الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 308 ] قالوا : وأما تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا ، أي الكلمة مع الناسوت ، فإنه لم يخاطب الباري أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب ، حسب ما جاء في هذا الكتاب بقوله :

وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء .

وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - روح القدس - وغيرها ، فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف والكثائف ، تظهر في غير كثيف كلا .

ولذلك ظهر في عيسى ابن مريم ، إذ الإنسان أجل ما خلقه الله ، ولهذا خاطب الخلق ، وشاهدوا منه ما شاهدوا
.

[ ص: 309 ] والجواب من طرق :

أحدها : أنه يقال : هذا الذي ذكروه ، وادعوا أنه تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق ، وولادتهما معا ، أي الكلمة مع الناسوت ، وهو الذي يعبر عنه باتحاد اللاهوت بالناسوت - هو أمر ممتنع في صريح العقل ، وما علم أنه ممتنع في صريح العقل لم يجز أن يخبر به رسول ، فإن الرسل إنما تخبر بما لا يعلم بالعقل أنه ممتنع ، فأما ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع ، فالرسل منزهون عن الإخبار عنه .

الطريق الثاني : أن الأخبار الإلهية صريحة بأن المسيح عبد الله ليس بخالق العالم ، والنصارى يقولون : هو إله تام وإنسان تام .

الطريق الثالث : الكلام فيما ذكروه .

فأما الطريق الأول فمن وجوه :

أحدها : أن يقال : المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الذات المتصفة بالكلام أو الكلام فقط ، وإن شئت قلت : المتحد به ، إما الكلام مع الذات ، وإما الكلام بدون الذات ، فإن كان المتحد به الكلام مع الذات كان المسيح هو الأب وهو الابن وهو روح القدس ، وكان المسيح هو الأقانيم الثلاثة .

وهذا باطل باتفاق النصارى ، وسائر أهل الملل ، وباتفاق الكتب الإلهية ، وباطل بصريح العقل كما سنذكره إن شاء الله .

وإن كان المتحد به هو الكلمة فقط فالكلمة صفة ، والصفة لا تقوم [ ص: 310 ] بغير موصوفها ، والصفة ليست إلها خالقا ، والمسيح عندهم إله خالق ، فبطل قولهم على التقديرين ، وإن قالوا : المتحد به الموصوف بالصفة فالموصوف هو الأب ، والمسيح عندهم ليس هو الأب ، وإن قالوا : الصفة فقط ، فالصفة لا تفارق الموصوف ولا تقوم بغير الموصوف ، والصفة لا تخلق ولا ترزق ، وليست الإله ، والصفة لا تقعد عن يمين الموصوف ، والمسيح عندهم صعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه .

وأما كونه هو الأب فقط ، وهو الذات المجردة عن الصفات ، فهذا أشد استحالة ، وليس فيهم من يقول بهذا .

الوجه الثاني : أن الذات المتحدة بناسوت المسيح مع ناسوت المسيح إن كانتا بعد الاتحاد ذاتين ، وهما جوهران كما كانا قبل الاتحاد ، فليس ذلك باتحاد .

وإن قيل : صارا جوهرا واحدا ، كما يقول من يقول منهم : إنهما صارا كالنار مع الحديدة ، أو اللبن مع الماء ، فهذا يستلزم استحالة كل منهما ، وانقلاب صفة كل منهما ، بل حقيقته كما استحال الماء واللبن إذا اختلطا ، والنار مع الحديدة ، وحينئذ فيلزم أن يكون اللاهوت استحال وتبدلت صفته وحقيقته ، والاستحالة لا تكون إلا بعدم شيء ووجود آخر ، فيلزم عدم شيء من القديم الواجب الوجود بنفسه .

[ ص: 311 ] وما وجب قدمه استحال عدمه ، وما وجب وجوده امتنع عدمه ، فإن القديم لا يكون قديما إلا لوجوبه بنفسه ، أو لكونه لازما للواجب بنفسه ، إذ لو لم يكن لازما له ، بل كان غير لازم له لم يكن قديما بقدمه ، والواجب بنفسه يمتنع عدمه ، ولازمه لا يعدم إلا بعدمه ، فإنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم .

الوجه الثالث : أن يقال : الناس لهم في كلام الله عز وجل عدة أقوال ، وقول النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في كلام الله فثبت بطلانه على كل تقدير ، وذلك أن كلام الله سبحانه إما أن يكون صفة له قائما به ، وإما أن يكون مخلوقا له بائنا عنه ، وإما أن يكون لا هذا ولا هذا ، بل هو ما يوجد في النفوس ، وهذا الثالث هو أبعد الأقوال عن أقوال الأنبياء ، وهو قول من يقول من الفلاسفة والصابئة : إن الرب لا تقوم به الصفات وليس هو خالقا باختياره .

ويقولون مع ذلك : إنه ليس عالما بالجزئيات ، ولا قادرا على تغيير الأفلاك ، بل كلامه عندهم ما يفيض على النفوس ، وربما سموه كلاما ، بلسان الحال .

وهؤلاء ينفون الكلام عن الله ، ويقولون : ليس بمتكلم ، وقد يقولون : متكلم مجازا ، لكن لما نطقت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطلقه من دخل في الملل منهم ، ثم فسره بمثل هذا ، وهذا أحد قولي الجهمية .

[ ص: 312 ] والقول الثاني : أنه متكلم حقيقة ، لكن كلامه مخلوق ، خلقه في غيره ، وهو قول المعتزلة وغيرهم ، والقول الآخر للجهمية .

وعلى هذين القولين ، فليس لله كلام قائم به حتى يتحد بالمسيح ، أو يحل به ، والمخلوق عرض من الأعراض ليس بإله خالق ، وكثير من أهل الكتاب : اليهود ، والنصارى ، من يقول بهذا وهذا .

وأما القول الأول ، وهو قول سلف الأمة وأئمتها ، وجمهورها ، وقول كثير من سلف أهل الكتاب ، وجمهورهم - فإما أن يقال : الكلام قديم النوع ، بمعنى أنه لم يزل يتكلم بمشيئته ، أو قديم العين ، وإما أن يقال : ليس بقديم ، بل هو حادث ، والأول هو القول المعروف عن أئمة السنة والحديث .

وأما القائلون بقدم العين ، فهم يقولون : الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته ، لاعتقادهم أنه لا تحله الحوادث ، وما كان بمشيئته وقدرته لا يكون إلا حادثا .

ولهم قولان : منهم من قال : القديم معنى واحد ، أو خمسة معان ، وذلك المعنى يكون أمرا ونهيا وخبرا ، وهذه صفات له لا أقسام له ، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة .

ومنهم من قال : هو حروف ، أو حروف وأصوات قديمة الأعيان .

والقول الثالث : إنه متكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته ، قالوا : وهو حادث ، ويمتنع أن يكون قديما ، لامتناع كون المقدور [ ص: 313 ] المراد قديما ، وهذه الطوائف بنوا أقوالهم على أن ما لم يخل عن الحوادث ، فهو حادث لامتناع وجود ما لا نهاية له عندهم ، وإذا امتنع ذلك تعين أن يكون لنوع الحوادث ابتداء ، كما للحادث المعنى ابتداء ، وما لم يسبق الحوادث كان معه أو بعده ، فيكون حادثا ، فلهذا منع هؤلاء أن تكون كلمات الله لا نهاية لها في الأزل ، وإن كان من هؤلاء من يقول بدوام وجودها في الأبد .

وأما القول بأن كلمات الله لا نهاية لها مع أنها قائمة بذاته ، فهو القول المأثور عن أئمة السلف ، وهو قول أكثر أهل الحديث ، وكثير من أهل الكلام ، ومن الفلاسفة ، وهذه الأقوال قد بسط الكلام عليها في غير موضع .

والمقصود هنا أن قول النصارى باطل على كل قول من هذه الأقوال الأربعة ، كما تقدم بيان بطلانه على ذينك القولين ، فإنه - على قول الجمهور الذين يجعلون لله كلمات كثيرة - إما كلمات لا نهاية لها ولم تزل ، وإما كلمات لها ابتداء ، وإذا كان له كلمات كثيرة فالمسيح ليس هو الكلمات التي لا نهاية لها ، وليس هو كلمات كثيرة ، بل إنما خلق بكلمة من كلمات الله كما في الكتب الإلهية : القرآن والتوراة ، إنه يخلق الأشياء بكلماته .

قال تعالى في قصة بشارة مريم بالمسيح :

قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .

[ ص: 314 ] وقال أيضا :

إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .

وقال : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .

وقد أخبر الله في القرآن بخلقه للأشياء بكلماته في غير موضع ، بقوله :

إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .

وفي التوراة : ليكن يوم الأحد ، ليكن كذا ليكن كذا .

وأيضا فعلى قول هؤلاء وعلى قول من يجعل كلامه إما معنى واحدا ، وإما خمسة معان ، وإما حروف وأصوات هي شيء واحد ؛ فكلهم يقولون : إن الكلام صفة قائمة بالموصوف لا يتصور أن يكون جوهرا قائما بنفسه ، ولا يتصور أن يكون خالقا ، ولا للكلام مشيئة ، ولا هو جوهر آخر غير جوهر المتكلم ، ولا يتحد بغير المتكلم ، بل جمهورهم يقولون : إنه لا يحل أيضا بغير المتكلم .

ومن قال بالحلول منهم فلا يقول : إن الحال جوهر ، ولا إله خالق ، فتبين أن ما قاله النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس [ ص: 315 ] في كلام الله مع أن أكثر هذه الأقوال خطأ ، ولما كان قول النصارى فساده أظهر للعقلاء كان الخطأ الذي في أكثر هذه الأقوال قد خفي على العقلاء الذين قالوها ، ولم يخف عليهم فساد قول النصارى .

وأيضا فالذين قالوا بالحلول من الغلاة الذين يكفرهم المسلمون ، كالذين يقولون بحلوله في بعض أهل البيت أو بعض المشايخ ، هم وإن كانوا كفارا شاركوا النصارى في الحلول ، ولكن لم يقولوا : إن الكلمة التي حلت هي الإله الخالق ، فيتناقضون تناقضا ظاهرا ، مثل ما في قول النصارى من التناقض البين ما ليس في قول هؤلاء ، وإن كانوا في بعض الوجوه قولهم شر من قول النصارى .

الوجه الرابع : أن يقال : لو كان المسيح نفس كلمة الله فكلمة الله ليست هي الإله الخالق للسماوات والأرض ، ولا هي تغفر الذنوب ، وتجزي الناس بأعمالهم ، سواء كانت كلمته صفة له أو مخلوقة له كسائر صفاته ومخلوقاته ، فإن علم الله وقدرته وحياته لم تخلق العالم ، ولا يقول أحد : يا علم الله اغفر لي ، ويا قدرة الله توبي علي ، ويا كلام الله ارحمني ، ولا يقول : يا توراة الله [ ص: 316 ] أو يا إنجيله أو يا قرآنه اغفر لي وارحمني ، وإنما يدعو الله سبحانه ، وهو سبحانه متصف بصفات الكمال ، فكيف والمسيح ليس هو نفس الكلام ؟

فإن المسيح جوهر قائم بنفسه ، والكلام صفة قائمة بالمتكلم ، وليس هو نفس الرب المتكلم ، فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الأب ، والمسيح ليس هو الأب عندهم ، بل الابن ، فضلوا في قولهم من جهات :

منها : جعل الأقانيم ثلاثة ، وصفات الله لا تختص بثلاثة .

ومنها : جعل الصفة خالقة ، والصفة لا تخلق .

ومنها : جعلهم المسيح نفس الكلمة ، والمسيح خلق بالكلمة ، فقيل له كن فكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفسير ذلك ، وإنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر ، لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات ، يخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح ، وخلقوا من ماء الأبوين : الأب والأم .

والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء رجل ، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به ، وقال الله : كن فكان ، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله :

[ ص: 317 ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .

فإن آدم عليه السلام خلق من تراب وماء ، فصار طينا ، ثم أيبس الطين ، ثم قال له : كن فكان ، وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرا تاما ، لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح ، فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه ، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر ، ثم يخرج طفلا يرتضع ، ثم يكبر شيئا بعد شيء ، وآدم عليه السلام حين خلق جسده قيل له كن فكان بشرا تاما بنفخ الروح فيه ، ولكن لم يسم كلمة الله لأن جسده خلق من التراب والماء وبقي مدة طويلة يقال : أربعين سنة ، فلم يكن خلق جسده إبداعيا في وقت واحد ، ، بل خلق شيئا فشيئا ، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة .

وأما المسيح عليه السلام فخلق جسده خلقا إبداعيا بنفس نفخ روح القدس في أمه ، قيل له : كن فكان ، فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر ، ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعين باسم ، وأبقت الاسم العام مختصا بالنوع ، كلفظ الدابة والحيوان ، فإنه عام في كل ما يدب ، وكل حيوان ، ثم لما كان للآدمي اسم يخصه [ ص: 318 ] بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم ، ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك ، وكذلك لفظ الجائز والممكن ، وذوي الأرحام ، وأمثال ذلك ، فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصا بالمسيح .

الطريق الثاني : أن ما ذكروه حجة عليهم ، فإن الله إذا لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب ، فالمسيح عيسى ابن مريم يجب أن لا يكلمه إلا وحيا ، أو من وراء حجاب ، أو يرسل إليه رسولا .

وقوله تعالى :

وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب .

يعم كل بشر : المسيح وغيره .

وإذا امتنع أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فامتناع أن يتحد به أو يحل فيه أولى وأحرى .

فإن ما اتحد به وحل فيه كلمة الله من غير حجاب بين اللاهوت والناسوت ، وهم قد سلموا أن الله لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب .

[ ص: 319 ] الوجه الثالث : أن قوله .

وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب .

يقتضي أن يكون الحجاب حجابا يحجب البشر كما حجب موسى ، فيقتضي ذلك أنهم لا يرونه في الدنيا وإن كلمهم ، كما أنه كلم موسى ولم يره موسى ، بل سأل الرؤية فقال :

قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين .

قيل : أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا ، وعندهم في التوراة : إن الإنسان لا يمكنه أن يرى الله في الدنيا فيعيش ، [ ص: 320 ] وكذلك قال عيسى لما سألوه عن رؤية الله فقال : إن الله لم يره أحد قط . وهذا معروف عندهم ، وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون الحجاب الحاجب للبشر ليس هو من البشر ، وهذا يبطل قول النصارى فإنهم يقولون : إن الرب احتجب بحجاب بشري ، وهو الجسد الذي ولدته مريم ، فاتخذه حجابا وكلم الناس من ورائه ، والقرآن يدل على أن الحجاب ليس من البشر .

يبين هذا الوجه الرابع : وهو أن ذلك الجسد الذي ولدته مريم هو من جنس أجسام بني آدم ، فإن جاز أن يتحد به ، ويحل فيه ، ويطيق الجسد البشري ذلك في الدنيا بما يجعله الله فيه من القوة ، جاز أن يتحد بغيره من الأجسام بما يجعله فيها من القوة ، وإذا جاز أن يتحد بها جاز أن يكلمها بغير حجاب بينه وبينها بطريق الأولى والأحرى ، وهذا خلاف ما ذكروه وخلاف القرآن .

فتبين أن نفي الأنبياء لأن يراه المرء في الدنيا هو نفي لمماسته ببشر بطريق الأولى والأحرى ، والناسوت المسيحي هو بشر فإذا لم يمكنه أن يرى الله فكيف يمكنه أن يتحد به ، ويماسه ويصير هو وإياه كاللبن والماء ، والنار والحديد ، أو كالروح والبدن ؟

الوجه الخامس : أنه من المعلوم أن رؤية الآدمي له أيسر من [ ص: 321 ] اتحاده به ، وحلوله فيه ، وأولى بالإمكان ، فإذا كانت الرؤية في الدنيا قد نفاها الله ، ومنعها على ألسن رسله : موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه ، فكيف يجوز اتصاله بالبشر واتحاده به ؟

الوجه السادس : أنه لو كان حلوله في البشر مما هو ممكن وواقع ، لم يكن لاختصاص واحد من البشر بذلك دون من قبله وبعده معنى ، فإن القدرة شاملة ، والمقتضى - وهو وجود الله وحاجة الخلق - موجودة ، ولهذا لما كانت الرسالة ممكنة أرسل من البشر غير واحد ، ولما كان سماع كلامه للبشر ممكنا سمع كلامه غير واحد ، ورؤيته في الدنيا بالأبصار لم تقع لأحد باتفاق علماء المسلمين ، لكن لهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - قولان ، والذي عليه أكابر العلماء وجمهورهم أنه لم يره بعينه ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة .

والخلة لما كانت ممكنة اتخذ إبراهيم خليلا ، واتخذ محمدا أيضا خليلا كما في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وقال صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا [ ص: 322 ] لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله ، يعني نفسه .

الوجه السابع : قولهم : وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف مثل الروح وغيرها - فكلمة الله التي بها خلقت الكثائف تظهر في غير كثيف كلا .

فيقال لهم : ظهور اللطائف في الكثائف كلام مجمل ، فإن أردتم أن روح الإنسان تظهر في جسده ، أو الجني يتكلم على لسان المصروع ونحو ذلك - فليس هذا مما نحن فيه ، وإن أردتم أن الله تعالى نفسه يحل في البشر ، فهذا محل النزاع ، فأين الدليل عليه وأنتم لم تذكروا إلا ما يدل على نقيض ذلك ؟

الوجه الثامن : أن هذا أمر لم يدل عليه عقل ولا نقل ، ولا نطق نبي من الأنبياء بأن الله يحل في بشر ، ولا ادعى صادق قط حلول الرب فيه ، وإنما يدعي ذلك الكذابون ، كالمسيح الدجال الذي يظهر في آخر الزمان ، ويدعي الإلهية ، فينزل الله تبارك وتعالى عيسى ابن مريم [ ص: 323 ] مسيح الهدى ، فيقتل مسيح الهدى الذي ادعيت فيه الإلهية بالباطل المسيح الدجال الذي ادعى الإلهية بالباطل ، ويبين أن البشر لا يحل فيه رب العالمين .

ولهذا لما أنذر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسيح الدجال ، وقال : ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذر قومه به وذكر النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم ، تبين كذبه :

أحدها : قوله : مكتوب بين عينيه كافر ، " ك ف ر " يقرؤه كل مؤمن : قارئ وغير قارئ

[ ص: 324 ] الثاني : قوله : واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت فبين أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه ، وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين ، فعلم أن الله لا يتحد ببشر .

الثالث : قوله : إنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة .

لكن لما كان حلول اللاهوت في البشر واتخاذه به مذهبا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم النصارى وغيرهم ، وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة ، والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك - ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من علامات كذبه أمورا ظاهرة لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين ، فإن كثيرا من الناس ، بل أكثرهم ، تدهشهم الخوارق حتى يصدقوا صاحبها قبل النظر في إمكان دعواه ، وإذا صدقوه صدقوا النصارى في دعوى إلهية المسيح ، وصدقوا أيضا من ادعى الحلول [ ص: 325 ] والاتحاد في بعض المشايخ ، أو بعض أهل البيت أو غيرهم من أهل الإفك والفجور .

وبهذا يظهر الجواب عما يورده بعض أهل الكلام كالرازي على هذا الحديث حيث قالوا : دلائل كون الدجال ليس هو الله - ظاهرة ، فكيف يحتج النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله : إنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ؟ وهذا السؤال يدل على جهل قائله بما يقع فيه بنو آدم من الضلال ، وبالأدلة البينة التي تبين فساد الأقوال الباطلة ، وإلا فإذا كان بنو إسرائيل في عهد موسى ظنوا أن العجل هو إله موسى ، فقالوا : هذا إلهكم وإله موسى ، وظنوا أن موسى نسيه .

والنصارى مع كثرتهم يقولون : إن المسيح هو الله . وفي المنتسبين إلى القبلة خلق كثير يقولون ذلك في كثير من المشايخ وأهل البيت ، حتى إن كثيرا من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد ، وهو أن يكون الموحد هو الموحد ، وينشدون :

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد     توحيد من يخبر عن نعته
عارية أبطلها الواحد     توحيده إياه توحيده
ونعت من ينعته لاحد

فكيف يستبعد مع إظهار الدجال هذه الخوارق العظيمة أن يعتقد فيه أنه الله ، وهو يقول : أنا الله ، وقد اعتقد ذلك فيمن لم يظهر فيه مثل خوارقه من الكذابين وفيمن لم يقل : أنا الله ، كالمسيح ، وسائر الأنبياء والصالحين .

[ ص: 326 ] الوجه التاسع : قولهم : فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا ، فيقال لهم : كلمة الله التي يدعون ظهورها في المسيح ، أهي كلام الله الذي هو صفته ، أو ذات الله المتكلمة أو مجموعها ؟ فإن قلتم : الظاهر فيه نفس الكلام فهذا يراد به شيئان :

إن أريد به أن الله أنزل كلامه على المسيح ، كما أنزله على غيره من الرسل ، فهذا حق اتفق عليه أهل الإيمان ، ونطق به القرآن .

وإن أريد به أن كلام الله فارق ذاته وحل في المسيح أو غيره ، فهو باطل مع أن هذا لا ينفع النصارى ، فإن المسيح عندهم إله خلق السماوات والأرض ، وهو عندهم ابن آدم وخالق آدم ، وابن مريم وخالق مريم ، ابنها بناسوته وخالقها بلاهوته .

وإن أرادوا بظهور الكلمة ظهور ذات الله أو ظهور ذاته وكلامه في الكثيف الذي هو الإنسان ، فهذا أيضا يراد به ظهور نوره في قلوب المؤمنين ، كما قال تعالى :

الله نور السماوات والأرض إلى قوله : كوكب دري الآية .

وكما ظهر الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من [ ص: 327 ] جبال فاران ، وكما تجلى لإبراهيم ، كما ذكره في التوراة ، فهذا لا يختص بالمسيح ، بل هو لغيره كما هو له .

وإن أرادوا أن ذات الرب حلت في المسيح ، أو في غيره فهذا محل النزاع ، فأين دليلهم على إمكان ذلك ثم وقوعه ؟ مع أن جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم يقولون : هذا غير واقع ، بل هو ممتنع .

الوجه العاشر : قولهم : فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا - كلام باطل .

فإن ظهور ما يظهر من الأمور الإلهية إذا أمكن ظهوره فظهوره في اللطيف أولى من ظهوره في الكثيف ، فإن الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام ، وتتلقى كلام الله من الله ، وتنزل به على الأنبياء عليهم السلام ، فيكون وصول كلام الله إلى ملائكة قبل وصوله إلى البشر وهم الوسائط كما قال تعالى :

أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء

[ ص: 328 ] والله تعالى أيد رسله من البشر حتى أطاقوا التلقي عن الملائكة ، وكانت الملائكة تأتيهم أحيانا في غير الصورة البشرية ، وأحيانا في الصورة البشرية ، فكان ظهور الأمور الإلهية باللطائف ووصولها إليهم أولى منه بالكثائف ، ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحي من الأحياء ، ويحل فيه ، لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر .

الوجه الحادي عشر : أن الناسوت المسيحي عندهم الذي اتحد به هو البدن والروح معا ، فإن المسيح كان له بدن وروح ، كما لسائر البشر ، واتحد به عندهم اللاهوت ، فهو عندهم اسم يقع على بدن وروح آدميين وعلى اللاهوت ، وحينئذ فاللاهوت على رأيهم إنما اتحد في لطيف وهو الروح ، وكثيف وهو البدن ، لم يظهر في كثيف فقط ، ولولا اللطيف الذي كان مع الكثيف ، وهو الروح - لم يكن للكثيف فضيلة ولا شرف .

الوجه الثاني عشر : أنهم يشبهون اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن ، كما شبهوا هنا ظهوره فيه بظهور الروح في البدن ، وحينئذ فمن المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح ، وما تتألم به الروح يتألم به البدن ، فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صلب وتألم وتوجع الوجع الشديد كان اللاهوت أيضا متألما متوجعا ، وقد خاطبت بهذا بعض النصارى فقال لي : الروح بسيطة ، أي لا يلحقها ألم ، فقلت له : فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت ، أمنعمة أو معذبة ؟ فقال : هي في العذاب ، فقلت : فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذب ، فإذا [ ص: 329 ] شبهتم اللاهوت في الناسوت بالروح في البدن لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت كما تتألم الروح إذا تألم البدن ، فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك .

الوجه الثالث عشر : أن قولهم : وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - فكلمة الله لا تظهر إلا في كثيف كلا .

تركيب فاسد لا دلالة فيه ، وإنما يدل إذا بينوا أن كل لطيف يظهر في كثيف ، ولا يظهر في غيره حتى يقال : فلهذا ظهر الله في كثيف ولم يظهر في لطيف ، وإلا فإذا قيل : إنه لا يحل لا في لطيف ، ولا كثيف ، أو قيل إنه يحل فيهما - بطل قولهم بوجوب حلوله في المسيح الكثيف دون اللطيف ، وهم لم يؤلفوا الحجة تأليفا منتجا ، ولا دلوا على مقدماتها بدليل ، فلا أتوا بصورة الدليل ، ولا مادته ، ، بل مغاليط لا تروج إلا على جاهل يقلدهم .

ولا يلزم من حلول الروح في البدن أن يحل كل شيء في البدن ، بل هذه دعوى مجردة ، فأرواح بني آدم تظهر في أبدانهم ، ولا تظهر في أبدان البهائم ، بل ولا في الجن ، والملائكة تتصور في صورة الآدميين ، وكذلك الجن ، والإنسان لا يظهر في غير صورة الإنسان ، فأي دليل من كلامهم على أن الرب يحل في الإنسان الكثيف ، ولا يحل في اللطيف ؟

والقوم شرعوا يحتجون على تجسيم كلمة الله الخالقة فقالوا : وأما تجسيم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا ، أي الكلمة مع [ ص: 330 ] الناسوت ، فإن الله لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب وليس فيما ذكروه قط دلالة لا قطعية ولا ظنية على تجسيم كلمة الله الخالقة وولادتها مع الناسوت .

الوجه الرابع عشر : أنهم قالوا : وأما تجسيم كلمة الله الخالقة ، ثم قالوا : فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف ، فتارة يجعلونها خالقة ، وتارة يجعلونها مخلوقا بها ، ومعلوم أن الخالق ليس هو المخلوق به ، والمخلوق به ليس هو الخالق ، فإن كانت الكلمة خالقة ، فهي خلقت الأشياء ، ولم تخلق الأشياء بها ، وإن كانت الأشياء خلقت بها ، فلم تخلق الأشياء ، بل خلقت الأشياء بها ، ولو قالوا : إن الأشياء خلقت بها بمعنى أن الله إذا أراد أمرا فإنما يقول له : كن فيكون ، لكان هذا حقا ، لكنهم يجعلونها خالقة ، مع قولهم بما يناقض ذلك .

الوجه الخامس عشر : أن يقال لهم : إذا كان الله لم يخاطب بشرا إلا وحيا أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء - فتكليمه للبشر بالوحي ومن وراء حجاب ، كما كلم موسى ، وبإرسال ملك ، كما أرسل الملائكة - إما أن يكون كافيا في حصول مراد الرب من الرسالة إلى عباده ، أو ليس كافيا ، بل لا بد من حلوله نفسه في بشر ، فإن كان ذلك كافيا أمكن أن يكون المسيح مثل غيره فيوحي الله إليه أو يرسل إليه ملكا فيوحي بإذن الله ما يشاء ، أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم [ ص: 331 ] موسى ، وحينئذ فلا حاجة به إلى اتحاده ببشر مخلوق ، وإن كان التكلم ليس كافيا وجب أن يتحد بسائر الأنبياء ، كما اتحد بالمسيح فيتحد بنوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم ، يبين هذا :

الوجه السادس عشر : وهو أنه من المعلوم أن الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح أفضل من عوام النصارى الذين كانوا بعد المسيح ، وأفضل من اليهود الذين كذبوا المسيح فإذا كان الرب قد يفضل باتحاده في المسيح حتى كلم عباده بنفسه ، فيتحد بالمسيح محتجبا ببدنه الكثيف ، وكلم بنفسه اليهود المكذبين للمسيح وعوام النصارى ، وسائر من كلمه المسيح ، فكان أن يكلم من هم أفضل من هؤلاء من الأنبياء والصالحين بنفسه أولى وأحرى ، مثل أن يتحد بإبراهيم الخليل ، فيكلم إسحاق ويعقوب ولوطا محتجبا ببدن الخليل ، أو يتحد بيعقوب فيكلم أولاده أو غيرهم محتجبا ببدن يعقوب أو يتحد بموسى بن عمران فيكلم هارون ويوشع بن نون وغيرهما محتجبا ببدن موسى ، فإذا كان هو سبحانه لم يفعل ذلك ، إما لامتناع ذلك ، وإما لأن عزته وحكمته أعلى من ذلك مع عدم الحاجة إلى ذلك ، علم أنه لا يفعل ذلك في المسيح بطريق الأولى والأحرى .

الوجه السابع عشر : أنه إذا أمكنه أن يتحد ببشر فاتحاده بملك من الملائكة أولى وأحرى ، وحينئذ فقد كان اتحاده بجبريل الذي أرسله إلى الأنبياء أولى من اتحاده ببشر يخاطب اليهود ، وعوام النصارى .

التالي السابق


الخدمات العلمية