[ ص: 470 ] قالوا : فمن أجل هذا البيان الواضح الذي قاله الله في التوراة ، وفي كتب الأنبياء نجعل ثلاثة أقانيم : جوهرا واحدا ، إلها واحدا ، خالقا واحدا .
وهو الذي نقوله : أب ، وابن ، وروح قدس .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن النصارى ونحوهم ، وليس فيها ذكر الأقانيم لا لفظا ولا معنى ، حيث يجعلون الأقنوم اسما للذات مع الصفة ، والذات واحدة ، والتعدد في الصفات لا في الذات . في التوراة والكتب الإلهية من إثبات وحدانية الله ، ونفي تعدد الآلهة ، ونفي إلهية ما سواه - ما هو صريح في إبطال قول
ولا يمكن أن تتحد صفة دون الأخرى ، ولا دون الذات ، فيمتنع اتحاد أقنوم أو حلوله بشيء من المخلوقات دون الأقنوم الآخر ، ولا إثبات ثلاثة أقانيم ولا إثبات ثلاث صفات دون ما سواها في شيء من الكتب الإلهية ، ولا كلام الحواريين ، ولا إثبات إله حق من إله حق ، ولا تسمية صفات الله - مثل كلامه وحياته - لا ابنا ، ولا إلها ، ولا ربا ، ولا إثبات [ ص: 471 ] اتحاد الرب خالق السماوات والأرض بشيء من الآدميين ، ولا حلول ذات وصفة دون ذات مع الصفات الأخرى ، بل ولا حلول نفس الصفة القائمة به في غيره ، لا علمه ولا كلامه ولا حياته ، ولا غير ذلك .
، بل جميع ما أثبتوه من ليس في كتب الأنبياء التي بأيديهم ما يدل عليه ، بل فيها أقوال كثيرة صريحة بنقيض ذلك مع القرآن والعقل ، فهم مخالفون للمعقول وكتب الله المنزلة . التثليث والحلول والاتحاد
الثاني : أنهم فينقضون كلامهم بعضهم ببعض ، ويقولون من الأقوال المتناقضة ما يعلم بطلانه كل عاقل تصوره . يقولون : إنما نثبت إلها واحدا ، ثم يقولون في أمانتهم وأدلتهم وغير ذلك من كلامهم ما هو صريح بإثبات ثلاثة آلهة ،
وهذا لا ينضبط لهم قول مطرد ، كما يقول من يقول من عقلاء الناس : إن النصارى ليس لهم قول يعقله عاقل ، وليس أقوالهم منصوصة [ ص: 472 ] عن الأنبياء ، فليس معهم لا سمع ولا عقل ، كما قال الله تعالى عن أصحاب النار :
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير .
وهم أيضا يبطنون خلاف ما يظهرون ، ويفهم جمهور الناس من مقالاتهم خلاف ما يزعم بعضهم أنه مرادهم ، فإنه قد تقدم آنفا من استدلالهم بالتوراة ، وقوله : ( وكلم الله موسى من العليقة قائلا : أنا إله إبراهيم ، وإله إسحاق ، وإله يعقوب ) قالوا : ولم يقل : أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، بل كرر اسم إله ثلاث دفوع قائلا : أنا إله 00 وإله 00 وإله 00 لتحقق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته ، فيقال لهم : وإن كان هذا التكرير لا يقتضي إلا إثبات إله واحد فلا حجة لكم فيه ، كما لو قال أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإن كان يقتضي إثبات ثلاثة آلهة : فقد أثبتم ثلاثة آلهة ، وأنتم تقولون : لا نثبت إلا إلها واحدا ، وإن كان المعنى : إنه إله واحد موصوف بأنه معبود إبراهيم ، ومعبود إسحاق ، ومعبود يعقوب ، فلا حجة لكم فيه على التثليث والأقانيم ، ( بحيث تجعلون الأقنوم اسما للذات مع صفة والذات واحدة ، فالتعدد في [ ص: 473 ] الصفات لا في الذات ، ولا يمكن أن تتحد صفة دون أخرى ، ولا دون الذات فيمتنع اتحاد أقنوم وحلوله بشيء من المخلوقات دون الأقنوم الآخر .
الوجه الثالث : قولهم : وهو الذي نقوله : أب ، وابن ، وروح القدس ، قد تقدم أن هذا القول هم معترفون بأنهم لم يقولوه ابتداء ، ولا علموا بالعقل التثليث الذي قالوه في أمانتهم ، ثم عبروا عنه بهذه العبارة ، بل هذه العبارة منقولة عندهم في بعض الأناجيل : أن المسيح عليه الصلاة والسلام أمر أن يعمدوا الناس بها ، وحينئذ ، فالواجب إذا كان المسيح قالها أن ينظر ما أراد بها ، وينظر سائر ألفاظه ومعانيها فيفسر كلامه ، بلغته التي تكلم بها تفسيرا يناسب سائر كلامه .
وهؤلاء حملوا كلام المسيح والأنبياء عليهم السلام على شيء لا يدل عليه كلامهم ، بل يدل على نقيضه فسموا كلام الله أو علمه أو حكمته أو نطقه - ابنا ، وهذه تسمية ابتدعوها لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله باسم الابن ، ولا باسم الرب ، ولا باسم الإله ، ثم لما أحدثوا هذه التسمية قالوا : مراد المسيح بالابن هو الكلمة ، وهذا افتراء على المسيح عليه السلام ، وحمل لكلامه على معنى لا يدل عليه لفظه .
[ ص: 474 ] ولفظ الابن عندهم في كتبهم يراد به من رباه الله تبارك وتعالى ، فلا يطلق عندهم في كلام الأنبياء لفظ الابن قط ، إلا على مخلوق محدث ، ولا يطلق إلا على الناسوت دون اللاهوت ، فيسمى عندهم إسرائيل ابنا وداود ابنا لله ، والحواريون كذلك ، بل عندهم في إنجيل يوحنا في ذكر المسيح إلى خاصته ، أي وخاصته لم يقبلوه ، والذين قبلوه أعطاهم ليكونوا أبناء الله الذي ليس من دم ولا من مشبه لحم ، ولا من مشبه رجل ، بل من الله ولد .
فهذا إخبار بأنهم يكونون جميعا أبناء الله ، وهم معترفون بأنه ليس فيهم لاهوت يتحد بناسوت ، بل كل منهم ناسوت محض ، فعلم أن الكتب ناطقة بأن ، وليس معهم لفظ ابن الله ، والمراد به صفة من صفات الله . لفظ ابن الله يتناول الناسوت فقط
فقولهم : إن المسيح أراد بلفظ الابن اللاهوت كذب بين عليه ، والمسيح لا يسمى ابنا بهذا الاعتبار ، وروح القدس لم يعبر [ ص: 475 ] بها أحد من الأنبياء عن حياة الله التي هي صفته ، بل روح القدس في كتب الله يراد بها الملك ، ويراد بها الهدى والوحي والتأييد ، فيقال : روح الله ، كما يقال : نور الله ، وهدى الله ، ووحي الله ، وملك الله ، ورسول الله ، لم يرد به أحد من الأنبياء ، بقوله : روح الله ، وروح القدس - ما يريده الإنسان بقوله : ( روحي ) .
فالإنسان مركب من روح وبدن ، وفي بدنه بخار يخرج من القلب ، ويسري في بدنه ، وله جوف يخرج منه هواء ويدخل فيه ، فإذا قيل : روح الإنسان فقد يراد بها الروح التي بها البخار اللطيف الذي في البدن ، وقد يراد بها الريح الذي يخرج من جوف البدن ، ويدخل فيه .
والله تبارك وتعالى بإجماع المسلمين واليهود والنصارى ليس هو روحا وبدنا كالإنسان ، وهو سبحانه أحد صمد ، لا جوف له ، ولا يدخل فيه شيء ، ولا يخرج منه شيء ، لا بخار ولا هواء متردد .
وقد يعبر بعض الناس بلفظ الروح عن الحياة ، والله تعالى حي له حياة ، لكن لم ترد الأنبياء عليهم السلام بقولهم : روح القدس - حياة الله ، بل أرادوا به ما يجعله الله في قلوب الأنبياء [ ص: 476 ] ويؤيدهم به ، كما يراد بنور الله ذلك ، قال الله تعالى :
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم .
فضرب الله مثلا للمؤمن الذي جعل صدره كالمشكاة ، وقلبه كالزجاجة في المشكاة ، ونور الإيمان الذي في قلبه - وهو نور الله - كالمصباح الذي في الزجاجة ، وذلك النور الذي في قلبه ليس هو نفس صفة الله القائمة به .
فتبين أن العارف كلما تدبر ما قالته الأنبياء ، وما قاله أهل البدع من النصارى وغيرهم ، لم يجد لهم في كلام الأنبياء إلا ما يدل على نقيض ضلالهم لا ما يدل على ضلالهم .