الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 300 ] وقولهم : ( لا يتبعض ولا يتجزأ ) مناقض لما ذكروه في أمانتهم ، ولما يمثلونه به .

فإنهم يمثلونه بشعاع الشمس ، والشعاع يتبعض ويتجزأ ، فإن ما يقوم منه بهذا الموضع بعض وجزء منه ، ويمكن زوال بعضه مع بقاء بعض ، فإنه إذا وضع على مطرح الشعاع شيء فصل ما بين جانبيه ، وصار الشعاع الذي كان بينهما على ذلك الفوقاني فاصلا بين الشعاعين السافلين .

يبين ذلك أن الشعاع قائم بالأرض والهواء ، وكل منهما متجزئ متبعض ، وما قام بالمتبعض فهو متبعض ، فإن الحال يتبع المحل ، وذلك يستلزم التبعض والتجزيء فيما قام به .

ويقولون أيضا : إنه اتحد بالمسيح وأنه صعد إلى السماء ، وجلس عن يمين الأب ، وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه ، ، بل لما صعد إلى السماء ، وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام ، وإنسان تام ، فهم لا يقولون : إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط ، بل اللاهوت المتحد [ ص: 301 ] بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت ، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا ؟

وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال : إن له معنى لا نفهمه ، بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم ، فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه ، فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا ، وإن كانوا يعقلون ما قالوه ، فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد ، إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد ، وليس هو متصلا به ، بل غايته أن يكون مماسا له ، بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به ، فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر .

وأيضا فيقال لهم : المتحد بالمسيح أهو ذات رب العالمين ، أم صفة من صفاته ؟ فإن كان هو الذات ، فهو الأب نفسه ، ويكون المسيح هو الأب نفسه ، وهذا مما اتفق النصارى على بطلانه ؛ فإنهم يقولون : هو الله ، وهو ابن الله ، كما حكى الله عنهم ، ولا يقولون هو الأب والابن ، والأب عندهم هو الله ، وهذا من تناقضهم .

وإن قالوا : المتحد بالمسيح صفة الرب فصفة الرب لا تفارقه ، ولا يمكن اتحادها ولا حلولها في شيء دون الذات .

وأيضا فالصفة نفسها ليست هي الإله الخالق رب العالمين ، بل هي صفته ، ولا يقول عاقل : إن كلام الله أو علم الله أو حياة الله ، هي [ ص: 302 ] رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض ، فلو قدر أن المسيح هو صفة الله نفسها لم يكن هو الله ، ولم يكن هو رب العالمين ، ولا خالق السماوات والأرض .

والنصارى يقولون : إن المسيح رب العالمين خالق كل شيء ، وهو خالق آدم ومريم ، وإن كان ابن آدم ومريم ، فإنه خالق ذلك بلاهوته ، وهو ابن آدم ومريم بناسوته .

فلو قدر أن المسيح هو صفة الرب لم تكن الصفة هي الخالق ، فكيف والمسيح ليس هو صفة الله نفسها ، بل هو مخلوق بكلمة الله ، وسمي كلمة الله ، لأن الله كونه ( بكن ) ؟

وقال تعالى :

ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ( 34 ) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .

وسماه روحه ، لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه ، لم يخلقه كما خلق غيره من أب آدمي .

قال الله تعالى :

إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ( 45 ) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ( 46 ) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

[ ص: 303 ] وإن قالوا : المتحد به بعض ذلك دون بعض ، فقد قالوا بالتبعيض والتجزئة ، فهم بين أمرين : إما بطلان مذهبهم ، وإما اعترافهم بالتبعيض والتجزئة مع بطلانه .

وأيضا فقولهم : ( إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، مولود غير مخلوق ، مساو للأب في الجوهر ، ابن الله الوحيد ، المولود قبل كل الدهور ) .

يقال لهم : هذا الابن المولود المساوي للأب في الجوهر ، الذي هو إله حق من إله حق ، هل هو صفة قائمة بغيرها ؟ أو عين قائمة بنفسها ؟

فإن كان الأول ، فالصفة ليست إلها ولا هي خالقة ، ولا يقال لها : مولودة من الله ، ولا إنها مساوية لله في الجوهر ، ولم يسم قط أحد من الأنبياء ، ولا أتباع الأنبياء صفات الله لا ابنا له ولا ولدا ، ولا قال : إن صفة الله تولدت منه ، ولا قال عاقل : إن الصفة القديمة تولدت من الذات القديمة .

وهم يقولون : إن المسيح إله خلق السماوات والأرض لاتحاد ناسوته بهذا الابن المولود قبل كل الدهور ، المساوي الأب في الجوهر .

وهذا كله نعت عين قائمة بنفسها ، كالجواهر القائمة بنفسها ، لا نعت صفات قائمة بغيرها ، وإذا كان كذلك كان التبعيض والتجزئة [ ص: 304 ] لازمة لقولهم ، فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء ، قال تعالى :

وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين ( 15 ) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ( 16 ) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( 17 ) أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ( 18 ) وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون .

وأما هذا المعنى الذي يثبته من يثبته من علماء النصارى ويسمونه ولادة وبنوة فيسمونه الصفة القديمة الأزلية القائمة بالموصوف ابنا ، ويسمونها تارة النطق ، وتارة الكلمة ، وتارة العلم ، وتارة الحكمة ، ويقولون : هذا مولود من الله ، وابن الله .

فهذا لم يقله أحد من الأنبياء وأتباعهم ، ولا من سائر العقلاء غير هؤلاء المبتدعة من النصارى ، ولا يفهم أحد من العقلاء من اسم الولادة والبنوة هذا المعنى .

والأنبياء لم يطلقوا لفظ الابن إلا على مخلوق ، وهم يقولون : هو أب للمسيح بالطبع ، ولغيره بالوضع ، فلا يعقل جمهور العقلاء [ ص: 305 ] وغيرهم من هذا المعنى إلا البنوة المعقولة بانفصال جزء من الوالد ، وهذا ينكره من ينكره من علمائهم .

لكنهم لم يتبعوا الأنبياء ، ولم يقولوا ما تعقله العقلاء ، فضلوا فيما نقلوه عن الأنبياء ، وأضلوا أتباعهم فيما قالوه ، وعوامهم ، وإن كانوا لا يقولون : إن ولادة الله مثل ولادة الحيوان بانفصال شيء يوجد ، فيقولون : ولادة لاهوتية بانفصال جزء من اللاهوت حل في الناسوت ، لا يعقل من الولادة غير هذا .

وأيضا فقولهم : ( ونؤمن بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له ، وممجد ناطق في الأنبياء ، فقولهم : المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد ، يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به ، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات ، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا لكان علمه وقدرته ، وسائر صفاته منبثقة منه ، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة ، فإن الكلام يخرج من المتكلم ، وأما الحياة فلا تخرج من الحي ، فلو كان في [ ص: 306 ] الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن ، ويقولون : هي العلم والكلام أو النطق والحكمة - أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام .

وقد قالوا أيضا : إنه مع الأب مسجود له وممجد ، والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها ، وقالوا : هو ناطق في الأنبياء ، وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء ، ، بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء ، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل ، فإذا كان هذا منبثقا من الأب ، والانبثاق الخروج ، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا .

وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه :

منها : أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض ، وليس جوهرا قائما بنفسه ، وهذا عندهم حي مسجود له ، وهو جوهر .

ومنها : أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس ، ولا قائما بها ، وحياة الرب صفة قائمة به .

ومنها : أن الانبثاق خصوا به روح القدس ، ولم يقولوا في الكلمة : إنها منبثقة .

والانبثاق لو كان حقا لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة ، وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد [ ص: 307 ] ما لا يخفى إلا على أجهل العباد ، ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل ، وسائر كتب الله - ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا .

ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول ، فقولهم متناقض في نفسه ، مخالف لصريح المعقول ، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية