الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل .

                  قال الرافضي [1] : وأما قوله تعالى : ( قل للمخلفين من الأعراب ) [ سورة الفتح : 16 ] [2] فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله : ( قل لن تتبعونا ) [ سورة الفتح : 15 ] ; لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ، ثم قال تعالى : ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ) [ سورة الفتح : 16 ] ، وقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوات كثيرة [3] [ ص: 505 ] كمؤتة وحنين وتبوك وغيرها ، وكان الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضا جاز أن يكون عليا حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاما لقوله صلى الله عليه وسلم : " يا علي حربك حربي وحرب [4] رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر " .

                  فالجواب : أما الاستدلال بهذه الآية على خلافة الصديق ووجوب طاعته فقد استدل بها طائفة من أهل العلم ، منهم الشافعي والأشعري وابن حزم وغيرهم واحتجوا بأن الله تعالى قال : ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا الآية [ سورة التوبة : 83 ] قالوا : فقد أمر الله رسوله أن يقول لهؤلاء : لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ، فعلم أن الداعي لهم إلى القتال ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكون من بعده وليس إلا أبا بكر [5] ، ثم عمر ، ثم عثمان الذين دعوا الناس إلى قتال فارس والروم وغيرهم ، أو يسلمون حيث قال تقاتلونهم ، أو يسلمون .

                  وهؤلاء جعلوا المذكورين في " سورة الفتح " هم المخاطبين في سورة " براءة " ومن هنا صار في الحجة نظر ، فإن الذين في سورة " الفتح " هم الذين دعوا زمن الحديبية ليخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لما [ ص: 506 ] أراد أن يذهب إلى مكة وصده المشركون وصالحهم عام حينئذ بالحديبية [6] ، وبايعه المسلمون تحت الشجرة .

                  وسورة الفتح نزلت في هذه القصة ، وكان ذلك العام عام ست من الهجرة بالاتفاق وفي ذلك نزل قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) [ سورة البقرة : 196 ] ، وفيها نزلت فدية الأذى في كعب بن عجرة وهي قوله [7] : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) [ سورة البقرة : 196 ] ، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خرج إلى خيبر ففتحها الله على المسلمين في أول سنة سبع ، وفيها أسلم أبو هريرة وقدم جعفر وغيره من مهاجرة الحبشة ، ولم يسهم النبي صلى الله عليه وسلم لأحد ممن شهد خيبر إلا لأهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة إلا أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر ، وفي ذلك نزل [8] قوله : ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا ) [ سورة الفتح : 15 ] إلى قوله : ( تقاتلونهم أو يسلمون ) [ سورة الفتح : 16 ] وقد دعا الناس بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام ثمان من الهجرة ، وكانت خيبر سنة سبع ودعاهم عقب الفتح إلى قتال هوازن بحنين ، ثم حاصر الطائف سنة ثمان وكانت هي آخر الغزوات التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه [ ص: 507 ] وسلم ، وغزا تبوك سنة تسع ، لكن لم يكن فيها قتال : غزا فيها النصارى بالشام وفيها أنزل الله [9] سورة براءة ، وذكر فيها المخلفين الذين قال فيهم : ( فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ) [ سورة التوبة : 83 ] .

                  وأما مؤتة فكانت سرية قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : " أميركم زيد ، فإن قتل فجعفر ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة " [10] ، وكانت بعد عمرة القضية وقبل فتح مكة ، فإن جعفرا حضر عمرة القضية ، وتنازع هو وعلي وزيد في بنت حمزة قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء امرأة جعفر خالة البنت ، وقال : " الخالة بمنزلة الأم " [11] ، ولم يشهد زيد ولا جعفر ولا ابن رواحة فتح مكة ; لأنهم استشهدوا قبل ذلك في غزوة مؤتة .

                  وإذا عرف هذا فوجه الاستدلال من الآية أن يقال قوله تعالى : ( ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) [ سورة الفتح : 16 ] يدل على أنهم متصفون بأنهم أولو بأس شديد وبأنهم يقاتلون ، أو يسلمون قالوا : فلا يجوز أن يكون دعاهم [12] إلى قتال أهل مكة وهوازن عقيب عام الفتح ، لأن هؤلاء هم الذين دعوا إليهم عام الحديبية ، ومن لم يكن منهم فهو من جنسهم ليس هو أشد بأسا منهم كلهم عرب من أهل الحجاز ، وقتالهم من جنس واحد ، وأهل مكة ومن [ ص: 508 ] حولها كانوا أشد بأسا وقتالا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر وأحد والخندق من أولئك وكذلك في غير ذلك من السرايا .

                  فلا بد أن يكون هؤلاء الذين تقع الدعوة إلى قتالهم لهم اختصاص بشدة البأس ممن دعوا إليه عام الحديبية كما قال تعالى : ( أولي بأس شديد ) [ سورة الفتح : 16 ] ، وهنا صنفان : أحدهما : بنو الأصفر الذين دعوا إلى قتالهم عام تبوك سنة تسع فإنهم أولو بأس شديد ، وهم أحق بهذه الصفة من غيرهم ، وأول قتال كان معهم عام مؤتة عام ثمان قبل تبوك فقتل فيها أمراء المسلمين زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة ورجع المسلمون كالمنهزمين .

                  ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا : نحن الفرارون ، فقال : " بل أنتم العكارون ، أنا فئتكم وفئة كل مسلم " [13] .

                  ولكن قد عارض بعضهم هذا بقوله : ( تقاتلونهم أو يسلمون ) [ سورة الفتح : 16 ] ، وأهل الكتاب يقاتلون حتى يعطوا الجزية فتأول الآية طائفة أخرى في المرتدين الذين قاتلهم الصديق أصحاب مسيلمة الكذاب ، فإنهم كانوا أولي بأس شديد ، ولقي المسلمون في قتالهم شدة [ ص: 509 ] عظيمة واستحر القتل يومئذ بالقراء [14] ، وكانت من أعظم الملاحم التي بين المسلمين وعدوهم ، والمرتدون يقاتلون ، أو يسلمون ، لا يقبل منهم جزية وأول من قاتلهم الصديق وأصحابه ، فدل على وجوب طاعته في الدعاء إلى قتالهم .

                  والقرآن يدل والله أعلم على أنهم يدعون إلى قوم موصوفين بأحد الأمرين : إما مقاتلتهم لهم وإما إسلامهم لا بد من أحدهما ، وهم أولو بأس شديد وهذا بخلاف من دعوا إليه عام الحديبية ، فإنهم لم يوجد منهم لا هذا ولا هذا ولا أسلموا ، بل صالحهم الرسول بلا إسلام ولا قتال ، فبين القرآن الفرق بين من دعوا إليه عام الحديبية وبين من يدعون إليه بعد ذلك .

                  ثم إذا فرض [15] عليهم الإجابة والطاعة إذا دعوا إلى قوم أولي بأس شديد فلأن يجب عليهم الطاعة إذا دعوا إلى من ليس بذي بأس شديد بطريق الأولى والأحرى ، فتكون الطاعة واجبة عليهم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وهوازن وثقيف .

                  ثم لما دعاهم [16] بعد هؤلاء إلى بني الأصفر كانوا أولي بأس شديد ، والقرآن قد وكد الأمر في عام تبوك ، وذم المتخلفين عن الجهاد ذما عظيما كما تدل عليه سورة براءة ، وهؤلاء وجد فيهم أحد الأمرين : القتال أو الإسلام ، وهو سبحانه لم يقل : ( تقاتلونهم أو يسلمون ) [ ص: 510 ] [ سورة الفتح : 16 ] إلى أن يسلموا ، ولا قال : قاتلوهم حتى يسلموا ، بل وصفهم بأنهم يقاتلون ، أو يسلمون ، ثم إذا قوتلوا فإنهم يقاتلون كما أمر الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

                  فليس في قوله : ( تقاتلونهم ) ما يمنع أن يكون القتال إلى الإسلام وأداء الجزية ، لكن يقال قوله : ( ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ) [ سورة الفتح : 16 ] كلام حذف فاعله فلم يعين الفاعل الداعي لهم إلى القتال ، فدل القرآن على وجوب الطاعة لكل من دعاهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد يقاتلونهم ، أو يسلمون .

                  ولا ريب أن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين ، ثم قتال فارس والروم ، وكذلك عمر دعاهم إلى قتال فارس والروم ، وعثمان دعاهم إلى قتال البربر ونحوهم ، والآية تتناول هذا الدعاء كله .

                  أما تخصيصها بمن دعاهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله [17] طائفة من المحتجين بها على خلافة أبي بكر فخطأ ، بل إذا قيل : تتناول هذا وهذا كان هذا مما يسوغ ، ويمكن أن يراد بالآية [18] ويستدل عليه بها ، ولهذا وجب قتال الكفار مع كل أمير دعا إلى قتالهم ، وهذا أظهر الأقوال في الآية وهو أن المراد تدعون إلى قتال أولي بأس شديد أعظم من العرب لا بد فيهم من أحد أمرين : إما أن يسلموا ، وإما أن يقاتلوا بخلاف من دعوا إليه عام الحديبية ، فإن بأسهم لم يكن شديدا مثل هؤلاء ودعوا إليهم ففي ذلك لم يسلموا ولم يقاتلوا .

                  [ ص: 511 ] وكذلك عام الفتح في أول الأمر لم يسلموا ولم يقاتلوا ، لكن بعد ذلك أسلموا .

                  وهؤلاء هم الروم والفرس ونحوهم ، فإنه لا بد من قتالهم إذا لم يسلموا ، وأول الدعوة إلى قتال هؤلاء عام مؤتة وتبوك ، وعام تبوك لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلموا ، لكن في زمن الصديق والفاروق كان لا بد من أحد الأمرين : إما الإسلام وإما القتال ، وبعد القتال أدوا الجزية لم يصالحوا ابتداء كما صالح المشركون عام الحديبية ، فتكون دعوة أبي بكر وعمر إلى قتال هؤلاء داخلة في الآية وهو المطلوب .

                  والآية تدل على أن قتال علي لم تتناوله الآية [19] ، فإن الذين قاتلهم لم يكونوا أولي بأس شديد أعظم من بأس أصحابه ، بل كانوا من جنسهم ، وأصحابه كانوا أشد بأسا .

                  وأيضا فهم لم يكونوا يقاتلون ، أو يسلمون فإنهم كانوا مسلمين .

                  وما ذكره في الحديث من قوله [20] : " حربك حربي " لم يذكر له إسنادا ، فلا يقوم به حجة ، فكيف وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ؟ .

                  ومما يوضح الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول " براءة " وآية الجزية كان الكفار من المشركين وأهل الكتاب تارة يقاتلهم ، وتارة يعاهدهم فلا يقاتلهم ولا يسلمون ، فلما أنزل الله " براءة " وأمره فيها بنبذ [ ص: 512 ] العهد [21] إلى الكفار ، وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، صار حينئذ مأمورا بأن يدعو الناس إلى قتال من لا بد من قتالهم ، أو إسلامهم [22] ، وإذا قاتلهم قاتلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية لم يكن له حينئذ أن يعاهدهم بلا جزية ، كما [ كان ] [23] [24] يعاهد الكفار من المشركين وأهل الكتاب كما عاهد أهل مكة عام الحديبية ، وفيها دعا الأعراب إلى قتالهم ، وأنزل فيها سورة الفتح ، وكذلك دعا المسلمين وقال فيها : ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) [ سورة الفتح : 16 ] بخلاف هؤلاء الذين دعاهم إليهم عام الحديبية .

                  والفرق بينهما من وجهين : أحدهما : أن الذين يدعون إلى قتالهم في المستقبل أولو بأس شديد بخلاف أهل مكة وغيرهم من العرب .

                  والثاني : أنكم تقاتلونهم ، أو يسلمون ليس لكم أن تصالحوهم ولا تعاهدوهم بدون أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، كما قاتل أهل مكة وغيرهم ، والقتال إلى أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

                  وهذا يبين أن هؤلاء أولي البأس [25] لم يكونوا ممن يعاهدون بلا جزية ، فإنهم يقاتلون أو يسلمون ومن يعاهد بلا جزية له [26] حال ثالث : لا يقاتل فيها ولا يسلم ، وليسوا أيضا من جنس العرب الذين " ( * قوتلوا قبل ذلك .

                  [ ص: 513 ] فتبين أن الوصف [ لا ] يتناول [27] الذين قاتلهم * ) [28] بحنين وغيرهم ، فإن هؤلاء بأسهم من جنس بأس أمثالهم من العرب الذين قوتلوا قبل ذلك .

                  فتبين أن الوصف يتناول فارس والروم الذين أمر الله بقتالهم ، أو يسلمون وإذا قوتلوا [ قبل ذلك ] [29] فإنهم يقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

                  وإذا قيل : إنه دخل ذلك في قتال المرتدين ; لأنهم يقاتلون أو يسلمون ، كان أوجه من أن يقال : المراد قتال أهل مكة وأهل حنين الذين قوتلوا في حال كان يجوز فيها مهادنة الكفار ، فلا يسلمون ولا يقاتلون ، والنبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وحنين كان بينه وبين كثير من الكفار عهود بلا جزية فأمضاها لهم ، ولكن لما أنزل الله براءة بعد ذلك عام تسع سنة غزوة تبوك بعث أبا بكر بعد تبوك أميرا على الموسم ، فأمره أن ينادي : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، وأن من كان بينه وبين رسول الله عهد ، فعهده إلى مدته وأردفه بعلي يأمره بنبذ العهود المطلقة ، وتأجيل من لا عهد له أربعة أشهر كان آخرها شهر ربيع سنة عشر .

                  وهذه الحرم المذكورة في قوله : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) الآية [30] [ سورة التوبة : 5 ] ، ليس المراد الحرم [ ص: 514 ] المذكورة في قوله : ( منها أربعة حرم ) [ سورة التوبة : 36 ] ، ومن قال ذلك فقد غلط غلطا معروفا عند أهل العلم كما هو مبسوط في موضعه .

                  ولما أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس ، واتفق المسلمون على أخذها من أهل الكتاب والمجوس .

                  وتنازع العلماء في سائر الكفار على ثلاثة أقوال : فقيل : جميعهم يقاتلون بعد ذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون إذا لم يسلموا ، وهذا قول مالك .

                  وقيل : يستثنى من ذلك مشركو العرب ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه .

                  وقيل : ذلك مخصوص بأهل الكتاب ، ومن له شبهة كتاب ، وهو قول الشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه .

                  والقول الأول والثاني متفقان في المعنى ، فإن آية الجزية لم تنزل إلا بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من قتال مشركي العرب ، فإن آخر غزواته للعرب كانت غزوة الطائف ، وكانت بعد حنين وحنين بعد فتح مكة ، وكل ذلك سنة ثمان ، وفي السنة التاسعة غزا النصارى عام تبوك ، وفيها نزلت سورة " براءة " وفيها أمر \ بالقتال حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

                  وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على جيش أو سرية أمره أن يقاتلهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، كما رواه مسلم [ ص: 515 ] في صحيحه [31] ، وصالح النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران على الجزية وهم أول من أدى الجزية وفيهم أنزل الله صدر سورة آل عمران ، ولما كانت سنة تسع نفى المشركون عن الحرم ، ونبذ العهود إليهم ، وأمره الله تعالى أن يقاتلهم ، وأسلم المشركون من العرب كلهم ، فلم يبق مشرك معاهد لا بجزية ولا بغيرها [32] وقبل ذلك كان يعاهدهم بلا جزية ، فعدم أخذ الجزية منهم [33] : هل كان لأنه لم يبق فيهم من يقاتل حتى يعطوا الجزية ، بل أسلموا كلهم لما رأوا من حسن الإسلام وظهوره ، وقبح ما كانوا عليه من الشرك وأنفتهم من أن يؤتوا الجزية عن يد وهم صاغرون ؟ .

                  أو لأن الجزية لا يجوز أخذها منهم ، بل يجب قتالهم إلى الإسلام ، فعلى الأول تؤخذ من سائر الكفار كما قاله أكثر الفقهاء ، وهؤلاء يقولون : لما أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم [ ص: 516 ] صاغرون ونهي عن معاهدتهم بلا جزية ، كما كان الأمر أولا ، وكان [34] هذا تنبيها على أن من هو دونهم من المشركين أولى أن لا يهادن بغير جزية ، بل يقاتل حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

                  ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وصالح أهل البحرين على الجزية ، وفيهم مجوس واتفق على ذلك خلفاؤه [35] وسائر علماء المسلمين ، وكان الأمر في أول الإسلام أنه يقاتل الكفار ويهادنهم بلا جزية كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله قبل نزول براءة ، فلما نزلت " براءة " أمره فيها بنبذ هذه العهود المطلقة ، وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، فغيرهم أولى أن يقاتلوا ولا يعاهدوا .

                  وقوله تعالى : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) ، وقال : [ ص: 517 ] ( فإن تابوا ) [ سورة التوبة : 5 ] [36] ولم يقل قاتلوهم حتى يتوبوا .

                  وقوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله " [37] حق ، فإن من قال : لا إله إلا الله لم يقاتل [38] بحال ، ومن لم يقلها قوتل حتى يعطي الجزية ، وهذا القول هو المنصوص صريحا عن أحمد ، والقول الآخر الذي قاله الشافعي ذكره الخرقي في " مختصره [39] " ووافقه عليه طائفة من أصحاب أحمد .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية