فصل .
قال الرافضي [1] : وأما قوله تعالى : ( قل للمخلفين من الأعراب ) [ سورة الفتح : 16 ] [2] فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله : ( قل لن تتبعونا ) [ سورة الفتح : 15 ] ; لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ، ثم قال تعالى : ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ) [ سورة الفتح : 16 ] ، وقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوات كثيرة [3] [ ص: 505 ] كمؤتة وحنين وتبوك وغيرها ، وكان الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضا جاز أن يكون حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاما لقوله صلى الله عليه وسلم : " عليا يا حربك حربي وحرب علي [4] رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر " .
فالجواب : أما الاستدلال بهذه الآية على خلافة الصديق ووجوب طاعته فقد استدل بها طائفة من أهل العلم ، منهم الشافعي والأشعري وغيرهم واحتجوا بأن الله تعالى قال : ( وابن حزم فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا الآية [ سورة التوبة : 83 ] قالوا : فقد أمر الله رسوله أن يقول لهؤلاء : لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ، فعلم أن الداعي لهم إلى القتال ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكون من بعده وليس إلا أبا بكر [5] ، ثم ، ثم عمر الذين دعوا الناس إلى قتال عثمان فارس والروم وغيرهم ، أو يسلمون حيث قال تقاتلونهم ، أو يسلمون .
وهؤلاء جعلوا المذكورين في " سورة الفتح " هم المخاطبين في سورة " براءة " ومن هنا صار في الحجة نظر ، فإن الذين في سورة " الفتح " هم الذين دعوا زمن الحديبية ليخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لما [ ص: 506 ] أراد أن يذهب إلى مكة وصده المشركون وصالحهم عام حينئذ بالحديبية [6] ، وبايعه المسلمون تحت الشجرة .
وسورة الفتح نزلت في هذه القصة ، وكان ذلك العام عام ست من الهجرة بالاتفاق وفي ذلك نزل قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) [ سورة البقرة : 196 ] ، وفيها نزلت فدية الأذى في وهي قوله كعب بن عجرة [7] : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) [ سورة البقرة : 196 ] ، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خرج إلى خيبر ففتحها الله على المسلمين في أول سنة سبع ، وفيها أسلم وقدم أبو هريرة جعفر وغيره من مهاجرة الحبشة ، ولم يسهم النبي صلى الله عليه وسلم لأحد ممن شهد خيبر إلا لأهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة إلا أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر ، وفي ذلك نزل [8] قوله : ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا ) [ سورة الفتح : 15 ] إلى قوله : ( تقاتلونهم أو يسلمون ) [ سورة الفتح : 16 ] وقد دعا الناس بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام ثمان من الهجرة ، وكانت خيبر سنة سبع ودعاهم عقب الفتح إلى قتال هوازن بحنين ، ثم حاصر الطائف سنة ثمان وكانت هي آخر الغزوات التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه [ ص: 507 ] وسلم ، وغزا تبوك سنة تسع ، لكن لم يكن فيها قتال : غزا فيها النصارى بالشام وفيها أنزل الله [9] سورة براءة ، وذكر فيها المخلفين الذين قال فيهم : ( فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ) [ سورة التوبة : 83 ] .
وأما مؤتة فكانت سرية قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : " زيد ، فإن قتل فجعفر ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة " أميركم [10] ، وكانت بعد عمرة القضية وقبل فتح مكة ، فإن جعفرا حضر عمرة القضية ، وتنازع هو وعلي وزيد في بنت حمزة قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم خالة البنت ، وقال : " لأسماء امرأة جعفر " الخالة بمنزلة الأم [11] ، ولم يشهد زيد ولا جعفر ولا فتح ابن رواحة مكة ; لأنهم استشهدوا قبل ذلك في غزوة مؤتة .
وإذا عرف هذا فوجه الاستدلال من الآية أن يقال قوله تعالى : ( ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) [ سورة الفتح : 16 ] يدل على أنهم متصفون بأنهم أولو بأس شديد وبأنهم يقاتلون ، أو يسلمون قالوا : فلا يجوز أن يكون دعاهم [12] إلى قتال أهل مكة وهوازن عقيب عام الفتح ، لأن هؤلاء هم الذين دعوا إليهم عام الحديبية ، ومن لم يكن منهم فهو من جنسهم ليس هو أشد بأسا منهم كلهم عرب من أهل الحجاز ، وقتالهم من جنس واحد ، وأهل مكة ومن [ ص: 508 ] حولها كانوا أشد بأسا وقتالا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر وأحد والخندق من أولئك وكذلك في غير ذلك من السرايا .
فلا بد أن يكون هؤلاء الذين تقع الدعوة إلى قتالهم لهم اختصاص بشدة البأس ممن دعوا إليه عام الحديبية كما قال تعالى : ( أولي بأس شديد ) [ سورة الفتح : 16 ] ، وهنا صنفان : أحدهما : بنو الأصفر الذين دعوا إلى قتالهم عام تبوك سنة تسع فإنهم أولو بأس شديد ، وهم أحق بهذه الصفة من غيرهم ، وأول قتال كان معهم عام مؤتة عام ثمان قبل تبوك فقتل فيها أمراء المسلمين زيد وجعفر ورجع المسلمون كالمنهزمين . وعبد الله بن رواحة
ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا : " نحن الفرارون ، فقال : " بل أنتم العكارون ، أنا فئتكم وفئة كل مسلم [13] .
ولكن قد عارض بعضهم هذا بقوله : ( تقاتلونهم أو يسلمون ) [ سورة الفتح : 16 ] ، وأهل الكتاب يقاتلون حتى يعطوا الجزية فتأول الآية طائفة أخرى في مسيلمة الكذاب ، فإنهم كانوا أولي بأس شديد ، ولقي المسلمون في قتالهم شدة [ ص: 509 ] عظيمة واستحر القتل يومئذ بالقراء المرتدين الذين قاتلهم الصديق أصحاب [14] ، وكانت من أعظم الملاحم التي بين المسلمين وعدوهم ، والمرتدون يقاتلون ، أو يسلمون ، لا يقبل منهم جزية وأول من قاتلهم الصديق وأصحابه ، فدل على وجوب طاعته في الدعاء إلى قتالهم .
والقرآن يدل والله أعلم على أنهم يدعون إلى قوم موصوفين بأحد الأمرين : إما مقاتلتهم لهم وإما إسلامهم لا بد من أحدهما ، وهم أولو بأس شديد وهذا بخلاف من دعوا إليه عام الحديبية ، فإنهم لم يوجد منهم لا هذا ولا هذا ولا أسلموا ، بل صالحهم الرسول بلا إسلام ولا قتال ، فبين القرآن الفرق بين من دعوا إليه عام الحديبية وبين من يدعون إليه بعد ذلك .
ثم إذا فرض [15] عليهم الإجابة والطاعة إذا دعوا إلى قوم أولي بأس شديد فلأن يجب عليهم الطاعة إذا دعوا إلى من ليس بذي بأس شديد بطريق الأولى والأحرى ، فتكون الطاعة واجبة عليهم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وهوازن وثقيف .
ثم لما دعاهم [16] بعد هؤلاء إلى بني الأصفر كانوا أولي بأس شديد ، والقرآن قد وكد الأمر في عام تبوك ، وذم المتخلفين عن الجهاد ذما عظيما كما تدل عليه سورة براءة ، وهؤلاء وجد فيهم أحد الأمرين : القتال أو الإسلام ، وهو سبحانه لم يقل : ( تقاتلونهم أو يسلمون ) [ ص: 510 ] [ سورة الفتح : 16 ] إلى أن يسلموا ، ولا قال : قاتلوهم حتى يسلموا ، بل وصفهم بأنهم يقاتلون ، أو يسلمون ، ثم إذا قوتلوا فإنهم يقاتلون كما أمر الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
فليس في قوله : ( تقاتلونهم ) ما يمنع أن يكون القتال إلى الإسلام وأداء الجزية ، لكن يقال قوله : ( ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ) [ سورة الفتح : 16 ] كلام حذف فاعله فلم يعين الفاعل الداعي لهم إلى القتال ، فدل القرآن على وجوب الطاعة لكل من دعاهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد يقاتلونهم ، أو يسلمون .
ولا ريب أن دعاهم إلى قتال المرتدين ، ثم قتال أبا بكر فارس والروم ، وكذلك دعاهم إلى قتال عمر فارس والروم ، دعاهم إلى قتال وعثمان البربر ونحوهم ، والآية تتناول هذا الدعاء كله .
أما تخصيصها بمن دعاهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله [17] طائفة من المحتجين بها على خلافة فخطأ ، بل إذا قيل : تتناول هذا وهذا كان هذا مما يسوغ ، ويمكن أن يراد بالآية أبي بكر [18] ويستدل عليه بها ، ولهذا ، وهذا أظهر الأقوال في الآية وهو أن المراد تدعون إلى قتال أولي بأس شديد أعظم من العرب لا بد فيهم من أحد أمرين : إما أن يسلموا ، وإما أن يقاتلوا بخلاف من دعوا إليه عام وجب قتال الكفار مع كل أمير دعا إلى قتالهم الحديبية ، فإن بأسهم لم يكن شديدا مثل هؤلاء ودعوا إليهم ففي ذلك لم يسلموا ولم يقاتلوا .
[ ص: 511 ] وكذلك عام الفتح في أول الأمر لم يسلموا ولم يقاتلوا ، لكن بعد ذلك أسلموا .
وهؤلاء هم الروم والفرس ونحوهم ، فإنه لا بد من قتالهم إذا لم يسلموا ، وأول الدعوة إلى قتال هؤلاء عام مؤتة وتبوك ، وعام تبوك لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلموا ، لكن في زمن الصديق كان لا بد من أحد الأمرين : إما الإسلام وإما القتال ، وبعد القتال أدوا الجزية لم يصالحوا ابتداء كما صالح المشركون عام والفاروق الحديبية ، فتكون دعوة أبي بكر إلى قتال هؤلاء داخلة في الآية وهو المطلوب . وعمر
والآية تدل على أن قتال لم تتناوله الآية علي [19] ، فإن الذين قاتلهم لم يكونوا أولي بأس شديد أعظم من بأس أصحابه ، بل كانوا من جنسهم ، وأصحابه كانوا أشد بأسا .
وأيضا فهم لم يكونوا يقاتلون ، أو يسلمون فإنهم كانوا مسلمين .
وما ذكره في الحديث من قوله [20] : " حربك حربي " لم يذكر له إسنادا ، فلا يقوم به حجة ، فكيف وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ؟ .
ومما يوضح الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول " براءة " وآية الجزية كان الكفار من المشركين وأهل الكتاب تارة يقاتلهم ، وتارة يعاهدهم فلا يقاتلهم ولا يسلمون ، فلما أنزل الله " براءة " وأمره فيها بنبذ [ ص: 512 ] العهد [21] إلى الكفار ، وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، صار حينئذ مأمورا بأن يدعو الناس إلى قتال من لا بد من قتالهم ، أو إسلامهم [22] ، وإذا قاتلهم قاتلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية لم يكن له حينئذ أن يعاهدهم بلا جزية ، كما [ كان ] [23] [24] يعاهد الكفار من المشركين وأهل الكتاب كما عاهد أهل مكة عام الحديبية ، وفيها دعا الأعراب إلى قتالهم ، وأنزل فيها سورة الفتح ، وكذلك دعا المسلمين وقال فيها : ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) [ سورة الفتح : 16 ] بخلاف هؤلاء الذين دعاهم إليهم عام الحديبية .
والفرق بينهما من وجهين : أحدهما : أن الذين يدعون إلى قتالهم في المستقبل أولو بأس شديد بخلاف أهل مكة وغيرهم من العرب .
والثاني : أنكم تقاتلونهم ، أو يسلمون ليس لكم أن تصالحوهم ولا تعاهدوهم بدون أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، كما قاتل أهل مكة وغيرهم ، والقتال إلى أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
وهذا يبين أن هؤلاء أولي البأس [25] لم يكونوا ممن يعاهدون بلا جزية ، فإنهم يقاتلون أو يسلمون ومن يعاهد بلا جزية له [26] حال ثالث : لا يقاتل فيها ولا يسلم ، وليسوا أيضا من جنس العرب الذين " ( * قوتلوا قبل ذلك .
[ ص: 513 ] فتبين أن الوصف [ لا ] يتناول [27] الذين قاتلهم * ) [28] بحنين وغيرهم ، فإن هؤلاء بأسهم من جنس بأس أمثالهم من العرب الذين قوتلوا قبل ذلك .
فتبين أن الوصف يتناول فارس والروم الذين أمر الله بقتالهم ، أو يسلمون وإذا قوتلوا [ قبل ذلك ] [29] فإنهم يقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
وإذا قيل : إنه دخل ذلك في قتال المرتدين ; لأنهم يقاتلون أو يسلمون ، كان أوجه من أن يقال : المراد قتال أهل مكة وأهل حنين الذين قوتلوا في حال كان يجوز فيها مهادنة الكفار ، فلا يسلمون ولا يقاتلون ، والنبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وحنين كان بينه وبين كثير من الكفار عهود بلا جزية فأمضاها لهم ، ولكن لما أنزل الله براءة بعد ذلك عام تسع سنة غزوة تبوك بعث بعد أبا بكر تبوك أميرا على الموسم ، فأمره أن ينادي : يأمره بنبذ العهود المطلقة ، وتأجيل من لا عهد له أربعة أشهر بعلي كان آخرها شهر ربيع سنة عشر . أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، وأن من كان بينه وبين رسول الله عهد ، فعهده إلى مدته وأردفه
وهذه الحرم المذكورة في قوله : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) الآية [30] [ سورة التوبة : 5 ] ، ليس المراد الحرم [ ص: 514 ] المذكورة في قوله : ( منها أربعة حرم ) [ سورة التوبة : 36 ] ، ومن قال ذلك فقد غلط غلطا معروفا عند أهل العلم كما هو مبسوط في موضعه .
ولما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون المجوس ، واتفق المسلمون على أخذها من أهل الكتاب والمجوس .
وتنازع العلماء في سائر الكفار على ثلاثة أقوال : فقيل : جميعهم يقاتلون بعد ذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون إذا لم يسلموا ، وهذا قول . مالك
وقيل : يستثنى من ذلك مشركو العرب ، وهو قول أبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه . وأحمد
وقيل : ذلك مخصوص بأهل الكتاب ، ومن له شبهة كتاب ، وهو قول الشافعي في رواية أخرى عنه . وأحمد
والقول الأول والثاني متفقان في المعنى ، فإن آية الجزية لم تنزل إلا بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من قتال مشركي العرب ، فإن آخر غزواته للعرب كانت غزوة الطائف ، وكانت بعد حنين وحنين بعد فتح مكة ، وكل ذلك سنة ثمان ، وفي السنة التاسعة غزا النصارى عام تبوك ، وفيها نزلت سورة " براءة " وفيها أمر \ بالقتال حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
، كما رواه مسلم [ ص: 515 ] في صحيحه وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على جيش أو سرية أمره أن يقاتلهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [31] ، وصالح النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران على الجزية وهم أول من أدى الجزية وفيهم أنزل الله صدر سورة آل عمران ، ولما كانت سنة تسع نفى المشركون عن الحرم ، ونبذ العهود إليهم ، وأمره الله تعالى أن يقاتلهم ، وأسلم المشركون من العرب كلهم ، فلم يبق مشرك معاهد لا بجزية ولا بغيرها [32] وقبل ذلك كان يعاهدهم بلا جزية ، فعدم أخذ الجزية منهم [33] : هل كان لأنه لم يبق فيهم من يقاتل حتى يعطوا الجزية ، بل أسلموا كلهم لما رأوا من حسن الإسلام وظهوره ، وقبح ما كانوا عليه من الشرك وأنفتهم من أن يؤتوا الجزية عن يد وهم صاغرون ؟ .
أو لأن الجزية لا يجوز أخذها منهم ، بل يجب قتالهم إلى الإسلام ، فعلى الأول تؤخذ من سائر الكفار كما قاله أكثر الفقهاء ، وهؤلاء يقولون : لما أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم [ ص: 516 ] صاغرون ونهي عن معاهدتهم بلا جزية ، كما كان الأمر أولا ، وكان [34] هذا تنبيها على أن من هو دونهم من المشركين أولى أن لا يهادن بغير جزية ، بل يقاتل حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس : " " وصالح سنوا بهم سنة أهل الكتاب أهل البحرين على الجزية ، وفيهم مجوس واتفق على ذلك خلفاؤه [35] وسائر علماء المسلمين ، وكان الأمر في أول الإسلام أنه يقاتل الكفار ويهادنهم بلا جزية كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله قبل نزول براءة ، فلما نزلت " براءة " أمره فيها بنبذ هذه العهود المطلقة ، وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، فغيرهم أولى أن يقاتلوا ولا يعاهدوا .
وقوله تعالى : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) ، وقال : [ ص: 517 ] ( فإن تابوا ) [ سورة التوبة : 5 ] [36] ولم يقل قاتلوهم حتى يتوبوا .
وقوله : " [37] حق ، فإن من قال : لا إله إلا الله لم يقاتل [38] بحال ، ومن لم يقلها قوتل حتى يعطي الجزية ، وهذا القول هو المنصوص صريحا عن أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله " ، والقول الآخر الذي قاله أحمد ذكره الشافعي الخرقي في " مختصره [39] " ووافقه عليه طائفة من أصحاب . أحمد