[ ص: 300 ] وقولهم : ( ) مناقض لما ذكروه في أمانتهم ، ولما يمثلونه به . لا يتبعض ولا يتجزأ
فإنهم يمثلونه بشعاع الشمس ، والشعاع يتبعض ويتجزأ ، فإن ما يقوم منه بهذا الموضع بعض وجزء منه ، ويمكن زوال بعضه مع بقاء بعض ، فإنه إذا وضع على مطرح الشعاع شيء فصل ما بين جانبيه ، وصار الشعاع الذي كان بينهما على ذلك الفوقاني فاصلا بين الشعاعين السافلين .
يبين ذلك أن الشعاع قائم بالأرض والهواء ، وكل منهما متجزئ متبعض ، وما قام بالمتبعض فهو متبعض ، فإن الحال يتبع المحل ، وذلك يستلزم التبعض والتجزيء فيما قام به .
ويقولون أيضا : إنه اتحد بالمسيح وأنه صعد إلى السماء ، وجلس عن يمين الأب ، وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه ، ، بل لما صعد إلى السماء ، وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام ، وإنسان تام ، فهم لا يقولون : إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط ، بل اللاهوت المتحد [ ص: 301 ] بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت ، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا ؟
وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال : إن له معنى لا نفهمه ، بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم ، فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه ، فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا ، وإن كانوا يعقلون ما قالوه ، فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد ، إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد ، وليس هو متصلا به ، بل غايته أن يكون مماسا له ، بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به ، فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر .
وأيضا فيقال لهم : المتحد بالمسيح أهو ذات رب العالمين ، أم صفة من صفاته ؟ فإن كان هو الذات ، فهو الأب نفسه ، ويكون المسيح هو الأب نفسه ، وهذا مما اتفق النصارى على بطلانه ؛ فإنهم يقولون : هو الله ، وهو ابن الله ، كما حكى الله عنهم ، ولا يقولون هو الأب والابن ، والأب عندهم هو الله ، وهذا من تناقضهم .
وإن قالوا : المتحد بالمسيح صفة الرب فصفة الرب لا تفارقه ، ولا يمكن اتحادها ولا حلولها في شيء دون الذات .
وأيضا فالصفة نفسها ليست هي الإله الخالق رب العالمين ، بل هي صفته ، ولا يقول عاقل : إن كلام الله أو علم الله أو حياة الله ، هي [ ص: 302 ] رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض ، فلو قدر أن المسيح هو صفة الله نفسها لم يكن هو الله ، ولم يكن هو رب العالمين ، ولا خالق السماوات والأرض .
والنصارى يقولون : إن المسيح رب العالمين خالق كل شيء ، وهو خالق آدم ومريم ، وإن كان ابن آدم ومريم ، فإنه خالق ذلك بلاهوته ، وهو ابن آدم ومريم بناسوته .
فلو قدر أن المسيح هو صفة الرب لم تكن الصفة هي الخالق ، فكيف والمسيح ليس هو صفة الله نفسها ، بل هو مخلوق بكلمة الله ، وسمي كلمة الله ، لأن الله كونه ( بكن ) ؟
وقال تعالى :
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ( 34 ) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .
وسماه روحه ، لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه ، لم يخلقه كما خلق غيره من أب آدمي .
قال الله تعالى :
إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ( 45 ) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ( 46 ) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
[ ص: 303 ] وإن قالوا : المتحد به بعض ذلك دون بعض ، فقد قالوا بالتبعيض والتجزئة ، فهم بين أمرين : إما بطلان مذهبهم ، وإما اعترافهم بالتبعيض والتجزئة مع بطلانه .
وأيضا فقولهم : ( إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، مولود غير مخلوق ، مساو للأب في الجوهر ، ابن الله الوحيد ، المولود قبل كل الدهور ) .
؟ يقال لهم : هذا الابن المولود المساوي للأب في الجوهر ، الذي هو إله حق من إله حق ، هل هو صفة قائمة بغيرها ؟ أو عين قائمة بنفسها
فإن كان الأول ، فالصفة ليست إلها ولا هي خالقة ، ولا يقال لها : مولودة من الله ، ولا إنها مساوية لله في الجوهر ، ولم يسم قط أحد من الأنبياء ، ولا أتباع الأنبياء صفات الله لا ابنا له ولا ولدا ، ولا قال : إن صفة الله تولدت منه ، ولا قال عاقل : إن الصفة القديمة تولدت من الذات القديمة .
وهم يقولون : إن المسيح إله خلق السماوات والأرض لاتحاد ناسوته بهذا الابن المولود قبل كل الدهور ، المساوي الأب في الجوهر .
وهذا كله نعت عين قائمة بنفسها ، كالجواهر القائمة بنفسها ، لا نعت صفات قائمة بغيرها ، وإذا كان كذلك كان التبعيض والتجزئة [ ص: 304 ] لازمة لقولهم ، فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء ، قال تعالى :
وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين ( 15 ) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ( 16 ) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( 17 ) أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ( 18 ) وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون .
وأما هذا المعنى الذي يثبته من يثبته من علماء النصارى ويسمونه ولادة وبنوة فيسمونه الصفة القديمة الأزلية القائمة بالموصوف ابنا ، ويسمونها تارة النطق ، وتارة الكلمة ، وتارة العلم ، وتارة الحكمة ، ويقولون : هذا مولود من الله ، وابن الله .
فهذا لم يقله أحد من الأنبياء وأتباعهم ، ولا من سائر العقلاء غير هؤلاء المبتدعة من النصارى ، ولا يفهم أحد من العقلاء من اسم الولادة والبنوة هذا المعنى .
والأنبياء لم يطلقوا لفظ الابن إلا على مخلوق ، وهم يقولون : هو أب للمسيح بالطبع ، ولغيره بالوضع ، فلا يعقل جمهور العقلاء [ ص: 305 ] وغيرهم من هذا المعنى إلا البنوة المعقولة بانفصال جزء من الوالد ، وهذا ينكره من ينكره من علمائهم .
لكنهم لم يتبعوا الأنبياء ، ولم يقولوا ما تعقله العقلاء ، فضلوا فيما نقلوه عن الأنبياء ، وأضلوا أتباعهم فيما قالوه ، وعوامهم ، وإن كانوا لا يقولون : إن ولادة الله مثل ولادة الحيوان بانفصال شيء يوجد ، فيقولون : ولادة لاهوتية بانفصال جزء من اللاهوت حل في الناسوت ، لا يعقل من الولادة غير هذا .
وأيضا فقولهم : ( ونؤمن بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له ، وممجد ناطق في الأنبياء ، فقولهم : المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد ، يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به ، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات ، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا لكان علمه وقدرته ، وسائر صفاته منبثقة منه ، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة ، فإن الكلام يخرج من المتكلم ، وأما الحياة فلا تخرج من الحي ، فلو كان في [ ص: 306 ] الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن ، ويقولون : هي العلم والكلام أو النطق والحكمة - أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام .
وقد قالوا أيضا : إنه مع الأب مسجود له وممجد ، والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها ، وقالوا : هو ناطق في الأنبياء ، وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء ، ، بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء ، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل ، فإذا كان هذا منبثقا من الأب ، والانبثاق الخروج ، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا .
وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه :
منها : أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض ، وليس جوهرا قائما بنفسه ، وهذا عندهم حي مسجود له ، وهو جوهر .
ومنها : أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس ، ولا قائما بها ، وحياة الرب صفة قائمة به .
ومنها : أن الانبثاق خصوا به روح القدس ، ولم يقولوا في الكلمة : إنها منبثقة .
والانبثاق لو كان حقا لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة ، وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد [ ص: 307 ] ما لا يخفى إلا على أجهل العباد ، ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل ، وسائر كتب الله - ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا .
ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول ، فقولهم متناقض في نفسه ، مخالف لصريح المعقول ، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين .