الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 379 ] قالوا : وقال ميخا النبي : ( وأنت يا بيت لحم قرية يهودا بيت أفراتا ، يخرج لي رئيس الذي يرعى شعبي إسرائيل ، وهو من قبل أن تكون الدنيا ، لكنه لا يظهر إلا في الأيام التي تلده فيها الوالدة ، وسلطانه من أقاصي الأرض إلى أقاصيها ) .

والجواب : أن عامة ما يذكرونه عن الأنبياء عليهم الصلاة [ ص: 380 ] والسلام حجة عليهم لا لهم ، كما ذكروه عن المسيح عليه السلام في أمر التثليث ، فإنه حجة عليهم لا لهم ، وهكذا تأملنا عامة ما يحتج به أهل البدع والضلالة من كلام الأنبياء ، فإنه إذا تدبر حق التدبر وجد حجة عليهم لا لهم ، فإن كلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هدى وبيان ، وهم معصومون لا يتكلمون بباطل .

فمن احتج بكلامهم على باطل فلا بد أن يكون في كلامهم ما يبين به أنهم أرادوا الحق لا الباطل ، وهذا مثل قوله في هذه النبوة : ( منك يخرج لي رئيس ) ، فهذا صريح في أن هذا الذي يخرج هو رئيس الله ليس هو الله ، بل هو رئيس له كسائر الرؤساء الذين لله ، وهم الرسل والأنبياء المطاعون مثل : داود ، و موسى ، وغيرهما .

ولهذا قال : ( الذي يرعى شعبي إسرائيل ) ، ولو كان هو ، لكان هو راعي شعب نفسه ، وأما قوله : ( وهو من قبل أن تكون الدنيا ) فهذا مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ميسرة الفجر ، وقد قيل له : يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : " وآدم بين الروح والجسد " وفي لفظ : متى كتبت نبيا ؟ قال : " وآدم بين الروح والجسد " ، وفي [ ص: 381 ] مسند الإمام أحمد ، عن العرباض بن سارية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول أمري ، أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي ، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام " فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبيا ، وكتب نبيا وآدم بين الروح والجسد ، وأنه مكتوب عند الله خاتم النبيين وآدم منجدل في طينته .

ومراده صلى الله عليه وسلم أن الله كتب نبوته ، وأظهرها وذكر اسمه ، ولهذا جعل ذلك في ذلك الوقت بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ [ ص: 382 ] الروح فيه ، كما يكتب رزق المولود وأجله وعمله ، وشقي هو أو سعيد بعد خلق جسده ، وقبل نفخ الروح فيه .

وكذلك قول القائل في المسيح عليه السلام وهو من قبل أن تكون الدنيا ، فإنه مكتوب مذكور من قبل أن تكون الدنيا .

فإنه قد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " .

وفي صحيح البخاري ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان الله ولم يكن شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السماوات [ ص: 383 ] والأرض " .

وهو قد قال : قبل أن تكون الدنيا ، ولم يقل : إنه كان قديما أزليا مع الله لم يزل ، كما يقول النصارى : إنه صفة الله الأزلية ، بل وقت ذلك بقوله : " قبل أن تكون الدنيا " ، ولا يحسن أن يقال في رب العالمين كان قبل أن تكون الدنيا ؛ فإنه سبحانه قديم أزلي ، ولا ابتداء لوجوده فلا يوقت بهذا المبدأ ، لا سيما إن أريد بكون الدنيا عمارتها بآدم وذريته ، فإن الدنيا قد لا تدخل فيها السماوات والأرض ، بل يجعل من الآخرة ، وأرواح المؤمنين في الجنة في السماوات ، ويراد بالدنيا الحياة الدنيا أو الدار الدنيا .

ولهذا قال : لكنه لا يظهر إلا في الأيام التي تلده فيها الوالدة كما يظهر غيره من الأنبياء بعد أن تلده أمه .

والوالدة إنما ولدت الناسوت ، وأما اللاهوت فهو عندهم مولود من الله القديم الأزلي ، وإذا قالوا فهي ولدت اللاهوت مع الناسوت كان هذا معلوم الفساد من وجوه كثيرة ، وإذا قيل : لم خص عيسى المسيح عليه السلام بالذكر ؟ قيل : كما خص محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر ، لأن أمر المسيح كان أظهر وأعظم ممن قبله من الأنبياء بعد موسى .

وكذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان أظهر وأعظم من [ ص: 384 ] أمر جميع الأنبياء قبله ، وإذا عظم الشيء كان ظهوره في الكتاب أعظم .

وظن بعض النصارى أن المراد بذلك وجود ذات المسيح ، يضاهي ظن طائفة من غلاة المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم الذين يقولون : إن ذات النبي صلى الله عليه وسلم كانت موجودة قبل خلق آدم

ويقولون : إنه خلق من نور رب العالمين ، ووجد قبل خلق آدم ، وأن الأشياء خلقت منه حتى قد يقولون في محمد صلى الله عليه وسلم من جنس قول النصارى في المسيح ، حتى قد يجعلون مدد العالم منه ، ويروون في ذلك أحاديث وكلها كذب ، مع أن هؤلاء لا يقولون إن المتقدم هو اللاهوت ، بل يدعون تقدم حقيقته وذاته ، ويشيرون إلى شيء لا حقيقة له ، كما تشير النصارى إلى تقدم لاهوت اتحد به لا حقيقة له .

ومن هؤلاء الغلاة من يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قال : إني كلي بشر فقد كفر ، ومن قال لست ببشر فقد [ ص: 385 ] كفر " ويحتجون بقوله تعالى :

ما كان محمد أبا أحد من رجالكم .

فيجعلون فيه شيئا من اللاهوت مضاهاة للنصارى .

وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم بالحديث ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين ، أنه قال : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ( فقولوا عبد الله ورسوله ) .

وقد قال تعالى عنه :

قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .

وهذا من جنس الغلاة الذين يقولون : إن الرب يحل في الصالحين ، ويتكلم على ألسنتهم ، وإن الناطق في أحدهم هو الله لا نفسه ، وقول هؤلاء من جنس قول النصارى في المسيح ، ويقول أحدهم : إن الموحد هو الموحد ، وينشدون :

[ ص: 386 ]

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد     توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد     توحيده إياه توحيده
ونعت من ينعته لاحد

وهو من جنس قول الذين يجعلون روح الإنسان قديمة أزلية ، ويقولون : هي صفة الله فيجعلون نصف الإنسان لاهوتا ، ونصفه ناسوتا ، لكن اللاهوت عندهم هو روحه ، لا لاهوت واحد كما يقوله النصارى وعلى قول هؤلاء مع قول النصارى يكون في المسيح وأمثاله ممن ادعي فيه اتحاد اللاهوت به لاهوتان : روحه لاهوت والكلمة لاهوت ثان ، ومن جنس هؤلاء من ينشد ما يحكى عن الحلاج أنه أنشد :


سبحان من أظهر ناسوته     سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا     في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه     كلحظة الحاجب للحاجب

ولو قدر أن نفسه هي التي كانت قبل أن تكون الدنيا ، فهذا لا يدل على أنه الله أو صفة الله ، بل إذا قال من يدعي أن روحه كانت موجودة حينئذ : المراد روحه ، كان هذا أقرب من قول النصارى ، وفي الجملة ما يخبر عن المسيح أنه كان قبل أن تكون الدنيا بمنزلة ما عند أهل الكتاب ، عن سليمان أنه قال : ( كنت قبل أن تكون الدنيا ) ثم قد ثبت [ ص: 387 ] باتفاق الخلائق أن سليمان لم يكن اللاهوت متحدا به ، فعلم أن مثل هذا الكلام لا يوجب اتحاد اللاهوت به ، بل المسلمون يعدلون في القول ، ويفسرون كلام الله في كتبه بعضه ببعض ، ويجعلون كلامه يصدق بعضه بعضا لا يناقض بعضه بعضا .

وأما أهل الضلال من النصارى وغيرهم فيفضلون المفضول على من هو أفضل منه ، ويبخسون الفاضل حقه ، ويغلون في المفضول ويبخسون الأنبياء حقوقهم ، مثل تنقصهم لسليمان ، فإن كثيرا من اليهود والنصارى يطعنون فيه .

منهم من يقول : كان ساحرا ، وأنه سحر الجن بسحره .

ومنهم من يقول : سقط عن درجة النبوة ، فيجعلونه حكيما لا نبيا ، ولهذا ذكر الله في القرآن تبرئة سليمان عن ذلك ، وذلك أن سليمان سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فسخر لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، والشياطين كل بناء وغواص ، وآخرين مقرنين في الأصفاد ، فسخر له الريح غدوها شهر ، ورواحها شهر ، ولما طلب من الملأ أن يأتوه بعرش ( بلقيس ) ملكة اليمن ، وكان هو بالشام :

[ ص: 388 ] قال : ( ياأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ( 38 ) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ( 39 ) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم .

فلما مات سليمان عمدت الشياطين إلى أنواع من الشرك فكتبوها ووضعوها تحت كرسيه ، وقالوا : كان سليمان يسخر الجن بهذا ، فصار هذا فتنة لمن صدق بذلك وصاروا طائفتين ، طائفة علمت أن هذا من الشرك والسحر ، وأنه لا يجوز ، فطعنت في سليمان كما فعل ذلك كثير من أهل الكتاب اليهود والنصارى .

وطائفة قالت : سليمان نبي ، وإذا كان قد سخر الجن بهذا دل على أن هذا جائز ، فصاروا يقولون ويكتبون من الأقوال التي فيها الشرك والتعزيم والإقسام بالشرك والشياطين - ما تحبه الشياطين وتختاره ويساعدونهم لأجل ذلك على بعض مطالب الإنس ، إما إخبارا بأمور غائبة يخلطون فيها كذبا كثيرا ، وإما تصرفا في بعض الناس ، كما يقتل الرجل أو يمرض بالسحر ، أو تسرق الشياطين له بعض الأموال ، ونحو ذلك مما فيه إعانة الشياطين للإنس على أمور تريدها الإنس ، لأجل مطاوعة الإنس وموافقتهم للشياطين على ما تريده الشياطين من الكفر والفسوق والعصيان .

[ ص: 389 ] وكثير منهم يضيف ذلك إلى سليمان وإلى " آصف بن برخيا " ويصورون خاتم سليمان ، وقد يأخذون الرجل الذي صار من إخوانهم إلى مواضع فيرونه شخصا ، ويقولون : هذا سليمان بن داود ، كما قد جرى مثل ذلك لمن نعرفه من المشايخ الذين كانت تقترن بهم الشياطين ، وكان لهم خوارق شيطانية من جنس خوارق السحرة والكهان .

فنزه الله تعالى سليمان من كذب هؤلاء ، وهؤلاء الذين جعلوه يسخر الشياطين بنوع من الشرك والسحر ، هؤلاء جرحوه ، وهؤلاء زعموا أنهم يتبعونه فقال تعالى :

( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ( 102 ) ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون )

[ ص: 390 ] ومثل هذا كثير يحكى عن بعض الأنبياء ، أو بعض أهل العلم والدين ، من أمور ليست من شرع الله ، فيصدق بها بعض الناس ، وتصير فتنة لطائفتين مصدقتين بها .

طائفة تقدح في ذلك النبي أو الرجل الصالح بما هو منه بريء .

وطائفة تقول : إنها تتبعه فيم يقول ، وهذا موجود في كثير مما يحكيه أهل الكتاب عن الأنبياء ، فإن اليهود تذكر عنهم ما يقدح في نبوتهم .

والنصارى تجعل ذلك قدوة لهم فيما يبتدعونه ، وهذا مبسوط في موضع آخر ، فالمقصود هنا أن الكلام الذي وصف به المسيح إما وصفه به الأنبياء قبله ، أو أخبر به عن نفسه - موجود مثله في حق غيره ، ولم يكن أحدهم بذلك لاهوتا وناسوتا ، ولا اتحد اللاهوت بالناسوت ، ولا استحق أحدهم بذلك أن يعبد ويصلى له ويسجد ويدعى كما يدعى الله ، ويضاف إليه ما يضاف إلى الله من الخلق والبعث والثواب والعقاب ، وليس للمسيح صلوات الله عليه آية خارقة إلا ولغيره مثلها وأعظم منها ، ولا قيل فيه كلمة ، إلا قيل في غيره مثلها وأعظم منها ، إلا ما خصه فيه القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية