الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل .

                  قال الرافضي [1] : " وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أنسه بالله مغنيا له عن كل أنيس ، لكن لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره لأبي بكر [2] بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرار في غزواته ، وأيما أفضل : القاعد عن القتال ، أو المجاهد بنفسه [3] في سبيل الله ؟ " .

                  الجواب : أن يقال لهذا المفتري الكذاب ما ذكرته من أظهر الباطل من وجوه [4] :

                  [ ص: 535 ] أحدها : أن قوله " هرب عدة مرار في غزواته " يقال له : هذا الكلام يدل على أن قائله من أجهل الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله ، والجهل بذلك غير منكر من الرافضة ، فإنهم من أجهل الناس بأحوال الرسول ، وأعظمهم تصديقا بالكذب فيها وتكذيبا بالصدق منها .

                  وذلك أن غزوة بدر هي أول مغازي القتال لم يكن قبلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر غزاة مع الكفار أصلا ، وغزوات القتال التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم تسع غزوات : بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وغزوة ذي قرد وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف ، وأما الغزوات التي لم يقاتل فيها فهي نحو بضعة عشر ، وأما السرايا فمنها ما كان فيه قتال ، ومنها ما لم يكن فيه قتال .

                  وبكل حال فبدر أولى [5] مغازي القتال باتفاق الناس ، وهذا من العلم الذي يعلمه كل من له علم بأحوال الرسول من أهل التفسير والحديث والمغازي والسير والفقه والتواريخ والأخبار ، يعلمون أن بدرا هي أول الغزوات التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس قبلها غزوة ولا سرية كان فيها قتال ، إلا قصة ابن الحضرمي [6] ، ولم يكن فيها أبو بكر .

                  [ ص: 536 ] فكيف يقال : إنه هرب قبل ذلك عدة مرار [7] في مغازيه ؟ ! .

                  الثاني : أن أبا بكر رضي الله عنه لم يهرب قط حتى يوم أحد لم ينهزم لا هو ولا عمر وإنما كان عثمان تولى ، وكان ممن عفا الله عنه ، وأما أبو بكر وعمر فلم يقل أحد قط إنهما انهزما مع من انهزم ، بل ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين كما تقدم ذلك عن أهل السيرة [8] ، لكن بعض الكذابين ذكر أنهما أخذا الراية يوم حنين ، فرجعا ولم يفتح عليهما ، ومنهم من يزيد في الكذب ويقول : إنهما انهزما [ مع من انهزم ] [9] ، وهذا كذب كله .

                  وقبل أن يعرف الإنسان أنه كذب ، فمن أثبت ذلك عليهما هو المدعي لذلك فلا بد من إثبات ذلك بنقل يصدق ، ولا سبيل إلى هذا فأين النقل المصدق على أبي بكر أنه هرب في غزوة واحدة ، فضلا عن أن يكون هرب عدة مرات ؟ ! .

                  الثالث : أنه لو كان في الجبن بهذه الحال [10] لم يخصه النبي صلى الله عليه وسلم دون أصحابه بأن يكون معه في العريش ، بل لا يجوز استصحاب مثل هذا في الغزو ، فإنه لا ينبغي للإمام أن ( * يستصحب منخذلا [11] ولا مرجفا ، فضلا عن أن * ) [12] يقدم [13] على سائر أصحابه ، ويجعله معه في عريشه .

                  [ ص: 537 ] الرابع : أن الذي في الصحيحين من ثباته وقوة يقينه في هذه الحال يكذب هذا المفتري ، ففي الصحيحين عن ابن عباس عن عمر قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يديه وجعل يهتف بربه : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه فقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) [ سورة الأنفال : 9 ] الآية ، وذكر الحديث [14] .

                  الخامس : أن يقال : قد علم كل من علم السيرة أن أبا بكر كان أقوى قلبا من جميع الصحابة لا يقاربه في ذلك أحد منهم ، فإنه من حين بعث الله رسوله إلى أن مات أبو بكر لم يزل مجاهدا ثابتا [15] مقداما شجاعا ، لم يعرف قط أنه جبن عن قتال عدو ، بل لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفت قلوب أكثر الصحابة ، وكان هو الذي يثبتهم حتى قال أنس : " خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود " .

                  وروي أن عمر قال : يا خليفة رسول الله تألف الناس ، فأخذ بلحيته [ ص: 538 ] وقال : يا ابن الخطاب : أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام ؟ ! علام أتألفهم : على حديث مفترى أم على شعر مفتعل ؟ ! .

                  السادس : قوله : " أيما أفضل : القاعد عن القتال ، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله ؟ ! .

                  فيقال : بل كونه مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال هو من أفضل الجهاد فإنه هو الذي كان العدو يقصده ، فكان ثلث العسكر حوله يحفظونه من العدو ، وثلثه اتبع المنهزمين وثلثه أخذوا الغنائم ، ثم إن الله قسمها بينهم كلهم .

                  السابع : قوله : " إن أنس النبي صلى الله عليه وسلم بربه كان مغنيا له عن كل أنيس " .

                  فيقال : قول القائل : إنه كان أنيسه في العريش ، ليس هو من ألفاظ القرآن والحديث ، ومن قاله ، وهو يدري ما يقول ، لم يرد به أنه يؤنسه لئلا يستوحش ، بل المراد أنه كان يعاونه على القتال ، كما كان من هو دونه يعاونه على القتال .

                  وقد قال تعالى : ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) [ سورة الأنفال : 62 ] وهو أفضل [16] المؤمنين الذين أيده الله بهم .

                  وقال : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين ) [ سورة النساء : 84 ] ، وكان الحث على أبي بكر أن يعاونه بغاية ما يمكنه وعلى الرسول أن يحرضهم على الجهاد ، ويقاتل بهم عدوه [ ص: 539 ] بدعائهم ورأيهم وفعلهم وغير ذلك مما يمكن الاستعانة [ به ] [17] على الجهاد .

                  الثامن : أن يقال \ : [ من ] [18] المعلوم لعامة العقلاء أن مقدم القتال المطلوب ، الذي قد قصده أعداؤه يريدون قتله ، إذا أقام في عريش ، أو قبة أو حركاة ، أو غير ذلك مما يجنه [19] ، ولم يستصحب معه من أصحابه إلا واحدا ، وسائرهم خارج ذلك العريش لم يكن هذا إلا أخص الناس به ، وأعظمهم موالاة له وانتفاعا به .

                  وهذا النفع في الجهاد لا يكون إلا مع قوة القلب وثباته ، لا مع ضعفه وخوره .

                  فهذا يدل على أن الصديق كان أكملهم إيمانا وجهادا ، وأفضل الخلق هم أهل الإيمان والجهاد فمن كان أفضل في ذلك كان أفضل مطلقا .

                  قال تعالى : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ) إلى قوله : ( وأولئك هم الفائزون ) [ سورة التوبة : 19 ، 20 ] فهؤلاء أعظم درجة عند الله من أهل الحج والصدقة ، والصديق أكمل في ذلك .

                  وأما قتال علي بيده فقد شاركه في ذلك سائر الصحابة [20] الذين قاتلوا يوم بدر ، ولم يعرف أن عليا قاتل أكثر من جميع الصحابة يوم بدر ولا أحد ولا غير ذلك .

                  [ ص: 540 ] ففضيلة الصديق مختصة به لم يشركه فيها غيره ، وفضيلة علي مشتركة بينه وبين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .

                  الوجه التاسع : أن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر خرجا بعد ذلك من العريش ، ورماهم النبي صلى الله عليه وسلم الرمية التي قال الله فيها : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) [ سورة الأنفال : 17 ] والصديق قاتلهم حتى قال له ابنه عبد الرحمن : قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك ، فقال : لكني لو رأيتك لقتلتك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية