الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل .

                  قول الرافضي : " إن الآية تدل على خوره وقلة صبره ، وعدم يقينه بالله ، وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره " .

                  [ ص: 457 ] فهذا كله كذب منه ظاهر ، ليس في الآية ما يدل على هذا وذلك من وجهين :

                  أحدهما : أن النهي عن الشيء [1] لا يدل على وقوعه ، بل يدل على أنه ممنوع منه لئلا يقع فيما بعد كقوله تعالى : ( ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ) [ سورة الأحزاب : 1 ] ، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم .

                  وكذلك قوله : ( ولا تدع مع الله إلها آخر ) [ سورة القصص : 88 ] ، ( 2 أو ( لا تجعل مع الله إلها آخر ) 2 ) [2] [ سورة الإسراء : 22 ] فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مشركا قط لا سيما بعد النبوة فالأمة متفقة على أنه معصوم من الشرك بعد النبوة ، وقد نهي عن ذلك بعد النبوة ونظائره كثيرة فقوله لا تحزن لا يدل على أن الصديق كان [3] قد حزن ، لكن من الممكن في العقل أنه يحزن فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله .

                  الثاني : أنه بتقدير أن يكون حزن على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب [4] الإسلام ، وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " أذكر الرصد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون وراءك " رواه أحمد [ ص: 458 ] في كتاب " مناقب الصحابة " فقال [5] : حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة ، قال : لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه أبو بكر فأخذ [6] طريق ثور ، قال : فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما لك ؟ قال : يا رسول الله أخاف أن تؤتى من خلفك فأتأخر ، وأخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم ، قال : فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر : يا رسول الله كما أنت حتى أقمه [7] ، قال نافع : حدثني رجل عن ابن أبي مليكة أن أبا بكر رأى جحرا في الغار فألقمها قدمه ، وقال يا رسول الله إن كانت لسعة ، أو لدغة كانت بي " .

                  وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفتري عليه أنه لم يرض بأن يموتا جميعا ، بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو [8] ، بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله .

                  وهذا واجب على كل مؤمن والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) [ سورة الأحزاب : 6 ] وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " [9] .

                  [ ص: 459 ] وحزنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته ، ونصحه له واحتراسه عليه وذبه عنه ودفع الأذى عنه ، وهذا من أعظم الإيمان وإن كان مع ذلك يحصل له بالحزن نوع ضعف ، فهذا يدل على أن الاتصاف بهذه الصفات مع عدم الحزن هو المأمور به ، فإن مجرد الحزن لا فائدة فيه ولا يدل ذلك على أن هذا ذنب يذم به [10] ، فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول أعظم من حزن الإنسان على ابنه ، فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه .

                  ومع هذا فقد أخبر الله عن يعقوب أنه حزن على ابنه يوسف وقال : ( ياأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) الآية [ سورة يوسف : 84 - 86 ] ، فهذا إسرائيل نبي كريم قد حزن على ابنه هذا الحزن ، ولم يكن هذا مما يسب عليه ، فكيف يسب أبو بكر إذا حزن على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا أن يقتل ، وهو الذي علقت به سعادة الدنيا والآخرة ؟ ! .

                  ثم إن هؤلاء الشيعة - وغيرهم - يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يوصف ، وأنها بنت بيت الأحزان ، ولا يجعلون ذلك ذما لها مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل وهو حزن يتضمن الاحتراس ، ولهذا لما مات لم يحزن هذا الحزن لأنه لا فائدة فيه فحزن أبي بكر بلا ريب [ ص: 460 ] أكمل من حزن فاطمة ، فإن كان مذموما على حزنه ، ففاطمة أولى بذلك وإلا فأبو بكر أحق بأن لا يذم على حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم من حزن غيره عليه بعد موته .

                  وإن قيل : أبو بكر إنما حزن على نفسه لا يقتله الكفار .

                  قيل : فهذا يناقض قولكم إنه كان عدوه ، وكان استصحبه لئلا يظهر أمره .

                  وقيل : هذا باطل بما علم بالتواتر من حال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه الله على المؤمنين .

                  ثم يقال هب أن حزنه كان عليه ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أفيستحق أن يشتم على ذلك ، ولو قدر أنه حزن خوفا أن يقتله عدوه لم يكن هذا مما يستحق به هذا السب .

                  ثم إن قدر أن ذلك ذنب فلم يصبر عنه ، بل لما نهاه عنه انتهى فقد نهى الله تعالى الأنبياء عن أمور كثيرة انتهوا عنها ، ولم يكونوا مذمومين بما فعلوه قبل النهي .

                  وأيضا فهؤلاء ينقلون عن علي وفاطمة من الجزع والحزن على فوت مال فدك وغيرها من الميراث ما يقتضي أن صاحبه إنما يحزن على فوت الدنيا وقد قال تعالى : ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) [ سورة الحديد : 23 ] فقد دعا الناس إلى أن لا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا ، ومعلوم أن الحزن على الدنيا أولى بأن ينهى عنه من الحزن على الدين .

                  [ ص: 461 ] وإن قدر أنه حزن على الدنيا ، فحزن الإنسان على نفسه خوفا أن يقتل أولى أن يعذر به من حزنه على مال لم يحصل له .

                  وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يذكرون فيمن يوالونه من أخبار المدح ، وفيمن يعادونه من أخبار الذم ما هو بالعكس أولى فلا تجدهم يذمون أبا بكر وأمثاله بأمر إلا ولو كان ذلك الأمر ذما لكان علي أولى بذلك ، ولا يمدحون عليا بمدح يستحق أن يكون مدحا إلا وأبو بكر أولى بذلك فإنه أكمل في الممادح كلها ، وأبرأ من المذام كلها : حقيقيها [11] وخياليها .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية