أحدها : أن يقال : إن كان حلول كلمة الله التي هي المسيح في الناسوت ، مثل كتابة الكلام في القرطاس ، فحينئذ يكون المسيح من جنس سائر كلام الله ، كالتوراة وزبور داود والإنجيل والقرآن ، وغير ذلك ، فإن هذا كله كلام الله ، وهو مكتوب في القراطيس باتفاق أهل [ ص: 326 ] الملل ، بل الخلق كلهم متفقون على أن كلام كل متكلم يكتب في القراطيس ، وقد قال تعالى في القرآن : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ .
وقال تعالى : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون . وقال : يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وقال : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة وقال تعالى : والطور وكتاب مسطور في رق منشور
وإذا كانت الكلمة التي هي المسيح عندكم هكذا ، فمعلوم أن كلام الله المكتوب في القراطيس ليس هو إلها خالقا ، وهو كلام كثير لا ينحصر في كلمة ولا كلمتين .
ولو قال قائل : يا كلام الله اغفر لي وارحمني ، أو يا توراة ، [ ص: 327 ] أو يا إنجيل ، أو يا قرآن اغفر لي وارحمني ، كان قد تكلم بباطل عند جميع أهل الملل والعقلاء .
وأنتم تقولون : المسيح إله خالق ، وهو يدعى ويعبد ، فكيف تشبهونه بكلام الله المكتوب في القراطيس ؟
الثاني : أن الكلام المكتوب صفة للمتكلم ، يقوم به ويكتب في القراطيس عند سلف أهل الملل وجماهيرهم .
وعند بعضهم ، هو عرض مخلوق ، يخلقه في غيره .
فالجميع متفقون على أن الكلام صفة تقوم بغيرها ، ليس جوهرا قائما بنفسه .
والمسيح - عندكم - لاهوته جوهر قائم بنفسه ، وهو إله حق من إله حق وهو - عندكم - إله تام وإنسان تام .
فكيف تجعلون الإله الذي هو عين قائمة بنفسها كالصفة التي لا تقوم إلا بغيرها ؟
الثالث : قولكم : ( إن كلمة الإنسان مولودة من عقله ) ، لو كان صحيحا فالتولد لا يكون إلا حادثا .
وأنتم تقولون : إن كلمة الله القديمة الأزلية متولدة منه قبل [ ص: 328 ] الدهور وتقولون - مع هذا - : هي إله .
وهذا كما أن بطلانه معلوم بصريح العقل ، فهي بدعة وضلالة في الشرع ، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ابنا له ، ولا قال : إن صفته متولدة منه . ولفظ الابن لا يوجد عندكم عن الأنبياء إلا اسما لناسوت مخلوق ، لا لصفة الله القديمة ، فقد بدلتم كلام الأنبياء بهذا الافتراء .
الرابع : قولكم : ( مولودة من عقله ) ، إن أردتم ( بعقله ) العين القائمة بنفسها التي يسميها قلبا وروحا ونفسا ، أو نفسا ناطقة ، فتلك إنما تقوم بها المعاني ، وأما الألفاظ فإنما تقوم بفمه ولسانه .
وإن أردتم ( بعقله ) مصدر عقل يعقل عقلا ، فالمصدر عرض قائم بالعقل ، وهو عرض من جنس العلم والكلمة والعمل الصالح .
وإن أردتم بالعقل الغريزة التي في الإنسان ، فهو أيضا عرض .
الخامس : أن تسميتكم تكلم الإنسان بالمعنى أو اللفظ تولدا ، أمر اخترعتموه لا يعرف عن نبي من الأنبياء ، ولا أمة من الأمم ، ولا في لغة من اللغات .
وإنما ابتدعتم هذا لتقولوا : إذا كان كلام الإنسان متولدا منه ، فكلام الله متولد منه .
ولم ينطق أحد من الأنبياء بأن كلام الله تولد منه ، ولا أنه ابنه ، ولا أن علمه تولد منه ، ولا أنه ابنه .
[ ص: 329 ] السادس : قولكم : ( إن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في القرطاس ، فهي في القرطاس كلها حقا ، من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت ) ، إلى قولكم : ( الكلمة كلها في العقل الذي ولدها ، وكلها في القرطاس الذي التحمت به ) - مكابرة ظاهرة ، معلومة الفساد بصريح العقل ، فإن وجود الكلام في القلب واللسان ، ليس هو عين وجوده مكتوبا في القرطاس ، بل القائم بقلب المتكلم معان : طلب وخبر وعلم وإرادة ، والقائم بنفسه حروف مؤلفة هي أصوات مقطعة ، أو هي حدود أصوات مقطعة ، وليس في قلب الإنسان ولا فمه مداد كالمداد الذي في القرطاس .
والكلام مكتوب في القرطاس باتفاق العقلاء ، مع علمهم بأنه ليس في القرطاس علم وطلب وخبر قائم به ، كما تقوم بقلوب المتكلم ، ولا قام به أصوات مقطعة مؤلفة ، ولا حروف كالأصوات القائمة بفم المتكلم ، بل لفظ الحرف يقال على الحرف المكتوب : إما المداد المصور ، وإما صورة المداد وشكله . ويقال على الحرف المنطوق : إما الصوت المقطع ، وإما حد الصوت ومقطعه وصورته .
وكل عاقل يميز بحسه وعقله بين الصوت المسموع من المتكلم ، وبين المداد المرئي بالبصر ، ولا يقول عاقل : إن هذا هو هذا ، ولا يقال : إن هذا وهذا هو نفس المعنى القائم بقلب المتكلم ، فكيف تقولون : إن الكلمة في القرطاس كلها ، وكلها في العقل الذي ولدها ، وكلها في نفسها ؟
[ ص: 330 ] السابع : أن حرف ( في ) التي يسميها النحاة ظرفا ، يستعمل في كل موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع .
فإذا قيل : إن الطعم واللون والريح حال في الفاكهة ، أو العلم والقدرة والكلام حال في المتكلم ، فهذا معنى معقول .
وإذا قيل : إن هذا حال في داره ، أو إن الماء حال في الظرف ، فهذا معنى آخر .
فإن ذاك حلول صفة في موصوفها ، وهذا حلول عين قائمة تسمى جسما وجوهرا في محلها . ومنه يقال لمكان القوم : المحلة ، ويقال : فلان حل بالمكان الفلاني .
وإذا قيل : الشمس والقمر في الماء ، أو في المرآة ، أو وجه فلان في المرآة ، أو كلام فلان في هذا القرطاس ، فهذا له معنى يفهمه الناس ، يعلمون أنه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة ورؤيت فيها ، وأنه لم يحل بها ذات ذلك ، وإنما حل فيها مثال شعاعي عند من يقول ذلك .
وكذلك الكلام إذا كتب في القرطاس ، فالناس يعلمون أنه مكتوب فيه ومقروء فيه ومنظور فيه ، ويقولون : نظرت في كلام فلان وقرأته ، وتدبرته وفهمته ورأيته ، ونحو ذلك ، كما يقولون : رأيت وجهه في المرآة وتأملته ونحو ذلك .
وهم في ذلك كله صادقون يعلمون ما يقولون ، ويعلمون أن نفس جرم الشمس والقمر والوجه لم يحل في المرآة ، وأن نفس ما قام به من المعاني والأصوات لم تقم بالقرطاس ، بل كانت المرآة واسطة [ ص: 331 ] في رؤية الوجه فهو المقصود بالرؤية ، وكان القرطاس واسطة في معرفة الكلام ، فهو المقصود بالرؤية ، ويعلمون أن حاسة البصر باشرت ما في المرآة من الشعاع المنعكس ، ولكن المقصود بالرؤية هو الشمس ، وحاسة البصر باشرت ما في القرطاس من المداد المكتوب ، ولكن المقصود بالرؤية هو الكلام المكتوب .
ويعلمون أن نفس المثال الذي في المرآة ليس هو الوجه ، وأن نفس المداد المكتوب به ليس هو الكلام المكتوب ، بل يفرقون بينهما ، كما قال تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
ففرق سبحانه بين الكلمات وبين المداد الذي يكتب به الكلمات .
فكيف يقال : إن هذا هو هذا ، وإن الكلمة في القرطاس كلها ، وهي في المتكلم كلها ؟
الثامن : أن الكلام له معنى في المتكلم يعبر عنه بلفظه ، واللفظ يكتب في القرطاس ، فالمكتوب في القرطاس هو اللفظ المطابق للمعنى ، لا يكتب المعنى بدون كتابة اللفظ الذي كتب بالخط ; ليعرف ما كتب .
فدعوى هؤلاء أن نفس المعنى الذي في القلب كله ، هو في القرطاس كله - جعل لنفس المعنى هو الخط ، وهذا باطل .
[ ص: 332 ] التاسع : أنه لا ريب أن كلام المتكلم يقال : إنه قائم به .
ويقال - مع ذلك - : إنه مكتوب في القرطاس ، ويقال : هذا هو كلام فلان بعينه ، وهذا هو ذاك ، ونحو ذلك من العبارات التي تبين أن هذا المكتوب في القرطاس هو هذا الكلام الذي تكلم به المتكلم بعينه ، لم يزد فيه ولم ينقص ، لم يكتب كلام غيره .
ولا يريدون بذلك أن نفس الخط نفس الصوت ، أو نفس المعنى ، فإن هذا لا يقوله عاقل .
فإن قيل : . ففي المسلمين من يقول : إن كلام الله القديم الأزلي ، أو كلام الله الذي ليس بمخلوق ، هو حال في الصدور والمصاحف من غير مفارقة
ومن هؤلاء من يقول : إنه يسمع من الإنسان الصوت القديم ، أو الصوت الذي ليس بمخلوق .
ومنهم من يقول : إن الحرف القديم أو الذي ليس بمخلوق ، هو في القرطاس ، وحكي عن بعضهم أنه يقول ذلك في المداد .
ومن هؤلاء من يقول : إن القديم حل في المصحف ونحو ذلك .
فتقول النصارى : نحن مثل هؤلاء .
قيل : الجواب من وجوه .
أحدها : أن المقصود بيان الحق الذي بعث الله به رسله ، وأنزل [ ص: 333 ] به كتبه ، والرد على من خالف ذلك من النصارى وغيرهم .
ونحن لا ننكر أن في المنتسبين إلى الإسلام طوائفا منهم منافقون ملحدون وزنادقة ، ومنهم جهال ومبتدعة ، ومنهم من يقول مثل قول النصارى ، ومنهم من يقول شرا منه ، فالرد على هؤلاء كلهم ، والعصمة ثابتة لكتاب الله وسنة رسوله .
وما اجتمع عليه عباده المؤمنون . فهذا لا يكون إلا حقا ، وما تنازع فيه المسلمون ، ففيه حق وباطل .
الوجه الثاني : أن يقال : هؤلاء الذين قالوا في القرآن ما قالوه ، ليس قولهم مثل قول النصارى .
النصارى جعلوا لله ولدا قديما أزليا سموه كلمة ، وقالوا : إنه إله يخلق ويرزق ، وإنه اتحد فإن بالمسيح ، فجعلوا المسيح - الذي هو الكلمة عندهم - إلها يخلق ويرزق .
وليس في طوائف المسلمين المعروفة من يقول : إن كلام الله إله يخلق ويرزق .
ولكن محمد وغيره من الرسل - عليهم السلام - بلغوا إلى الخلق كلام الله الذي تكلم به .
فكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان على أن ، وأن الله أنزله وأرسل به ملائكته ، ليس هو مخلوقا بائنا عنه خلقه في غيره . القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلام الله ، هو كلام الله الذي تكلم به
[ ص: 334 ] ويقولون : إن هذا الذي بلغه رسوله ، والمسلمون يقرءونه ، ويسمع من القارئ كلام الله ، لكن يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم ، ويسمعونه من القارئ الذي يقرؤه بصوت نفسه ، القرآن هو كلام الله
ويقولون : إن الله تكلم به وكلم به فالكلام كلام البارئ ، والصوت صوت القارئ . موسى ، وإن موسى سمع نداء الله بأذنه ، فكلمه الله بالصوت الذي سمعه موسى ، كما بين ذلك في كتب الله القرآن والإنجيل والتوراة وغير ذلك .
فحدث بعد الصحابة وأكابر التابعين طائفة معطلة يقولون : إن الله لم يكلم موسى تكليما ، ولم يتخذ إبراهيم خليلا ، فقتل المسلمون مقدمهم " " وصار لهم مقدم يقال له " الجعد " فنسبت إليهم الجهم . الجهمية ، نفاة الأسماء والصفات
تارة يقولون : إن الله لم يتكلم ولم يكلم موسى ، وإنما أطلق ذلك مجازا .
[ ص: 335 ] وتارة يقولون : تكلم ويتكلم حقيقة ، ولكن معنى ذلك أنه خلق كلاما في غيره ، سمعه موسى ، لا أنه نفسه قام به كلام ، وهذا قول من يقوله من المعتزلة ونحوهم .
وزين هذا القول بعض ذوي الإمارة ، فدعوا إليه مدة وأظهروه ، وعاقبوا من خالفهم ، ثم أطفئ ذلك ، وأظهر ما كان عليه سلف الأمة ، أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله ، تكلم هو به . منه بدا ، ليس ببائن منه ، وليس بمخلوق خلقه في غيره .
ولما أظهر الله هذا ، والناس يتلون قول الله تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله صار بعض أهل الأهواء يقول : إنما سمع صوت القارئ ، وصوته مخلوق ، وهو كلام الله ، فكلام الله مخلوق .
ولم يميز هذا بين أن يسمع الكلام من المتكلم به ، كما سمعه موسى من الله بلا واسطة ، وبين أن يسمع من المبلغ عنه .
ومعلوم أنه لو سمع كلام الأنبياء وغيرهم من المبلغين ، لم يكن صوت المبلغ هو صوت المبلغ عنه ، وإن كان الكلام كلام المبلغ عنه لا كلام المبلغ .
فكلام الله إذا سمع من المبلغين عنه ، أولى أن يكون هو كلام الله [ ص: 336 ] لا كلام المبلغين ، وإن بلغوه بأصواتهم .
فجاءت طائفة ثانية فقالوا : هذا المسموع ألفاظنا وأصواتنا ، وكلامنا ليس هو كلام الله ; لأن هذا مخلوق ، وكلام الله ليس بمخلوق .
وكان مقصود هؤلاء ، تحقيق أن كلام الله غير مخلوق ، فوقعوا في إنكار أن يكون هذا القرآن كلام الله ، ولم يهتدوا إلى أنه - وإن كان كلام الله ، فهو كلام الله مبلغا عنه - ليس هو كلامه مسموعا منه ، ولا يلزم - إذا كانت أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة ليست هي كلام الله - أن يكون الكلام الذي يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم كلامهم ، ويكون مخلوقا ليس هو كلام الله .
وهؤلاء الذين قالوا : ليس هذا كلام الله ، منهم من قال : هو حكاية لكلام الله ، وطردوا ذلك في كل من بلغ كلام غيره أن يكون ما بلغه حكاية لكلام المبلغ عنه لا كلامه .
وأهل الحكاية منهم من يقول : إن كلام الرب يتضمن حروفا مؤلفة ، إما قائما بذاته على قول بعضهم ، أو مخلوقة في غيره على قول بعضهم ، والقائم بذاته معنى واحد .
ومن هؤلاء من قال : الحكاية تماثل المحكي عنه ، فلا نقول : هو حكاية ، بل هو عبارة عنه ، والتقدير عندهم فأجره حتى يسمع كلام عبارته أو حكايته .
فجاءت طائفة ثالثة فقالت : بل قد ثبت أن هذا المسموع [ ص: 337 ] كلام الله ، وكلام الله ليس بمخلوق ، وهذا المسموع هو الصوت ، فالصوت غير مخلوق .
ثم من هؤلاء من قال : إنه قديم ، ومنهم من قال : ليس بقديم ، ومنهم من قال : يسمع صوت الرب والعبد ، ومنهم من قال : إنما يسمع صوت الرب .
ثم منهم من قال : إنه قديم ، ومنهم من قال : إنما يسمعه من العبد .
وهؤلاء منهم من قال : إن صوت الرب حل في العباد ، فضاهوا النصارى .
ومنهم من قال : بل نقول : ظهر فيه من غير حلول . ومنهم من يقول : لا يطلق لا هذا ولا هذا .
وكل هذه الأقوال محدثة مبتدعة ، لم يقل شيئا منها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا إمام من أئمة المسلمين ، كمالك ، [ ص: 338 ] والثوري والأوزاعي ، ، والليث بن سعد ، وأبي حنيفة وأبي يوسف ، ومحمد ، [ ص: 339 ] ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه وابن عيينة وغيرهم .
بل هؤلاء كلهم متفقون على أن القرآن منزل غير مخلوق ، وأن الله أرسل به جبريل ، فنزل به جبريل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فبلغه محمد إلى الناس فقرأه الناس بحركاتهم وأصواتهم ، وليس شيء من أفعال العباد وأصواتهم قديما ولا غير مخلوق ، ولكن كلام الله غير مخلوق ، ولم يكن السلف يقولون : القرآن قديم .
ولما أحدث الجهمية وموافقوهم من المعتزلة وغيرهم أنه مخلوق بائن من الله ، قال السلف والأئمة : إنه كلام الله غير مخلوق .
[ ص: 340 ] ولم يقل أحد من السلف : إن الله تكلم بغير قدرته ومشيئته ، ولا أنه معنى واحد قائم بالذات ، ولا أنه تكلم بالقرآن أو التوراة أو الإنجيل في الأزل بحرف وصوت قديم ، فحدث بعد ذلك طائفة فقالوا : إنه قديم .
ثم منهم من قال : القديم هو معنى واحد قائم بالذات ، هو معنى جميع كلام الله .
وذلك المعنى إن عبر عنه بالعبرية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا ، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، والأمر والنهي والخبر صفات له لا أنواع له .
ومن هؤلاء من قال : بل هو قديم ، وهو حروف ، أو حروف وأصوات أزلية قديمة ، وأنها هي التوراة والإنجيل والقرآن .
فقال الناس لهؤلاء : خالفتم الشرع والعقل في قولكم : إنه قديم ، وابتدعتم بدعة لم يسبقكم إليها أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، وفررتم من محذور إلى محذور ، كالمستجير من الرمضاء بالنار .
ثم قولكم : إنه معنى واحد - وهو مدلول جميع العبارات - مكابرة للعقل والشرع ؛ فإنا نعلم - بالاضطرار - أنه ليس معنى آية [ ص: 341 ] الكرسي ، هو معنى آية الدين ، ولا معنى تبت يدا أبي لهب هو معنى سورة الإخلاص .
والتوراة إذا عربناها لم تصر هي القرآن العربي الذي جاء به محمد ، وكذلك إذا ترجمنا القرآن بالعبرية ، لم يكن هو توراة موسى .
وقول من قال منكم : إنه حروف ، أو حروف وأصوات أزلية ، ظاهر الفساد ، فإن الحروف متعاقبة ، فيسبق بعضها بعضا ، والمسبوق بغيره لا يكون قديما لم يزل ، والصوت المعين لا يبقى زمانين ، فكيف يكون قديما أزليا ؟
والسلف والأئمة لم يقل أحد منهم بقولكم ، لكن قالوا : إن الله تكلم بالقرآن وغيره من الكتب المنزلة ، وإن الله نادى موسى بصوت سمعه موسى بأذنه ، كما دلت على ذلك النصوص .
ولم يقل أحد منهم : إن ذلك النداء الذي سمعه موسى قديم أزلي ، ولكن قالوا : إن الله لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء ; لأن الكلام صفة كمال ، لا صفة نقص ، وإنما تكون صفة كمال إذا قام به ، لا إذا كان مخلوقا بائنا عنه ، فإن الموصوف - إلا بما قام به - لا يتصف بما هو بائن عنه ، فلا يكون الموصوف حيا عالما قادرا متكلما رحيما مريدا بحياة قامت بغيره ، ولا بعلم وقدرة قامت بغيره ، ولا بكلام ورحمة وإرادة قامت بغيره .
والكلام بمشيئة المتكلم وقدرته أكمل ممن لا يكون بمشيئته وقدرته .
وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا مشيئته وقدرته ، فإما أنه ممتنع [ ص: 342 ] أو هو صفة نقص ، كما يدعى مثل ذلك في المصروع .
وإذا كان كمالا ، فدوام الكمال له ، وأنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال أكمل من كونه صار متكلما بعد أن لم يكن ، لو قدر أن هذا ممكن ، فكيف إذا كان ممتنعا ؟
وكان أئمة السنة والجماعة كلما ابتدع في الدين بدعة ، أنكروها ولم يقروها ، ولهذا حفظ الله دين الإسلام ، محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة . فلا يزال في أمة
بخلاف أهل الكتاب ، فإن النصارى ابتدعوا بدعا خالفوا بها المسيح ، وقهروا من خالفهم ممن كان متمسكا بشرع المسيح حتى محمدا من هو متمسك بدين المسيح ، إلا بقايا من أهل الكتاب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : ( لم يبق حين بعث الله ) . إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب
فلما أظهر قوم من الولاة أن القرآن مخلوق ، ودعوا الناس إلى ذلك ، ثبت الله أئمة السنة وجمهور الأمة ، فلم يوافقوهم ، وكان المشار إليه من الأئمة إذ ذاك . أحمد بن حنبل
ثم بقي ذلك القول المحدث ظاهرا نحو أربع عشرة سنة ، وأئمة الأمة وجمهورها ينكرونه ، حتى جاء من الولاة من منع من إظهاره [ ص: 343 ] والقول به ، فصار مخفيا كغيره من البدع ، وشاع عند العامة والخاصة أن القرآن كلام الله غير مخلوق .
فأراد بعض الناس أن يجيب عن شبهة من قال : إن هذا الذي يقوم بنا مخلوق . فقال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، ولكن ألفاظنا به مخلوقة ، وتلاوتنا له مخلوقة .
وربما قالوا : هذا الذي نقرؤه مخلوق ، أو هذا ليس هو كلام الله فقصدوا معنى صحيحا ، وهو كون صفات العباد وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة .
لكن غلطوا حيث أطلقوا القول ، أو أفهموا الناس بأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون مخلوق ، ولم يهتدوا إلى أنا إذا أشرنا إلى كلام متكلم قد بلغ عنه ، فقلنا مثلا لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله : ( ) : هذا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو لقول الشاعر : [ ص: 344 ] إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
- : هذا كلام لبيد بن ربيعة ، ونحو ذلك .فإنا نشير إلى نفس الكلام معانيه ونظمه وحروفه ، لا إلى ما يختص بالمبلغ من حركته وصوته ، بل ولا صوت المبلغ عنه وفعله .
فإن كون الحي متحركا أو مصوتا قدر مشترك بين الناطق والأعجم ، وليس هذا صفة له .
والكلام الذي يتميز به الناطق عن الأعجم ، إنما يتميز بالمعاني القائمة به ، وباللفظ المطابق لها من الحروف المنظومة بالأصوات المقطعة .
وهذا أمر يختص به المتكلم بالكلام ، لا المبلغ عنه ، فليس للمبلغ إلا تأدية ذلك .
ولهذا لو قال قائل لشعر لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال : هذا شعري أو كلامي لكونه أنشده بصوته ، لكذبه الناس .ولو قال : هذا الذي أقوله مثل شعر لبيد ، لكذبه الناس وقالوا : بل هو شعره نفسه ، ولكن أديته بصوتك .
[ ص: 345 ] بخلاف ما إذا قال قائل قولا نظما أو نثرا ، وقال آخر مثله ، فإن الناس يقولون : هذا مثل قول فلان ، كما قال تعالى : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم وقال عن القرآن : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولهذا لو قال قارئ : أنا آتي بقرآن مثل قرآن محمد ، وتلاه نفسه وقال : هذا مثله ، لأنكر الناس ذلك وضحكوا منه وقالوا : هذا القرآن الذي جاء به هو ، ليس هو كلام آخر مماثل له .
فإذا كان القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي بلغه الرسول ، لم يجز أن يقال : ليس هو بكلام الله ، بل هو مثل له ، أو حكاية عنه ، أو عبارة .
وإذا كان معلوما إنما هو كلام الله ، فقد تكلم الله به - سبحانه - لم يخلقه بائنا عنه ، ولم يجز أن يقال لما هو كلامه : إنه مخلوق .
فإذا قيل عما يقرؤه المسلمون : إنه مخلوق ، والمخلوق بائن [ ص: 346 ] عن الله ، ليس هو كلامه ، فقد جعل مخلوقا ، ليس هو بكلام الله ، فصار الأئمة يقولون : هذا كلام الله وهذا غير مخلوق ، لا يشيرون بذلك إلى شيء من صفات المخلوق ، بل إلى كلام الله الذي تكلم به وبلغه عنه رسوله .
والمبلغ إنما بلغه بصفات نفسه ، والإشارة في مثل هذا يراد بها الكلام المبلغ ، لا يراد بها ما به وقع التبليغ .
وقد يراد بهذا ، الثاني ، مع التقييد كما في مثل الاسم إذا قيل : عبدت الله ودعوت الله ، فليس المراد أن المعبود المدعو ، هو الاسم الذي هو اللفظ ، بل المعبود المدعو هو المسمى باللفظ ، فصار بعضهم يقول : الاسم هو غير المسمى ، حتى قيل لبعضهم : أقول : دعوت الله ، فقال : لا تقل هكذا ، ولكن قل : دعوت المسمى بالله ، وظن هذا الغالط أنك إذا قلت ذلك ، فالمراد دعوت هذا اللفظ ، ومثل هذا يرد عليه في اللفظ الثاني .
، فإن الأسماء لم تذكر إلا لبيان المسميات ، لا أن الاسم نفسه هو ذات المسمى . فما من شيء عبر عنه باسم ، إلا والمراد بالاسم هو المسمى
فمن قال : إن اللفظ والمعنى القائم بالقلب هو عين المسمى ، فغلطه واضح .
ومن قال : إن المراد بالاسم في مثل قولك : دعوت الله ، وعبدته ، [ ص: 347 ] هو نفس اللفظ ، فغلطه واضح ، ولكن اشتبه على الطائفتين ما يراد بالاسم ونفس اللفظ .
كذلك أولئك اشتبه عليهم نفس كلام المتكلم المبلغ عنه الذي هو المقصود بلفظ المبلغ وكتابته بنفس صوت المبلغ ومداده .
والفرق بين هذا وهذا واضح عند عامة العقلاء .
وإذا كتب كاتب اسم الله في ورقة ، ونطق باسم الله في خطابه ، وقال قائل : أنا كافر بهذا ومؤمن بهذا ، كان مفهوم كلامه أنه مؤمن أو كافر بالمسمى المراد باللفظ والخط ، لا أنه يؤمن ويكفر بصوت أو مداد .
فكذلك من قال لما يسمعه من القراء ولما يكتب في المصاحف : إن هذا كلام الله .
أو قال لما يسمع من جميع المبلغين لكلام غيرهم ، ولما يوجد في الكتب : هذا كلام زيد ، فليس مرادهم ذلك الصوت والمداد ، إنما هو المعنى واللفظ الذي بلغه زيد بصوته وكتب في القرطاس بالمداد .
فإذا قيل عن ذلك : إنه مخلوق ، فقد قيل : إنه ليس كلام الله ، ولم يتكلم به .
ومن قصد نفس الصوت أو المداد وقال : إنه مخلوق ، فقد أصاب ، كما أن من قصد نفس الصوت أو الخط وقال : ليس هذا هو كلام الله ، بل هو مخلوق ، فقد أصاب ، لكن ينبغي أن يبين مراده بلفظ لا لبس فيه .
[ ص: 348 ] فلهذا كان الأئمة وغيره ، ينكرون على من أطلق القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق ، أو غير مخلوق ويقولون : من قال : إنه مخلوق فهو جهمي ، ومن قال : إنه غير مخلوق ، فهو مبتدع ، ومن قال : إنه مخلوق هنا ، فقد يقولون : ليس هو كلام الله ، وهذا خلاف المتواتر عن الرسول ، وخلاف ما يعلم بمثل ذلك بصريح المعقول . كأحمد بن حنبل
فإن الناس يعلمون - بعقولهم - أن من بلغ كلام غيره فالكلام كلام المبلغ عنه الذي قاله مبتديا آمرا بأمره مخبرا بخبره ، لا كلام من قاله مبلغا عنه مؤديا .
ولهذا قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ) رواه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في المواسم : ( ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي ؟ فإن وغيره ، عن أبو داود . جابر
ولما أنزل الله تعالى : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون
[ ص: 349 ] قال بعض الكفار : هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ قال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ، ولكنه كلام الله . لأبي بكر الصديق
فلهذا اشتد به إنكار وغيره من أئمة الإسلام ، وبالغ قوم في الإنكار عليهم وقالوا : لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، وأطلقوا عبارات تتضمن وتشعر أن يكون شيء من صفات العباد غير مخلوقة ، فأنكر ذلك أحمد بن حنبل وغيره ، كما أنكر ذلك أحمد ابن المبارك ، ، وإسحاق بن راهويه ، وغير هؤلاء من أئمة السنة ، وبينوا أن الورق والمداد وأصوات العباد وأفعالهم مخلوقة ، وأن كلام الله الذي يحفظه العباد ويقرءونه ويكتبونه غير مخلوق . والبخاري
فكلام أئمة السنة والجماعة كثير في هذا الباب ، متفق غير مختلف ، وكله صواب .
[ ص: 350 ] ولكن قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك .
فمن ابتلي بمن يقول : ليس هذا كلام الله ، كان كلامه في ذم من يقول : هذا مخلوق ، أكثر من ذمه لمن يقول : لفظي مخلوق . كالإمام أحمد
ومن ابتلي بمن يجعل بعض صفات العباد غير مخلوق ، صاحب الصحيح ، كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غير مخلوق ، أكثر ، مع نص كالبخاري أحمد وغيرهما ، على خطأ الطائفتين . والبخاري