الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 451 ] فصل .

                  وأما قوله : " إنه يدل على نقصه " .

                  فنقول : أولا : النقص نوعان نقص ينافي إيمانه ، ونقص عمن هو أكمل منه .

                  فإن أراد الأول فهو باطل ، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ) [ سورة النحل : 127 ] .

                  وقال للمؤمنين عامة : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ) [ سورة آل عمران : 139 ] .

                  وقال : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم ) [ سورة الحجر : 87 ، 88 ] فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ، ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان .

                  وإن أراد بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه ، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر ، وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليا أو عثمان أو عمر ، أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في [ ص: 452 ] هذه الحال ، ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق ، بل المعروف من حالهم دائما وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينا وصبرا ، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه .

                  هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته حتى أنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان ، حتى ارتد أكثر [1] الأعراب ، واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيمانا وأعظمهم يقينا كان [2] مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره ، وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت .

                  ثم قرأ : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) الآية [ سورة آل عمران : 144 ] [3] .

                  [ ص: 453 ] وفي البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله ، قالت : وقال عمر : والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ، وقال : بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا .

                  ثم خرج فقال : أيها الحالف على رسلك ، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر ، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ، وقال : ألا من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت ، وقال : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) [ سورة الزمر : 30 ] ، وقال : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ سورة آل عمران : 144 ] قال : فنشج الناس يبكون " [4] .

                  وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر ، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله عليه وسلم فتشهد [5] وأبو بكر صامت لا يتكلم ، قال : كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا ، يريد بذلك أن يكون آخرهم ، فإن يك محمد قد مات ، فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا [ ص: 454 ] تهتدون به ، وبه هدى الله محمدا ، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين ، وإنه أولى المسلمين بأمورهم فقوموا فبايعوه ، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة ، وكانت بيعة العامة على المنبر [6] .

                  وفي طريق آخر [7] في البخاري : أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الذي هدى به رسوله فخذوا به تهتدوا ، وإنما [8] هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم " ذكره البخاري في كتاب " الاعتصام بالسنة " [9] .

                  وروى البخاري أيضا عن عائشة في هذه القصة قالت : " ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها ، لقد خوف عمر الناس [10] ، وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك ، ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق [11] " الذي عليهم .

                  وأيضا فقصة يوم بدر في العريش ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة ، برز بذلك [12] على سائر الصحابة فكيف ينسب إلى [ ص: 455 ] الجزع ؟ ! .

                  وأيضا فقيامه بقتال [13] المرتدين ومانعي الزكاة ، وتثبيت المؤمنين مع تجهيز أسامة ، مما يبين أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا ، وقد روي أنه قيل له قد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها ، وبالبحار لغاضها ، وما نراك ضعفت فقال : ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني - أو كما قال - قال : لا عليك يا أبا بكر ، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام .

                  ثم يقال : من شبه يقين أبي بكر وصبره بغيره من الصحابة : عمر أو عثمان أو علي فإنه يدل على جهله والسني لا ينازع في فضله على عمر وعثمان ، ولكن الرافضي [14] الذي ادعى أن عليا كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواه [15] بهت وكذب وفرية ، فإن من تدبر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا في الصبر والثبات وقلة الجزع في المصائب أكمل من علي ، فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة ، أو قتله [16] ولم يزالوا به حتى قتلوه ، وهو يمنع الناس من مقاتلتهم إلى أن قتل شهيدا وما دافع عن نفسه فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب ؟ ! .

                  ومعلوم أن عليا لم يكن صبره كصبر عثمان ، بل كان يحصل له من إظهار التأذي من عسكره الذين يقاتلون معه ، ومن العسكر الذين [ ص: 456 ] يقاتلهم ما لم يكن يظهر مثله لا من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان مع كون الذين يقاتلونهم كانوا كفارا ، وكان الذين معهم بالنسبة إلى عدوهم أقل من الذين مع علي بالنسبة إلى من يقاتله ، فإن الكفار الذين قاتلهم أبو بكر وعمر وعثمان كانوا أضعاف المسلمين ، ولم يكن جيش معاوية أكثر من جيش علي ، بل كانوا أقل منه .

                  ومعلوم أن خوف الإمام من استيلاء الكفار على المسلمين أعظم من خوفه من استيلاء بعض المسلمين على بعض فكان ما يخافه الأئمة الثلاثة أعظم مما يخافه علي والمقتضي للخوف منهم أعظم ومع هذا فكانوا أكمل يقينا وصبرا مع أعدائهم ومحاربيهم من علي مع أعدائه ومحاربيه [17] فكيف يقال إن يقين علي وصبره [18] كان أعظم من يقين أبي بكر وصبره وهل هذا إلا من نوع السفسطة والمكابرة لما علم بالتواتر خلافه ؟ ! .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية