ] ، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم .
وكذلك قوله : ( ولا تدع مع الله إلها آخر ) [ سورة القصص : 88 ] ، ( 2 أو ( لا تجعل مع الله إلها آخر ) 2 ) [2] [ سورة الإسراء : 22 ] فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مشركا قط لا سيما بعد النبوة ، وقد نهي عن ذلك بعد النبوة ونظائره كثيرة فقوله لا تحزن لا يدل على أن فالأمة متفقة على أنه معصوم من الشرك بعد النبوة كان الصديق [3] قد حزن ، لكن من الممكن في العقل أنه يحزن فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله .
الثاني : أنه بتقدير أن يكون حزن على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب [4] الإسلام ، وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " " رواه أذكر الرصد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون وراءك [ ص: 458 ] في كتاب " مناقب الصحابة " فقال أحمد [5] : حدثنا عن وكيع نافع عن عن ابن عمر ، قال : ابن أبي مليكة لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه فأخذ أبو بكر [6] طريق ثور ، قال : فجعل يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما لك ؟ قال : يا رسول الله أخاف أن تؤتى من خلفك فأتأخر ، وأخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم ، قال : فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر : يا رسول الله كما أنت حتى أقمه أبو بكر [7] ، قال نافع : حدثني رجل عن ابن أبي مليكة رأى جحرا في الغار فألقمها قدمه ، وقال يا رسول الله إن كانت لسعة ، أو لدغة كانت بي أبا بكر " . أن
وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفتري عليه أنه لم يرض بأن يموتا جميعا ، بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو [8] ، بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله .
وهذا واجب على كل مؤمن أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى : ( والصديق النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) [ سورة الأحزاب : 6 ] وفي الصحيحين عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنس " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين [9] .
[ ص: 459 ] وحزنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ، وهذا من أعظم الإيمان وإن كان مع ذلك يحصل له بالحزن نوع ضعف ، فهذا يدل على أن الاتصاف بهذه الصفات مع عدم الحزن هو المأمور به ، فإن مجرد الحزن لا فائدة فيه ولا يدل ذلك على أن هذا ذنب يذم به كمال موالاته ومحبته ، ونصحه له واحتراسه عليه وذبه عنه ودفع الأذى عنه [10] ، فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول أعظم من حزن الإنسان على ابنه ، فإن . محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه
ومع هذا فقد أخبر الله عن يعقوب أنه حزن على ابنه يوسف وقال : ( ياأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) الآية [ سورة يوسف : 84 - 86 ] ، فهذا إسرائيل نبي كريم قد حزن على ابنه هذا الحزن ، ولم يكن هذا مما يسب عليه ، فكيف يسب إذا حزن على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا أن يقتل ، وهو الذي علقت به سعادة الدنيا والآخرة ؟ ! . أبو بكر
ثم إن هؤلاء الشيعة - وغيرهم - يحكون عن من حزنها على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يوصف ، وأنها بنت بيت الأحزان ، ولا يجعلون ذلك ذما لها مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود فاطمة إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل وهو حزن يتضمن الاحتراس ، ولهذا لما مات لم يحزن هذا الحزن لأنه لا فائدة فيه فحزن وأبو بكر بلا ريب [ ص: 460 ] أكمل من حزن أبي بكر ، فإن كان مذموما على حزنه ، فاطمة أولى بذلك وإلا ففاطمة أحق بأن لا يذم على حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم من حزن غيره عليه بعد موته . فأبو بكر
وإن قيل : إنما حزن على نفسه لا يقتله الكفار . أبو بكر
قيل : فهذا يناقض قولكم إنه كان عدوه ، وكان استصحبه لئلا يظهر أمره .
وقيل : هذا باطل بما علم بالتواتر من حال مع النبي صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه الله على المؤمنين . أبي بكر
ثم يقال هب أن حزنه كان عليه ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أفيستحق أن يشتم على ذلك ، ولو قدر أنه حزن خوفا أن يقتله عدوه لم يكن هذا مما يستحق به هذا السب .
ثم إن قدر أن ذلك ذنب فلم يصبر عنه ، بل لما نهاه عنه انتهى فقد نهى الله تعالى الأنبياء عن أمور كثيرة انتهوا عنها ، ولم يكونوا مذمومين بما فعلوه قبل النهي .
وأيضا فهؤلاء ينقلون عن علي من الجزع والحزن على فوت مال فدك وغيرها من الميراث ما يقتضي أن صاحبه إنما يحزن على فوت الدنيا وقد قال تعالى : ( وفاطمة لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) [ سورة الحديد : 23 ] فقد دعا الناس إلى أن لا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا ، ومعلوم أن الحزن على الدنيا أولى بأن ينهى عنه من الحزن على الدين .
[ ص: 461 ] وإن قدر أنه حزن على الدنيا ، فحزن الإنسان على نفسه خوفا أن يقتل أولى أن يعذر به من حزنه على مال لم يحصل له .
الرافضة من أجهل الناس يذكرون فيمن يوالونه من أخبار المدح ، وفيمن يعادونه من أخبار الذم ما هو بالعكس أولى فلا تجدهم يذمون وأمثاله بأمر إلا ولو كان ذلك الأمر ذما لكان أبا بكر أولى بذلك ، ولا يمدحون علي بمدح يستحق أن يكون مدحا إلا عليا أولى بذلك فإنه أكمل في الممادح كلها ، وأبرأ من المذام كلها : حقيقيها وأبو بكر [11] وخياليها . وهؤلاء