فصل .
قال الرافضي [1] : " وأما لأنه لم يكن ذا مال ، فإن أباه كان فقيرا في الغاية ، وكان ينادي على مائدة إنفاقه على النبي صلى الله عليه وسلم فكذب عبد الله بن جدعان كل يوم بمد [2] يقتات به ، ولو [3] كان غنيا لكفى أباه ، وكان أبو بكر معلما للصبيان في الجاهلية ، وفي الإسلام كان خياطا أبو بكر [4] ، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة ، فقال : إني محتاج [5] إلى القوت [ ص: 541 ] فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال " [6] .
والجواب : أن يقال : أولا : من أعظم الظلم والبهتان أن ينكر الرجل ما تواتر به النقل وشاع بين الخاص والعام ، وامتلأت به الكتب : كتب الحديث الصحاح والمساند والتفسير والفقه والكتب المصنفة في أخبارالقوم وفضائلهم ، ثم يدعي شيئا من المنقولات التي لا تعلم بمجرد قوله ، ولا ينقله بإسناد معروف ولا إلى كتاب [7] يعرفه يوثق به ، ولا يذكر ما قاله ، فلو قدرنا أنه ناظر أجهل الخلق لأمكنه أن يقول له : بل الذي ذكرت هو الكذب والذي قاله منازعوك هو الصدق فكيف تخبر عن أمر كان بلا حجة أصلا ، ولا نقل يعرف به ذلك ؟ ومن الذي نقل من الثقات ما ذكره عن ؟ . أبي بكر
ثم يقال : أما ماله أبي بكر ، فمتواتر منقول في الحديث الصحيح من وجوه كثيرة حتى قال : " إنفاق أبي بكر " ما نفعني مال قط ما نفعني مال [8] ، وقال : " أبو بكر " إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده [9] ، وثبت عنه أنه اشترى المعذبين من ماله : بلالا وعامر بن فهيرة اشترى سبعة أنفس .
وأما قول القائل : " إن أباه كان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان .
فهذا لم يذكر له إسنادا يعرف به صحته ، ولو ثبت لم يضر ، فإن هذا [ ص: 542 ] كان في الجاهلية قبل الإسلام ، فإن ابن جدعان مات قبل الإسلام وأما في الإسلام فكان لأبي قحافة ما يعينه ولم يعرف قط أن أبا قحافة كان يسأل الناس وقد عاش أبو قحافة إلى أن مات وورث السدس فرده على أولاده لغناه عنه . أبو بكر
ومعلوم أنه لو كان محتاجا لكان يبره في هذه المدة ، فقد كان الصديق ينفق على الصديق مسطح بن أثاثة لقرابة بعيدة ، وكان ممن تكلم [10] في الإفك ، فحلف أن لا ينفق عليه فأنزل الله تعالى : ( أبو بكر ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين إلى قوله غفور رحيم ) [ سورة النور : 22 ] فقال : بلى والله أحب أن يغفر الله لي ، فأعاد عليه النفقة ، والحديث بذلك ثابت في الصحيحين . أبو بكر [11]
وقد اشترى بماله سبعة من المعذبين في الله ، ولما هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم استصحب ماله فجاء أبو قحافة ، وقال لأهله : ذهب بنفسه فهل ترك ماله عندكم أو أخذه ؟ قالت أبو بكر أسماء : فقلت : بل تركه ، ووضعت في الكوة شيئا ، ( * وقلت : هذا هو المال لتطيب نفسه أنه ترك ذلك لعياله ، ولم يطلب أبو قحافة منهم شيئا * ) [12] ، وهذا كله يدل على غناه .
[ ص: 543 ] وقوله : إن كان معلما للصبيان في الجاهلية . أبا بكر
فهذا من المنقول الذي لو كان صدقا لم يقدح فيه ، بل يدل على أنه كان عنده علم ومعرفة ، وكان جماعة من علماء [13] المسلمين يؤدبون ، منهم أبو صالح صاحب [14] كان يعلم الصبيان ، الكلبي ، وكان من خواص أصحاب وأبو عبد الرحمن السلمي ، وقال علي : كان سفيان بن عيينة الضحاك بن مزاحم وعبد الله بن الحارث يعلمان الصبيان فلا يأخذان أجرا ، ومنهم ، قيس بن سعد ، وعطاء بن أبي رباح وعبد الكريم أبو أمية [15] . وحسين المعلم ، وهو ابن ذكوان والقاسم بن عمير الهمداني ، وحبيب المعلم مولى معقل بن يسار .
ومنهم علقمة بن أبي علقمة ، وكان يروي عنه ، وكان له مكتب يعلم فيه . مالك بن أنس
ومنهم الإمام المجمع على إمامته وفضله ، فكيف إذا كان ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام [16] من الكذب المختلق ؟ ! .
بل لو كان قبل الإسلام من الأرذلين لم يقدح ذلك فيه ، فقد كان الصديق سعد وابن مسعود وصهيب ، وغيرهم من المستضعفين ، وطلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم فنهاه الله عن ذلك وأنزل : [ ص: 544 ] ( وبلال ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ) إلى قوله : ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) [ سورة الأنعام : 52 ، 53 ] .
وقوله : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) [ سورة الكهف : 28 ] .
وقال في المستضعفين من المؤمنين : ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون ) إلى آخر السورة [ سورة المطففين : 29 - 34 ] .
وقال : ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب ) [ سورة البقرة : 212 ] .
وقال : ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) [ سورة الأعراف : 48 ، 49 ] .
وقال : ( وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار ) [ سورة ص : 62 ، 63 ] .
وقال عن قوم نوح : ( قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) [ سورة الشعراء : 111 ] .
[ ص: 545 ] وقال تعالى : ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) [ سورة هود : 27 ] وقال عن قوم صالح : ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ) [ سورة الأعراف : 75 ، 76 ] .
وفي الصحيحين هرقل سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم ، قال : هم أتباع الرسل أبا سفيان بن حرب أن [17] .
فإذا قدر أن كان من المستضعفين الصديق كعمار وصهيب لم يقدح ذلك في كمال إيمانه وتقواه ، كما لم يقدح في إيمان هؤلاء وتقواهم ، وأكمل الخلق عند الله أتقاهم . وبلال
ولكن كلام الرافضة من جنس كلام المشركين الجاهلية يتعصبون للنسب والآباء لا للدين ، ويعيبون الإنسان بما لا ينقض إيمانه وتقواه ، وكل هذا من فعل الجاهلية ، ولهذا كانت الجاهلية ظاهرة عليهم فهم يشبهون الكفار من وجوه خالفوا بها أهل الإيمان والإسلام .
وقوله : " إن كان خياطا في الإسلام ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة " . الصديق
كذب ظاهر ، يعرف كل أحد أنه كذب ، وإن كان لا غضاضة فيه لو [ ص: 546 ] كان حقا ، لم يكن خياطا ، وإنما كان تاجرا أبا بكر تارة يسافر في تجارته وتارة لا يسافر ، وقد سافر إلى فإن الشام في تجارته [18] في الإسلام ، والتجارة كانت أفضل مكاسب قريش ، وكان خيار أهل الأموال منهم أهل التجارة ، وكانت العرب تعرفهم بالتجارة ، ولما ولي أراد أن يتجر لعياله فمنعه المسلمون ، وقالوا : هذا يشغلك عن مصالح المسلمين .
وكان عامة ملابسهم الأردية والأرز ، فكانت الخياطة فيهم قليلة جدا ، وقد كان بالمدينة خياط دعا [19] النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته [20] .
وأما المهاجرون المشهورون فما أعلم فيهم خياطا مع أن الخياطة من أحسن الصناعات وأجلها .
وإنفاق في طاعة الله ورسوله هو من المتواتر الذي تعرفه العامة والخاصة ، وكان له مال قبل الإسلام أبي بكر [21] ، وكان معظما في قريش محببا مؤلفا خبيرا بأنساب العرب وأيامهم ، وكانوا يأتونه لمقاصد التجارة ولعلمه وإحسانه ، ولهذا لما خرج من مكة قال له ابن الدغنة ، [ ص: 547 ] " مثلك لا يخرج ولا يخرج " [22] .
ولم يعلم أحد من قريش وغيرهم [23] عاب بعيب ، ولا نقصه ولا استرذله ، كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين ، ولم يكن له عندهم عيب أبا بكر [24] إلا إيمانه بالله ورسوله ، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قط به عيب عند قريش ولا نقص ولا يذمونه بشيء قط ، بل كان معظما عندهم بيتا ونسبا معروفا بمكارم الأخلاق والصدق والأمانة ، وكذلك صديقه الأكبر لم يكن له عيب عندهم من العيوب .
وابن الدغنة سيد القارة إحدى قبائل العرب كان معظما عند قريش يجيرون من أجاره لعظمته عندهم .
وفي الصحيحين أن لما ابتلي المسلمون أبا بكر أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك خرج مهاجرا إلى الغماد لقيه ابن الدغنة ، وهو سيد القارة فقال : أين تريد يا ؟ فقال : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي ، فقال أبا بكر ابن الدغنة : فإن مثلك لا يخرج ولا يخرج ، إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار فارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة ، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم : إن لا يخرج مثله ولا يخرج ، أتخرجون رجلا يكسب [ ص: 548 ] المعدوم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق ؟ فلم يكذب أبا بكر قريش بجوار ابن الدغنة ، وقالوا لابن الدغنة : مر فليعبد ربه في داره فليصل فيها ، وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ، ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا ، فقال ذلك أبا بكر ابن الدغنة ، فلبث لأبي بكر بذلك يعبد ربه في داره ، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ، ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره ، فكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه ، وينظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، وأفزع ذلك أشراف أبو بكر قريش ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة ، فقدم إليهم فقالوا : إنا كنا أجرنا بجوارك على أن يعبد ربه في داره فجاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه ، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك ، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين أبا بكر الاستعلان . لأبي بكر
قالت : فأتى عائشة ابن الدغنة إلى ، فقال : قد علمت الذي عاقدت لك عليه ، فإما أن تقتصر على ذلك ، وإما أن ترجع إلي ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له ، فقال أبي بكر : فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله ، وذكر الحديث أبو بكر [25] [ ص: 549 ] فقد وصفه ابن الدغنة بحضرة أشراف قريش بمثل ما النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي وقال لها : " لقد خشيت على عقلي " فقالت له : " كلا والله لن يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق خديجة " وصفت به [26] .
فهذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل النبيين ، وصديقه أفضل الصديقين .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد ، وقال : فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تبك يا أبو بكر إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبو بكر خليلا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبا بكر أبي بكر " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ، وقال : إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ، وبين ما عند الله فاختار ما عنده " ، فبكى [27] .
وفي الصحيحين عن رضي الله عنه ، قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبي الدرداء آخذا بطرف ثوبه ، وذكر الحديث إلى أن قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبو بكر : صدقت أبو بكر [28] ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ " مرتين إن الله بعثني [ ص: 550 ] إليكم فقلتم : كذبت ، وقال [29] .
وروى عن البخاري قال ابن عباس ، ولو كنت متخذا خليلا أبي بكر بن أبي قحافة " فذكر تمامه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " ما من الناس أحد أمن علي في ماله ونفسه من [30] .
وروى عن أحمد أبي معاوية عن عن الأعمش أبي صالح عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة " فبكى وقال : وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله أبي بكر ؟ ما نفعني مال ما نفعني مال [31] .
وروى عن الزهري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سعيد بن المسيب " ومنه أعتق أبي بكر بلالا ، وكان يقضي في مال ما مال رجل من المسلمين أنفع لي من مال كما يقضي الرجل في مال نفسه . أبي بكر