فصل .
قال الرافضي : " وأما قوله : ( وسيجنبها الأتقى ) [ سورة الليل : 17 ] ، فإن المراد به أبو الدحداح حيث اشترى نخلة لشخص لأجل جاره ، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على [ ص: 494 ] صاحب النخلة نخلة [1] في الجنة ، فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم له بستانا عوضها في الجنة " .
والجواب : أن يقال : لا يجوز أن تكون هذه الآية مختصة بأبي الدحداح دون أبي بكر باتفاق أهل العلم بالقرآن وتفسيره وأسباب نزوله ، وذلك أن هذه [2] السورة مكية باتفاق العلماء ، وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة باتفاق العلماء فإنه من الأنصار ، والأنصار إنما صحبوه بالمدينة ، ولم تكن البساتين وهي الحدائق التي تسمى بالحيطان إلا بالمدينة فمن الممتنع أن تكون الآية لم تنزل إلا بعد قصة أبي الدحداح [3] ، بل إن كان قد قال بعض العلماء : إنها نزلت فيه ، فمعناه [ ص: 495 ] أنه ممن دخل في الآية وممن شمله حكمها وعمومها ، فإن كثيرا ما يقول بعض الصحابة والتابعين : " نزلت هذه الآية في كذا " ويكون المراد بذلك أنها دلت على هذا الحكم وتناولته ، وأريد بها هذا الحكم .
ومنهم من يقول : بل قد تنزل [4] الآية مرتين ، مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب .
فعلى قول هؤلاء يمكن أنها نزلت مرة ثانية في قصة أبي الدحداح ، [5] وإلا فلا خلاف بين أهل العلم أنها نزلت بمكة قبل أن يسلم أبو الداحداح [6] ، وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في قصة أبي بكر ، فذكر ابن جرير في تفسيره بإسناده عن عبد الله بن الزبير ، وغيره أنها نزلت في أبي بكر [7] .
وكذلك ذكره [8] ابن أبي حاتم والثعلبي أنها نزلت في أبي بكر عن عبد الله وعن سعيد بن المسيب [9] .
وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني ، حدثنا سفيان ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال : أعتق أبو بكر سبعة كلهم يعذب في الله : بلالا وعامر بن فهيرة والنهدية ، [ ص: 496 ] وابنتها [10] و زنيرة وأم عميس وأمة بني المؤمل ، قال سفيان : فأما زنيرة فكانت رومية ، وكانت لبني عبد الدار ، فلما أسلمت عميت ، فقالوا : أعمتها اللات والعزى ، قالت : فهي كافرة باللات والعزى فرد الله إليها بصرها ، وأما بلال فاشتراه وهو مدفون في الحجارة ، فقالوا : لو أبيت إلا أوقية لبعناكه ، فقال أبو بكر : لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته ، قال : وفيه نزلت : ( وسيجنبها الأتقى ) [ سورة الليل : 17 ] إلى آخر السورة .
وأسلم وله أربعون ألفا فأنفقها في سبيل الله ، ويدل على أنها نزلت في أبي بكر وجوه :
أحدها : أنه قال : ( وسيجنبها الأتقى ) ، وقال : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ سورة الحجرات : 13 ] فلا بد أن يكون أتقى الأمة داخلا في هذه الآية ، وهو أكرمهم عند الله ، ولم يقل أحد إن أبا الدحداح ونحوه أفضل وأكرم من السابقين الأولين من المهاجرين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ، بل الأمة كلهم - سنيهم وغير سنيهم - متفقون على أن هؤلاء وأمثالهم من المهاجرين أفضل من أبي الدحداح فلا بد أن يكون الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى فيهم .
وهذا القائل قد ادعى أنها نزلت في أبي الدحداح ، فإذا كان القائل قائلين : قائلا يقول : نزلت فيه ، وقائلا يقول : نزلت في أبي بكر كان هذا القائل هو الذي يدل القرآن على قوله ، وإن قدر عموم الأية لهما ، فأبو بكر أحق بالدخول فيها من أبي الدحداح .
[ ص: 497 ] وكيف [11] لا يكون كذلك وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما نفعني مال قط كمال أبي بكر " [12] فقد نفى عن جميع [ مال ] [13] الأمة أن ينفعه كنفع مال أبي بكر ، فكيف تكون تلك الأموال [14] المفضولة دخلت في الآية والمال الذي هو أنفع الأموال له لم يدخل فيها ؟ ! .
الوجه الثاني : أنه إذا كان الأتقى هو الذي يؤتي ماله [ يتزكى ] [15] ، وأكرم الخلق أتقاهم ، كان هذا أفضل الناس والقولان المشهوران في هذه الآية قول أهل السنة أن أفضل الخلق أبو بكر ، وقول الشيعة علي ، فلم يجز أن يكون الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله واحدا غيرهما ، وليس منهما [16] واحد يدخل في الأتقى ، وإذا ثبت أنه لا بد من دخول أحدهما في الأتقى وجب أن يكون أبو بكر داخلا في الآية ويكون أولى بذلك من علي لأسباب :
أحدها أنه قال : ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) [ سورة الليل : 18 ] وقد ثبت في النقل المتواتر في الصحاح وغيرها أن أبا بكر أنفق ماله ، وأنه مقدم في ذلك على جميع الصحابة ، كما ثبت في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر ، فحمد الله [ ص: 498 ] وأثنى عليه ، ثم قال : " إنه ليس من الناس أحد أمن علي [ في ] [17] نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلة الإسلام أفضل ، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر " [18] .
وفي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم : " إن أمن الناس في صحبته وماله أبو بكر " ، وفي البخاري عن أبي الدرداء : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله بعثني إليكم ، فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ " مرتين [19] فما أوذي بعدها [20] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر " فبكى أبو بكر ، وقال : هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله ؟ " [21] .
وعن عمر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالا عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، فجئت بنصف مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " قلت : مثله ، وجاء أبو بكر بماله كله ، فقال له النبي صلى الله [ ص: 499 ] عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، فقلت : لا أسابقك إلى شيء أبدا " رواه أبو داود والترمذي وصححه [22] .
فهذه النصوص الصحيحة المتواترة الصريحة تدل على أنه كان من أعظم الناس إنفاقا لماله فيما يرضي الله ورسوله .
وأما علي فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمونه لما أخذه من أبي طالب لمجاعة حصلت بمكة ، وما زال علي فقيرا حتى تزوج بفاطمة وهو فقير ، وهذا مشهور معروف عن أهل السنة والشيعة ، وكان في عيال النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن له ما ينفقه ، ولو كان له مال لأنفقه لكنه كان منفقا عليه لا منفقا .
السبب الثاني : قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) [ سورة الليل : 19 ] وهذه لأبي بكر دون علي ، لأن أبا بكر كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الإيمان أن [23] هداه الله به وتلك النعمة [24] لا يجزى بها الخلق ، بل أجر الرسول فيها على الله كما قال تعالى : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) [ سورة ص : 86 ] ، وقال : ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله ) [ سورة سبأ : 47 ] .
وأما النعمة التي يجزى بها الخلق فهي نعمة الدنيا ، وأبو بكر لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الدنيا ، بل نعمة دين ، بخلاف علي فإنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة دنيا يمكن أن تجزى .
[ ص: 500 ] الثالث : أن الصديق لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب [25] يواليه لأجله ويخرج ماله إلا الإيمان ، ولم ينصره كما نصره أبو طالب لأجل القرابة ، وكان عمله كاملا في إخلاصه لله تعالى كما قال : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) [ سورة الليل : 20 ، 21 ] .
وكذلك خديجة كانت زوجته ، والزوجة قد تنفق مالها على زوجها وإن كان دون النبي صلى الله عليه وسلم .
وعلي لو قدر أنه أنفق لكان قد [26] أنفق على قريبه ، وهذه أسباب قد يضاف الفعل إليها بخلاف إنفاق أبي بكر فإنه لم يكن له سبب إلا الإيمان بالله وحده فكان من أحق المتقين بتحقيق قوله : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) ، وقوله : ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) [ سورة الليل : 17 - 20 ] استثناء منقطع والمعنى : لا يقتصر في العطاء على من له عنده نعمة يكافئه بذلك [27] ، فإن هذا من باب العدل الواجب للناس بعضهم على بعض بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة وهو واجب لكل أحد على أحد ، فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعاوضة ، فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى ، بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج أن يجزيه بها فإنه يحتاج [ ص: 501 ] أن يعطيه مجازاة على ذلك .
وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكى في معاملته للناس [28] دائما [29] يكافئهم ويعاوضهم ويجازيهم ، فحين إعطائه ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى .
وفيه أيضا ما يبين أن الفضل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجب من المعاوضات كما قال تعالى : ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) [ سورة البقرة : 219 ] فمن عليه ديون من أثمان وقرض [30] وغير ذلك ، فلا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات ، ولو فعل ذلك فهل ترد صدقته على قولين معروفين للفقهاء فهذه الآية يحتج بها من ترد صدقته [31] ، لأن الله تعالى إنما أثنى على من آتى ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه أن يجزي بها [32] قبل أن يؤتي ماله يتزكى ، فإذا آتى ماله يتزكى قبل أن يجزي بها [33] لم يكن ممدوحا ، فيكون عمله مردودا لقوله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " [34] .
[ ص: 502 ] الرابع : أن هذه الآية إذا قدر أنه دخل فيها من دخل من الصحابة ، فأبو بكر أحق الأمة بالدخول فيها فيكون هو الأتقى من هذه الأمة فيكون أفضلهم ، وذلك ( * لأن الله تعالى وصف الأتقى بصفات أبو بكر أكمل بها من جميع الأمة * ) [35] وهو قوله : ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) وقوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) [ سورة الليل : 18 - 20 ] .
أما إيتاء المال فقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إنفاق أبي بكر أفضل من إنفاق غيره ، وأن معاونته له بنفسه وماله أكمل من معاونة غيره [36] .
وأما ابتغاء النعمة التي تجزى فأبو بكر لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم مالا قط ولا حاجة دنيوية ، وأنه كان يطلب منه العلم لقوله الذي ثبت في الصحيحين أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " علمني دعاء أدعو به في صلاتي " ، فقال : " قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني [ ص: 503 ] إنك أنت الغفور الرحيم " [37] .
ولا أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مالا يخصه به قط ، بل إن حضر غنيمة كان كآحاد الغانمين ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماله كله ، وأما غيره من المنفقين من الأنصار وبني هاشم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم ما لا يعطى غيرهم ، فقد أعطى بني هاشم وبني المطلب من الخمس ما لم يعط [38] غيرهم ، واستعمل عمر وأعطاه عمالة ، وأما أبو بكر فلم يعطه شيئا فكان أبعد الناس من النعمة التي تجزى وأولاهم بالنعمة التي لا تجزى .
وأما إخلاصه في ابتغاء وجه ربه الأعلى ، فهو أكمل الأمة في ذلك فعلم أنه أكمل من تناولته الآية في الصفات المذكورة .
كما أنه أكمل من تناول قوله : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] .
وقوله : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) [ سورة الحديد : 10 ] .
[ ص: 504 ] وقوله : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) [ سورة التوبة : 100 ] ، وأمثال ذلك من الآيات التي فيها مدح المؤمنين من هذه الأمة ، فأبو بكر أكمل الأمة في الصفات التي يمدح الله بها المؤمنين ، فهو أولاهم بالدخول فيها [39] وأكمل من دخل فيها ، فعلم أنه أفضل الأمة .


