جعلوا هذا والفلاسفة [1] حجة في قدم العالم ، فقالوا : الحدوث بلا سبب حادث ممتنع ، فيلزم أن يكون قديما صادرا عن موجب بالذات .
وكانوا أضل من المعتزلة من وجوه متعددة : مثل كون قولهم يستلزم أن لا يحدث شيء ، ومن جهة أن قولهم يتضمن أن الممكنات لا فاعل لها ، فإن الفعل بدون الإحداث غير معقول ، ومن جهة ( * أن في قولهم من وصف الله [ تعالى ] [2] بالنقائص في ذاته وصفاته وأفعاله ما يطول وصفه [3] ، ومن جهة * ) [4] أن العالم مستلزم للحوادث ضرورة ؛ لأن الحوادث مشهودة ، فإما أن تكون لازمة [ له ] [5] أو حادثة فيه ، والموجب بالذات المستلزم لمعلوله لا يحدث عنه شيء ، فيلزم أن لا يكون للحوادث فاعل بحال ، وهم يجوزون حوادث لا تتناهى - كما يوافقهم عليه جمهور أهل الحديث والسنة - وحينئذ فلا يمتنع أن يكون كل [ شيء ] [6] من العالم حادثا .
[ ص: 443 ] والله تعالى لم يزل موصوفا بصفات الكمال : [ لم يزل ] [7] متكلما إذا شاء قادرا على الفعل ، وليس شيء من الفعل والمفعول إلا حادثا معينا [8] ، إذ كل فعل [ معين ] [9] يجب أن يكون مسبوقا بعدمه ، وإلا فالفاعل إن [10] قدر موجبا بذاته ، لزمه مفعوله ولم يحدث عنه شيء ، هو مكابرة للحس . وإن قدر غير موجب بذاته ، لم يقارنه شيء من المفعولات [11] - وإن كان دائم الفعل - إذ كان نوع الفعل من لوازم ذاته .
وأما الأفعال والمفعولات المعينة فليست لازمة للذات ، بل كل منها معلق بما قبله ؛ لامتناع اجتماع الحوادث في زمان واحد . فالفعل الذي لا يكون إلا حادثا يمتنع أن يجتمع في زمان واحد ، فضلا عن أن يكون كل من أجزائه أزليا ، بل يوجد شيئا فشيئا .
وأما الفعل الذي لا يكون إلا قديما ، فهذا أولا ممتنع لذاته ؛ فإن الفعل والمفعول المعين [12] المقارن للفاعل ممتنع ، فلا يحدث به شيء من الحوادث ؛ لأن الفعل القديم إذا قدر أنه فعل تام لزمه [13] مفعوله .
وهذه المواضع قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع [14] ، وبينا [ ص: 444 ] نزاع الناس في كل واحد واحد [15] منها . وإنما كان القصد هنا التنبيه على [ أصل ] [16] مسألة التعليل ، فإن هذا المبتدع أخذ يشنع على أهل السنة ، فذكر [17] مسائل لا يذكر حقيقتها ولا أدلتها ، وينقلها على الوجه الفاسد .
وما ينقله عن أهل السنة خطأ أو كذب عليهم أو على كثير منهم ، وما قدر أنه صدق فيه عن بعضهم ، فقولهم فيه خير من قوله . فإن غالب شناعته على الأشعرية ومن وافقهم ، والأشعرية خير من المعتزلة والرافضة عند كل من يدري ما يقول ، ويتقي الله فيما يقول .
وإذا قيل : إن في كلامهم - وكلام من قد وافقهم [18] أحيانا من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - ما هو ضعيف ، فكثير من ذلك الضعيف إنما تلقوه من [19] المعتزلة ، فهم أصل الخطأ في هذا الباب ، وبعض ذلك أخطئوا فيه لإفراط المعتزلة في الخطأ ، فقابلوهم مقابلة انحرفوا فيها ، [ كالجيش الذي يقاتل الكفار فربما حصل منه إفراط وعدوان ] [20] ، وهذا مبسوط في موضعه .