[ ص: 440 ] قالوا : وأما قولنا في فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة ، وفي كتب الأنبياء ، ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول - حيث شاء الله أن يخلق الله : ثلاثة أقانيم إله واحد ، آدم - قال الله : ( لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا ) ، فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه ؟
وحين خالف آدم وعصى ربه قال الله تعالى : ( ها آدم قد صار كواحد منا ) ، وهو قول واضح أن الله قال هذا القول لابنه وروح قدسه .
والجواب : أن استدلالهم بهذا على قولهم في المسيح هو في غاية الفساد والضلال ، فإن لفظ التوراة : ( نصنع آدم كصورتنا وشبهنا ) ، وبعضهم يترجمه ( نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا ) .
والمعنى واحد ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الله خلق آدم على صورته ) ، وفي رواية : ( على صورة [ ص: 441 ] الرحمن ) فقولهم : من هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه - من أبطل الباطل من وجوه :
أحدها : أن الله ليس كمثله شيء ، وليس لفظ النص : على مثالنا .
الثاني : أنه لا اختصاص للمسيح بما ذكر على تقدير حق وباطل ، فإنه بأي تفسير فسر قوله : ( سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا ) لم يخص ذلكالمسيح .
الثالث : أنهم إن أرادوا بالكلمة التي هي شبهه ومثاله صفته التي هي العلم القائم به ، والحياة القائمة به مثلا ، فالصفة لا تكون مثلا للموصوف ، إذ الموصوف هو الذات القائمة بنفسها ، والصفة قائمة بها ، والقائم بغيره لا يكون مثل القائم بنفسه .
وإن أرادوا به شيئا غير صفاته ، مثل بدن المسيح وروحه ، [ ص: 442 ] فذلك مخلوق له ، والمخلوق لا يكون مثل الخالق ، وكذلك روح القدس - سواء أريد به ملك أو هدى وتأييد - ليس مثلا لله عز وجل .
الرابع : أنه قال ( لنخلق خلقا ) أو قال : ( نخلق آدم أو نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا ) وعلى ما قالوه : ( نخلق خلقا على شبهنا ومثالنا ) ، وبكل حال ، فهذا وكلمة الله وروحه عندهم غير مخلوق فامتنع أن يكون المراد بذلك كلمته وروحه .
وإن قالوا : أراد بذلك الناسوت المسيحي ، فلا فرق بين ذلك الناسوت وسائر النواسيت ، مع أن المراد بذلك النص آدم أبو البشر باتفاق الأمم ، والناسوت نفسه ليس هو كلمة الله وروحه .
الخامس : أنه لو قدر أنه أريد بذلك أن كلام الله يشبه ذاته من بعض الوجوه ، مثل كونه قديما بقدمه - لم يكن في ذلك ما يدل على الأقانيم الثلاثة .
وكذلك اللفظ المعروف وهو قوله : ( سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا ) فهذا لا يدل على التثليث بوجه من الوجوه ، وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه ، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وإذا قيل هذا حي [ ص: 443 ] عليم قدير ، وهذا حي عليم قدير ، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير - لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلا لهذا المسمى فيما يجب ويجوز ويمتنع .
، بل هنا ثلاثة أشياء :
أحدها : القدر المشترك ، الذي تشابها فيه ، وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما ، ولا يوجد كليا عاما مشتركا إلا في علم العالم .
والثاني : ما يختص به هذا ، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم والقدرة .
والثالث : ما يختص به ( ذاك ، كما يختص به ) العبد من الحياة والعلم والمقدرة ، فما اختص به الرب عز وجل لا يشركه فيه العبد ، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد ، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب ، ولا يستحق شيئا من صفات الكمال التي يختص بها الرب عز وجل .
وأما القدر المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق ، فالاشتراك فيه لا محذور فيه .
[ ص: 444 ] ولفظ التوراة فيه : ( سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا ) ، لم يقل : على مثالنا وهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( لا يقولن أحدكم : قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك ، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته ) فلم يذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كموسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم - إلا لفظة شبه دون لفظ مثل .
وقد تنازع الناس : هل لفظ الشبه والمثل بمعنى واحد أو معنيين ، على قولين :
أحدهما : أنهما بمعنى واحد ، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه ، وهذا قول طائفة من النظار .
والثاني : أن معناها مختلف عند الإطلاق لغة وشرعا وعقلا ، وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر ، وهذا قول أكثر الناس ، وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية ، وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه ، وللناس في ذلك قولان : فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال : المثل والشبه واحد ، ومن قال : إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه - فرق بينهما عند الإطلاق ، [ ص: 445 ] وهذا قول جمهور الناس ، فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان تشتبه في كونها ألوانا ، مع أن السواد ليس مثل البياض ، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر ، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة ، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب ، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان ، ولا حقيقة النار مماثلة لحقيقة الماء وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه .
وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال : هذا يشبه هذا ، وفيه شبه من هذا ، إذا أشبهه من بعض الوجوه ، وإن كان مخالفا له في الحقيقة .
قال الله تعالى : وأتوا به متشابها .
وقال :
منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم .
[ ص: 446 ] فوصف القولين بالتماثل ، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل ؛ فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ) . الحلال بين والحرام بين ، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس
فدل على أنه يعلمها بعض الناس ، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة ، بل بعضها حرام وبعضها حلال .
والوجه السادس : أن قوله : ( سنخلق خلقا على شبهنا ) لا يتناول صفته ، مثل كلامه وحياته القائمة به ، فإن ذلك ليس بمخلوق ، وحينئذ فهذا لا يتناول اللاهوت الذي يزعمون أنه تدرع بالناسوت ، فإن اللاهوت ليس بمخلوق .
وأما الناسوت فهو كسائر نواسيت الناس لا اختصاص له ، بأن يكون شبيها لله دون سائر النواسيت ، فقوله : فمن هو الشبه المخلوق سوى كلمته وروحه ؟ - باطل على كل تقدير .
وأما قوله : ( ها آدم قد صار كواحد منا ) ، وقولهم : إن هذا قول [ ص: 447 ] واضح أن الله قال هذا القول لابنه روح قدسه ، فإن أرادوا أن يجعل الذي صار كواحد منا لابنه ، كان هذا من أبطل الكلام ؛ فإن هذا الابن إن كان المراد به الكلمة التي هي صفة لله ، فتلك لم يخلق لها أمر يصير كواحد منهم ، وتلك لا تسمى آدم ولا سماها الله ابنا .
وإن أريد به ناسوت المسيح فذاك مخلوق مبتدع يمتنع أن يكون كالقديم الأزلي ، وأيضا فإن الله قال عن آدم ، وآدم ليس هو المسيح ، ولا يجوز أن يقال : آدم ويراد به المسيح ، كما لا يجوز أن يقال : عصى آدم ويراد به المسيح ، وأيضا فإنه قال : ( ها آدم قد صار كواحد منا ) هذه إشارة إلى أمر قد كان في الزمن الماضي ، ليس هو إشارة إلى ما سيكون بعد ذلك بألوف من السنين ، وإن أرادوا أن الله قال لابنه الذي هو كلمته وروحه ، وهذا هو مرادهم ، كقولهم : إنه قال هذا القول يستهزئ بآدم ، أي أنه طلب أن يصير كواحد منا ، صار هكذا عريانا مفتضحا ، ويكون شبهتهم قوله : ( منا ) لأنه عبر بصيغة الجمع ، ( وكذلك إن أرادوا هذا بقوله ( نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا ) فاحتجوا على التثليث بصيغة الجمع .
[ ص: 448 ] وهذا مما احتج به نصارى نجران على النبي صلى الله عليه وسلم فاحتجوا بقوله تعالى ( إنا ) ، ( نحن ) قالوا : وهذا يدل على أنهم ثلاثة ، وكان هذا من المتشابه الذي اتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وتركوا المحكم المبين الذي لا يحتمل إلا واحدا ، فإن الله في جميع كتبه الإلهية قد بين أنه إله واحد ، وأنه لا شريك له ، ولا مثل له .
وقوله : ( إنا ) ، ( نحن ) لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء وأمثال ، وعلى الواحد المطاع العظيم الذي له أعوان يطيعونه ، وإن لم يكونوا شركاء ولا نظراء ، والله تعالى خلق كل ما سواه ، فيمتنع أن يكون له شريك أو مثل ، والملائكة وسائر العالمين جنوده تعالى .
قال تعالى :
وما يعلم جنود ربك إلا هو .
وقال تعالى :
ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما .
فإذا كان الواحد من الملوك يقول : إنا ، ونحن ، ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك فمالك الملك رب العالمين ، رب كل شيء ومليكه هو أحق بأن يقول : إنا ، ونحن ، مع أنه ليس له شريك ، ولا مثيل ، بل له جنود السماوات والأرض .
[ ص: 449 ] وأيضا فمن المعلوم أن آدم لم يطلب أن يصير مثل الله ولا مثل صفاته كعلمه وحياته ، وأيضا فليس في ظاهر اللفظ أن الله خاطب صفاته بتلك .
وأيضا فالصفة القائمة بالموصوف لا تخاطب ولا تخاطب ، وإنما يخاطب الموصوف ، ولم يكن قد خلق آدم ناسوت المسيح ، ولا غيره من البشر حتى يخاطبه ، فعلم أن دعواهم أن الله خاطب صفته التي سموها ابنا وروح قدس - كلام باطل ، بل قد يخاطب ملائكته .
وآدم عليه السلام أراد ما أطمعه الشيطان من الخلد والملك ، كما قال تعالى :
فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى .