[ ص: 451 ] فصل .
وأما قوله : " إنه يدل على نقصه " .
فنقول : أولا : النقص نوعان نقص ينافي إيمانه ، ونقص عمن هو أكمل منه .
فإن أراد الأول فهو باطل ، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ) [ سورة النحل : 127 ] .
وقال للمؤمنين عامة : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ) [ سورة آل عمران : 139 ] .
وقال : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم ) [ سورة الحجر : 87 ، 88 ] فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ، ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان .
وإن أراد بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه ، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال ، وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولكن ليس في هذا ما يدل على أن أبي بكر أو عليا أو عثمان ، أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في [ ص: 452 ] هذه الحال ، ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال عمر ، بل المعروف من حالهم دائما وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينا وصبرا ، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه . الصديق
هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته حتى أنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان ، حتى ارتد أكثر [1] الأعراب ، واضطرب لها الذي كان أقواهم إيمانا وأعظمهم يقينا كان عمر [2] مع هذا تثبيت الله تعالى بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره ، وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من للصديق وغيره فقال عمر رضي الله عنه : من كان يعبد الصديق محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت .
ثم قرأ : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) الآية [ سورة آل عمران : 144 ] [3] .
[ ص: 453 ] وفي عن البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مات عائشة بالسنح فقام وأبو بكر يقول : والله ما مات رسول الله ، قالت : وقال عمر : والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء عمر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ، وقال : بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا . أبو بكر
ثم خرج فقال : أيها الحالف على رسلك ، فلما تكلم جلس أبو بكر ، فحمد الله عمر وأثنى عليه ، وقال : ألا من كان يعبد أبو بكر محمدا ، فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت ، وقال : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) [ سورة الزمر : 30 ] ، وقال : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ سورة آل عمران : 144 ] قال : فنشج الناس يبكون " [4] .
وفي صحيح عن البخاري أنه سمع خطبة أنس الأخيرة حين جلس على المنبر ، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله عليه وسلم فتشهد عمر [5] صامت لا يتكلم ، قال : كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا ، يريد بذلك أن يكون آخرهم ، فإن يك وأبو بكر محمد قد مات ، فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا [ ص: 454 ] تهتدون به ، وبه هدى الله محمدا ، وإن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين ، وإنه أولى المسلمين بأمورهم فقوموا فبايعوه ، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في أبا بكر سقيفة بني ساعدة ، وكانت بيعة العامة على المنبر [6] .
وفي طريق آخر [7] في : أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الذي هدى به رسوله فخذوا به تهتدوا ، وإنما البخاري [8] هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم " ذكره في كتاب " الاعتصام بالسنة " البخاري [9] .
وروى أيضا عن البخاري في هذه القصة قالت : " ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها ، لقد خوف عائشة الناس عمر [10] ، وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك ، ثم لقد بصر الناس الهدى وعرفهم الحق أبو بكر [11] " الذي عليهم .
وأيضا فقصة يوم بدر في العريش ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة ، برز بذلك [12] على سائر الصحابة فكيف ينسب إلى [ ص: 455 ] الجزع ؟ ! .
وأيضا فقيامه بقتال [13] المرتدين ومانعي الزكاة ، وتثبيت المؤمنين مع تجهيز ، مما يبين أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا ، وقد روي أنه قيل له قد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها ، وبالبحار لغاضها ، وما نراك ضعفت فقال : ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني - أو كما قال - قال : لا عليك يا أسامة ، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام . أبا بكر
ثم يقال : من شبه وصبره أبي بكر بغيره من الصحابة : يقين أو عمر أو عثمان فإنه يدل على جهله والسني لا ينازع في فضله على علي عمر ، ولكن الرافضي وعثمان [14] الذي ادعى أن كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواه عليا [15] بهت وكذب وفرية ، فإن من تدبر سيرة عمر علم أنهما كانا في الصبر والثبات وقلة الجزع في المصائب أكمل من وعثمان ، علي حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة ، أو قتله فعثمان [16] ولم يزالوا به حتى قتلوه ، وهو يمنع الناس من مقاتلتهم إلى أن قتل شهيدا وما دافع عن نفسه فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب ؟ ! .
ومعلوم أن لم يكن صبره كصبر عليا ، بل كان يحصل له من إظهار التأذي من عسكره الذين يقاتلون معه ، ومن العسكر الذين [ ص: 456 ] يقاتلهم ما لم يكن يظهر مثله لا من عثمان ولا أبي بكر ولا عمر مع كون الذين يقاتلونهم كانوا كفارا ، وكان الذين معهم بالنسبة إلى عدوهم أقل من الذين مع عثمان بالنسبة إلى من يقاتله ، فإن الكفار الذين قاتلهم علي أبو بكر وعمر كانوا أضعاف المسلمين ، ولم يكن جيش وعثمان أكثر من جيش معاوية ، بل كانوا أقل منه . علي
ومعلوم أن خوف الإمام من استيلاء الكفار على المسلمين أعظم من خوفه من استيلاء بعض المسلمين على بعض فكان ما يخافه الأئمة الثلاثة أعظم مما يخافه علي والمقتضي للخوف منهم أعظم ومع هذا فكانوا أكمل يقينا وصبرا مع أعدائهم ومحاربيهم من علي مع أعدائه ومحاربيه [17] فكيف يقال إن يقين علي وصبره [18] كان أعظم من يقين وصبره وهل هذا إلا من نوع السفسطة والمكابرة لما علم بالتواتر خلافه ؟ ! . أبي بكر