الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
84 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أنه نهى عن المحاقلة والمزابنة".  

قال: حدثناه هشيم، قال: أخبرنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن المحاقلة والمزابنة"   [ ص: 287 ] .

قال [أبو عبيد] : سمعت غير واحد ولا اثنين من أهل العلم ذكر كل واحد منهم طائفة من هذا التفسير.

قالوا: المحاقلة [والحقل] : بيع الزرع، وهو في سنبله بالبر،  وهو مأخوذ من الحقل، والحقل: هو الذي يسميه أهل العراق "القراح"، وهو في مثل يقال - : "لا تنبت البقلة إلا الحلقة".

قالوا: والمزابنة: بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر.  

وإنما جاء النهي في هذا؛ لأنه في الكيل، وليس يجوز شيء من الكيل والوزن إذا كانا من جنس واحد إلا مثلا بمثل، ويدا بيد، وهذا مجهول لا يعلم أيهما أكثر.

[قال] : ورخص في العرايا.

قال: والعرايا: واحدتها عرية، وهي النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا.

والإعراء: أن يجعل له ثمرة عامها [ ص: 288 ] .

يقول: فرخص لرب النخل أن يبتاع ثمر تلك النخلة من المعرى بتمر لموضع حاجته.

وقال بعضهم: بل هو الرجل تكون له نخلة وسط نخل كثير لرجل آخر، فيدخل رب النخلة إلى نخلته، فربما كان مع صاحب النخل الكثير أهله في النخل، فيؤذيه بدخوله، فرخص لصاحب النخل الكثير أن يشتري ثمر تلك النخلة من صاحبها قبل أن يجده بتمر؛ لئلا يتأذى به.

قال "أبو عبيد" والتفسير الأول أجود؛ لأن هذا ليس فيه إعراء، إنما هي نخلة يملكها ربها؛ فكيف تسمى عرية؟ ومنه الحديث الآخر أنه كان يأمر الخراص أن يخفضوا في الخرص، ويقول: "إن في المال العرية والوصية" .

[ ص: 289 ] قال: حدثناه يزيد، عن جرير بن حازم، عن قيس بن سعد، عن "مكحول" قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث الخراص، قال:

"خففوا في الخرص، فإن في المال العرية والوصية".


ومما يبين ذلك قول شاعر الأنصار يصف النخل:


ليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح

يقول: إنا نعريها الناس.

وحديثه "أنه نهى عن المخابرة"  

قالوا: هي المزارعة بالنصف، والثلث، والربع، وأقل من ذلك، وأكثر [ ص: 290 ] وهو "الخبر" أيضا وكان "أبو عبيدة" يقول: لهذا سمي الأكار الخبير؛ لأنه يخابر الأرض، والمخابرة هي الموأكرة.

قال: ولهذا سمي الأكار؛ لأنه يؤاكر الأرض.

[قال] : وأما حديثه: "أنه نهى عن المخاضرة" -  

فإنه نهى [عن] أن تباع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وهي خضر بعد، ويدخل في المخاضرة أيضا بيع الرطاب والبقول وأشباهها، ولهذا كره من كره بيع الرطاب أكثر من جزة واحدة.

وهذا مثل حديثه "أنه نهى عن بيع الثمر قبل أن يزهو، وزهوه أن يحمر أو يصفر"   [ ص: 291 ] .

قال أبو عبيد: حدثني عمر بن يونس بن القاسم اليمامي، عن أبيه، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن "أنس"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أنه نهى عن المخاضرة"  

[قال أبو عبيد] : وفي حديث آخر أنه: "نهى عن بيعه قبل أن يشقح"  والتشقيح هو الزهو أيضا، وهو معنى قوله: "حتى يأمن من العاهة" والعاهة الآفة تصيبه.

وأما حديثه الآخر: "أنه نهى عن المنابذة والملامسة"  

ففي كل واحد منهما قولان:

أما المنابذة: فيقال: إنها أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو غيره من المتاع، أو أنبذه إليك، وقد وجب البيع بكذا وكذا.  

ويقال: إنما هو أن يقول الرجل: إذا نبذت الحصاة، فقد وجب البيع، وهو معنى قوله: "أنه نهى عن بيع الحصاة".

والملامسة: أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك، فقد وجب البيع [ ص: 292 ] بكذا وكذا.  

ويقال: بل هو أن يلمس [الرجل] المتاع من وراء الثوب، ولا ينظر إليه، فيقع البيع على ذلك.

وهذه بيوع كان أهل الجاهلية يتبايعونها، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها؛ لأنها غرر كلها.

التالي السابق


الخدمات العلمية