[ ص: 351 ] قال سعيد بن البطريق : ولا احتيال من واحد من الجوهرين عن كثافة ، فلا الإلهي احتال أن يكون إلها خالقا ، ولا الناسي احتال عن أن يكون ناسيا مخلوقا . وليس حلول كلمة الله الخالقة والتحامها بجوهر الناسوت - عن انتقال ولا تغير
والاحتيال والتغير ، إنما يلزم الخلطة إذا كانت من خلقين ثقيلين غليظين ، مثل الماء والخمر ، أو الماء والعسل ، أو السمن والعسل ، والذهب والورق والنحاس والرصاص ، وما أشبه ذلك ; لأن كله ثقيل غليظ ، وكل ثقل تخالطه ثقلة - لا محالة - يلزمه التغير حتى يصير إلى ما كانت عليه الأثقال ، فلا الخمر خمرا ، ولا الماء ماء بعد اختلاطهما ، ولكنهما احتالا جميعا عن جوهرهما ، فصار إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه ، ولا أحدهما خالص من الفساد والاحتيال عن حاله .
فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ ، لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال ، مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا ، [ ص: 352 ] أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت ; أي استحالت عن جوهرها أن تكون نفسا تعرفها بفعالها ، ولا الجسد تغير ولا احتال عن حاله وأفعاله ، ومثل ما كان تخالط النار والحديد فيلتحمان جميعا فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار قد تغيرت إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع ، ولا الحديدة تغيرت واحتالت إلى أن تكون نارا تحرق ، فكذلك تفعل كل خلطة مؤلفة من شيئين مختلفين أحدهما روحاني لطيف ، والآخر ثقلي غليظ ، مثل النفس والجسد والنار والحديد ، ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة ، فهي لا تتغير ولا تحتال عن نورها ونقائها وضوئها ، مع مخالطتها كل سواد وسخ ، ونتن ونجس .
قال : والخلطة تكون على ثلاثة أوجه :
أحدها : خلطة باختلاط من الطبيعتين الثقيلتين واحتيالهما وفسادهما ، مثل خلطة الخمر والماء ، والخل والعسل ، والذهب والورق والرصاص والنحاس ، فإن في ذلك كله وما أشبهه ، احتيالا وفسادا ; لأن مزاج الخمر والماء ، ليس بخمر ولا ماء ; لاحتيال كل واحد منهما عن طبعه واختلاطهما بفسادهما وتغيرهما عن حالهما .
[ ص: 353 ] وكذلك خلطة الخل والعسل ، قد صارت لا خلا ولا عسلا ; لاحتيال كل واحد منهما ، وخلطة الذهب والورق على مثل ذلك صارت على غير صحة لا من الذهب ولا من الورق ، وخلطة الورق والنحاس على غير صحة ، لا من الورق ولا من النحاس ، فهذا وجه من الوجوه الثلاثة .
والوجه الثاني : خلطة افتراق من الطبيعتين الثقيلتين ، وقد تعرف من تلك الخلطة كل واحدة من الطبيعتين ثابتة في الأخرى بقوامها ووجهها ، مثل الزيت والماء في قنديل واحد ، ومثل الكتان والقز في ثوب واحد منسوج بكتان مضلع بقز ، ومثل صنم نحاس رأسه من ذهب ، وما أشبه ذلك مما لا ينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين والقوامين ، مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة ; لأن طبيعة القلة فخار ، قوامها قلة ، وليس بينهما وبين الماء خلطة ، بل أشد الفرقة .
وكذلك الماء والزيت ، لولا أن وعاء القنديل الذي هما فيه ضمهما ما اجتمعا .
وكذلك الكتان والقز ، ليس بينهما خلطة ، وإن كانا في ثوب واحد ، ولا بين الذهب والنحاس ولم يسبكا خلطة ، وإن جمعها صنم واحد .
فهاتان الخلطتان لا تكونا أبدا إلا في أثقال جسمانيات غليظة .
فإن التحم بعضهما ببعض مثلما يذاب الذهب والنحاس ويفرغان جميعا ، وقعت في وجه خلطة الاحتيال والفساد ; لأن تلك النقرة ليست بذهب صحيح ، ولا بنحاس صحيح .
[ ص: 354 ] فإن لم تلحم وألزم بعضها بعضا ، مثل طوق يكون من نحاس وذهب ، وقعت من وجه خلطة الافتراق التي لا يحق لها أن تسمى خلطة .
وفي هذين الوجهين وقع " نسطورس " وأشياعه فلزموا خلطة الاحتيال والفساد ، فزعموا أن الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية اختلطا في المسيح الواحد ، فهو ذو قوام واحد بطبيعة واحدة مختلطة من طبيعتين مختلفتين إلهية وناسية ، فأقروا أنهما قد احتالا ، والاحتيال فساد .
وألزموا على هذا القول الكافر طبيعة الله المصائب والموت ، وصيروا المسيح لا إلها صحيحا ولا إنسانا ، مثل الذهب والنحاس .
فنسطورس وأشياعه لزموا خلطة الفرقة والانقطاع ، فزعموا أن المسيح الواحد ذو طبيعتين مختلفتين ، الإلهية وناسية ، وذو قوامين معروفين ، إلهي وناسي ، فصيروا الفرقة خلطة ، كالطوق الملون نصفين أحدهما ذهب والآخر نحاس ، والثوب المبطن ظاهره خز وباطنه قطن ، ليس بينهما خلطة في طبيعة ولا قوام .
وليس لهم على هذا أن يؤمنوا بمسيح واحد ; لأن الطوق الملون طوقان ، والثوب المبطن ثوبان .
فالمسيح - مثل ذلك - مسيحان ، واحد إلهي بطبيعته وقوامه ، مثل قضيب الذهب في الطوق الملون ، ومثل ظهارة الخز في الثوب المبطن .
والآخر ناسي ، مثل قضيب النحاس في الطوق ، وبطانة القطن في الثوب .
[ ص: 355 ] والعجب كل العجب ، كيف لم يفصل أهل الخلاف والشقاق بين الصنفين كليهما ؟ ولم يفهموا أن هاتين الخلقتين أنهما خلقتان ذواتا أثقال جسمانية غليظة ، ليس فيهما شيء من الخلق الروحاني اللطيف الخفيف ، ولذلك لا تقدر الأثقال الغليظة على الخروج من هذين الوجهين من وجوه الخلطة ; لأنهما إن اختلطا خلطة ملتحمة ممتزجة ، صارت إلى احتيال وفساد ، وإن قامت على حالها ، لا تلتحم ولا يمتزج بعضها ببعض ، فهي على وجه خلطة الافتراق ، ومنقطعة بعضها من بعض ، وإن جمعها صنم واحد أو ثوب واحد ، فليس يوجد لشيء من الأثقال الجسمانية وجه خلطة سوى هذين الوجهين أبدا ، إما فساد وإما انقطاع ، إلا أن تكون الخلطة في اثنين أحدهما ثقيل جسماني ، والآخر لطيف روحاني ، فإن ذلك هو .
الوجه الثالث من الخلطة : وهي خلطة الحلول بلا اختلاط ولا احتيال ، ولا فساد ولا فرقة ولا انقطاع ، لكنها نفاذ الطبيعة الروحانية في الطبيعة الثقيلة السفلية ، حتى تنتشر في جميعها وتحل بكلها ، فلا يبقى موضع من الطبيعة الثقيلة السفلية خلوا من الطبيعة الروحانية ، ولا احتيال من الثقيلة الجسمانية عن طبيعتها الغليظة الثقيلة ، ولا تغيير ولا فساد لإحداهما ، مثل خلطة النفس والجسد ، ومثل خلطة النار والحديد في قوام جمرة واحدة ، فهي جمرة واحدة بالقوام من طبيعة نار ملتحمة مخالطة لطبيعة الحديدة بلا فرقة من انقطاع ، ولا تخليط احتيال وفساد ، [ ص: 356 ] وقد انتشرت النار في جميع الحديدة ، ولبستها ، وأنالت النار الحديدة من قوامها وقوتها حتى أنارت الحديدة وأحرقت ، ولم تنل النار من ضعف الحديدة شيئا من السواد ولا البرودة .
فعلى هذا الوجه من الخلطة دبرت كلمة الله الخالقة خلطتها للطبيعة البشرية .
فهو مسيح واحد ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل الأدهار كلها ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود ليس بمخلوق من سوس أبيه وجوهره وطبيعته ، وهو إياه من مريم العذراء المولود منها في آخر الزمان بقوام واحد ، قوام ابن الله الوحيد الجامع للطبيعتين كلتيهما ، الإلهية التي لم تزل في البدء قبل كل بدء ، والناسية التي كونت في آخر الزمان المقوم بالقوام الأزلي .
فهو مسيح واحد بقوام واحد أزلي ، ذو طبيعتين إلهية لم تزل ، وناسية خلقها له والتحم بها من مريم العذراء ، فقوامه ذلك قوام الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية ، جامعا لهما بلا اختلاط ولا فساد ، ولا فرقة انقطاع ، لم يزل قوام الطبيعة الإلهية ، ثم هو قوام الطبيعة الناسية ، قد خلقها وكونها وقومها بقوامه الذي لم يزل يقيم إلا به ، ولم يعرف إلا له .
والجواب عن هذا الكلام - بعد أن يقال : إنه تناقض ، [ ص: 357 ] فجعل هذا تارة اختلاطا ، وتارة يقول : ليس هو اختلاطا - أن يقال : إنه - أولا - قد يجعل هذا الحلول والالتحام اختلاطا ، ويقول : إنه لا يكون فيه استحالة ولا تغير ، ويقول : الاستحالة والتغيير إنما يلزم الخلطة ، إذا كانت من خلقين غليظين ، كالماء والخمر ، فأما إذا كانت من لطيف وكثيف ، لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال - أي استحالة - ويقول : والخلطة تكون على ثلاثة أوجه : ثم يقول : أحدهما كالخمر والماء ، والثاني كالزيت والماء ، والكتان والقز ، ثم يقول : وما أشبه ذلك مما ينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين ، فيجعله من أقسام الخلطة ، ثم يقول : ولا ينبغي أن يسمى خلطة .
وليس المقصود المنازعات اللفظية ، بل يقول : دعواه أن أحد نوعي الاختلاط يكون عن تغير واستحالة ، بخلاف النوع الآخر الذي هو اختلاط لطيف وغليظ - دعوى ممنوعة ، ولم يقم عليها دليلا ، بل يقول : هي باطلة ، بل لا يكون الاختلاط بين شيئين إلا مع تغير واستحالة .
وما ذكره من الأمثال والشواهد ، فهي حجة عليه ; لقوله : ( فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ ، لم يخالط تلك الخلطة تغير [ ص: 358 ] ولا احتيال ، مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا ، أحدهما ملتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت عن جوهرها ، أن تكون نفسا تعرفها بفعالها ، ولا الجسد تغير واستحال عن حاله وفعاله .
فيقال : هذا قول باطل ظاهر البطلان لكل من تصوره ، فإن الجسد إذا خلا عن النفس ، مثل ما يكون قبل نفخ الروح فيه ، وما يكون بعد مفارقة الروح له بالموت ، بل آدم - عليه السلام - أبو البشر ، خلق من تراب وماء ، وصار صلصالا كالفخار ، ثم نفخت فيه الروح ، فصار جسدا هو لحم وعظم وعصب ودم .
فهل يقول عاقل : إن جسد آدم قبل النفس وبعدها على صفة واحدة لم يتغير ولم تستحل ، وذريته من بعده يخلق أحدهم من نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، فيكون جسدا ميتا ، ثم ينفخ فيه الروح فيصير الجسد حيا بعد أن كان ميتا ؟
وأي تغيير أعظم من انتقال الجسد من الموت إلى الحياة ؟
ومعلوم بالحس والعقل الفرق بين الحي والميت ، كما قال تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات والجسد إذا لم ينفخ فيه الروح ، فهو موات ليس له حس ولا حركة إرادية ، ولا يسمع ولا يبصر ، ولا ينطق ولا يعقل ، ولا يبطش ولا يأكل [ ص: 359 ] ولا يشرب ، ولا يمني ولا ينكح ، ولا يتفكر ولا يحب ولا يبغض ، ولا يشتهي ولا يغضب .
فإذا اتصلت به النفس ، تغيرت أحواله واستحالت صفاته ، وصار حساسا متحركا بالإرادة ، فكيف يقال مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا ، أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واستحالت عن جوهرها ، أن تكون نفسا يعرفها بفعالها ، ولا الجسد تغير ولا استحال عن حاله وأفعاله ؟
فهل يقول عاقل يتصور ما يقول : إن الجسد كان حاله وفعاله مع مفارقة النفس له ، كحاله وفعاله مع مخالطتها له ؟
وهل يقول عاقل : إن الجسد بعد موته ومفارقة النفس له ، حاله وفعاله كحاله وفعاله إذا كانت النفس مختلطة به ، وهو إذا مات كالجماد لا يسمع ولا يبصر ، ولا ينطق ولا يبطش ولا يمشي ، قد جمد دمه واسود ، ولم يبق سائلا ، وتغير سحنته ولونه ، وتغير الجسد بالحياة بعد الموت ، وبالموت بعد الحياة - من أعظم التغيرات والاستحالات ؟
وكذلك النفس ، فإن النفس - عند اتصالها بالبدن - تلتذ بلذته ، وتتألم بألمه .
فإذا أكل البدن وشرب ، ونكح واشتم ، التذت النفس ، وإذا ضرب البدن وصفع ، وأهين وحط الشوك على رأسه ، وبصق في وجهه ، تألمت النفس بذلك .
فإذا شبهوا اتحاد الرب بالمسيح باتحاد النفس بالبدن ، وهم [ ص: 360 ] يقولون : إن المسيح وكل أحد إذا ضرب وصفع وصلب فتألم بدنه ، تألمت نفسه أيضا .
فإن كان الألم مع نفس المسيح وجسده ، كالنفس مع الجسد ، وجب أن يكون الرب يتألم بتألم الناسوت ، ويجوع بجوعه ويشبع بشبعه ، فإن ألم الجوع ولذة الشبع يحصل للنفس إذا جاع البدن وشبع .
وأيضا فالمسيح عندهم إله تام ، وإنسان تام ، والإله إله قبل الاتحاد ، والإنسان إنسان قبل الاتحاد .
فهم يقولون : إنهما بعد الاتحاد إله تام كما كان ، وإنسان تام كما كان .
فنظير هذا ، أن يكون الإنسان المركب من بدن ونفس ، نفسا تامة وبدنا تاما ، وأن تكون الحديدة المحماة ، حديدا تاما ونارا تامة ، وهو باطل ، بل الإنسان مركب من نفس وبدن ، والإنسان اسم لمجموع ، ليس الإنسان روحا والإنسان بدنا .
فلو كان الاتحاد حقا ، لوجب أن يقال : إن المسيح نصفه لاهوت ، ونصفه ناسوت ، وهو مركب من هذا وهذا .
ولا يقال : إن المسيح نفسه إنسان تام ، والمسيح نفسه إله تام ، فإن تصور هذا القول على الوجه التام يوجب العلم الضروري ، حيث جعلوا [ ص: 361 ] المسيح الذي هو المبتدأ ، الموضوع المخبر عنه المحكوم عليه ، هو إنسان تام وإله تام ، يوجب أن يكون نفس الإنسان هو نفس الإله .
ولو قيل هذا في مخلوقين ، فقيل : نفس الملك نفس البشر ، لكان ظاهر البطلان ، فكيف إذا قيل في رب العالمين ؟ لا سيما وكثير من النصارى لا يقولون : إن جسد المسيح مخلوق ، بل يصفون الجميع بالإلهية ، وهذا مقتضى قول أئمتهم القائلين : إن المسيح إله تام ، لكنهم تناقضوا فقالوا - مع ذلك - : وهو إنسان تام ، فكأنهم قالوا : هو الخالق ليس هو الخالق ، هو مخلوق ليس هو مخلوق ، فجمعوا بين النقيضين ، وهذا حقيقة قول النصارى ، لا سيما واتحاد اللاهوت بناسوت المسيح - عندهم - اتحاد لازم ، لم يفارقه البتة ، فيكون ذلك أبلغ من الاتحاد العارض ، ومن أن الرب كان متحدا بجسد لا روح فيه ، ثم بالجسد مع نفخ الروح فيه ، ثم بالجسد بعد مفارقة الروح له ، وحيث دفن في القبر ووضع التراب عليه .
ومعلوم أن الإنسان إذا كانت فيه النفس وجعلت في التراب معه ، تألمت النفس ألما شديدا ، ثم تفارق البدن .
ومن العجائب أنهم يقولون : إن المسيح صلب ومات ، ففارقته النفس الناطقة ، وصار الجسد لا روح فيه ، واللاهوت - مع هذا - متحد لم يفارقه وهو في القبر ، واللاهوت متحد به ، فيجعلون اتحاده به أبلغ من اتحاد النفس بالبدن .
[ ص: 362 ] والنفس - عند اتصالها بالبدن - تتغير وتتبدل صفاتها وأحوالها ، ويصير لها من الصفات والأفعال ما لم يكن بدون البدن ، وعند مفارقة البدن ، تتغير صفاتها وأفعالها .
فإن كان تمثيلهم مطابقا ، لزم أن يكون الرب قد تغيرت أوصافه وأفعاله ، لما اختلط بالمسيح ، كما تتغير صفات النفس وأفعالها ، ويكون الرب قبل هذا الاختلاط كالنفس المجردة التي لم تقترن ببدن .
وأيضا فالنفس والبدن شريكان في الأعمال الصالحة والفاسدة ، لهما الثواب وعليهما العقاب ، والثواب والعقاب على النفس أكمل منه على البدن ، فإن كان الرب كذلك ، كان جميع ما يفعله المسيح باختياره فعل الرب ، كما أن جميع ما يفعله البدن باختيار فعل النفس عن التي تخاطب بالأمر والنهي ، فيقال لها : كلي واشربي وانكحي ، ولا تأكلي ولا تشربي ولا تنكحي .
فإن كان الرب مع الناسوت كذلك ، كان الرب هو المأمور والمنهي بما يأمر به المسيح ، وكان الرب هو المصلي الصائم العابد الداعي ، وبطل قولهم : يخلق ويرزق بلاهوته ، ويأكل ويعبد بناسوته .
فإن النفس والبدن لما اتحدا ، كانت جميع الأفعال الاختيارية للنفس والبدن ، فإذا صلى الإنسان وصام ودعا ، فالنفس والبدن يوصفان بذلك جميعا ، بل النفس أخص بذلك ، وكذلك إذا أمر أو نهى ، فكلاهما موصوف بذلك ، وكذلك إذا ضرب ، فألم الضرب يصل [ ص: 363 ] إليهما كما تصل إليهما لذة الأكل والجماع .
بل أبلغ من ذلك ، أن الجني إذا دخل في الإنسي وصرعه وتكلم على لسانه ، فإن الإنسي يتغير ، حتى يبقى الصوت والكلام الذي يسمع منه ، ليس هو صوته وكلامه المعروف .
وإذا ضرب بدن الإنسي ، فإن الجني يتألم بالضرب ويصيح ويصرخ ، ويخرج منه ألم الضرب ، كما قد جرب الناس من ذلك ما لا يحصى ، ونحن قد فعلنا من ذلك ما يطول وصفه .
فإذا كان الجني تتغير صفاته وأحواله لحلوله في الإنسي ، فكيف بنفس الإنسان ؟
وعندهم اتحاد اللاهوت بالناسوت أتم وأكمل من اتحاد النفس بالجسد .
فهل يقول عاقل - مع هذا الاتحاد - : إنهما جوهران ، لكل منهما أفعال اختيارية ، لا يشركه الآخر فيها .
ويقولون - مع قولهم بالاتحاد - : إن الذي كان يصلي ويصوم ، ويدعو ويتضرع ، ويتكلم ويتألم ، ويضرب ويصلب ، هو نظير البدن ، والذي كان يأمر وينهى ، ويخلق ويرزق ، هو نظير النفس .
هذا مع قولهم : إن مريم ولدت اللاهوت مع الناسوت ، وأنه اتحد به مع كونه حيا وقبل حياته وعند مماته ، والجسد في ذلك كله كسائر أجساد الآدميين ، لم يظهر فيه شيء من خصائص الرب أصلا ، بل ولا بعد إتيانه بالآيات ، فإن تلك كان يجري مثلها وأعظم منها على يد [ ص: 364 ] الأنبياء ، فهذا أقرب أمثالهم وقد ظهر فساده .
وأبعد منه وأشد فسادا ، تمثيلهم ذلك بالنار والحديد .
ومعلوم عند كل من له خبرة ، أن النار إذا اتصلت بشيء من الأجسام الحيوانية والنباتية والمعدنية ، مثل جسد الإنسان وغيره ، ومثل الخشب والقصب والقطن وغيره ، ومثل الحديد والذهب والفضة ، فإنها تغير ذلك الجسد وتبدل صفاته عما كانت ، فتحرقه ، أو تذيبه ، أو تلينه ، والنار المختلطة به لا تبقى نارا محضة ، بل تستحيل وتتغير أيضا .
فقول هؤلاء : ومثل ما تختلط النار والحديد ، فيلتحمان جميعا ، فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار تغيرت ، إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع ، ولا الحديدة تغيرت واستحالت إلى أن تكون نارا تحرق ) ، كلام باطل ملبس ، فإن الجمرة ليست حديدة محضة ، ولا نارا محضة ، بل نوعا ثالثا .
وقوله : ( لم تتغير النار إلى أن تصير حديدة ، ولا الحديدة إلى أن تصير نارا ) - تلبيس .
فإن الاختلاط لا يتضمن الاستحالة والتغير ، كاختلاط الكثيفين الذي سلمه مثل الماء والخمر ، والماء والعسل ، والسمن والعسل ، والذهب والورق ، والنحاس والرصاص ، قد قال فيه : إنه لا الخمر خمر ، ولا الماء ماء بعد اختلاطهما ، ولكنهما استحالا جميعا عن جوهرهما ، فصارا إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه ، ولا أحدهما خالصا من الفساد والاستحالة عن حاله .
فيقال له : فهذا الذي سلمت فيه الفساد والاستحالة ، لم يصر [ ص: 365 ] الخمر فيه ماء ، ولا الماء فيه خمرا ، فكذلك مورد النزاع إذا لم تصر النار حديدة ، ولا الحديدة نارا ، لم ينفعك هذا النفي ، ولم يكن هذا مانعا من الاستحالة إلى نوع ثالث ، ومن الاستحالة والفساد كما ذكرته في اختلاط الكثيفين ، فإنه معلوم أن ما خالطته النار واتحدت به ، غيرته وأحالته وأفسدت صورته الأولى ، والنار الملتحمة به ليست نارا محضة .
ومعلوم أيضا أن الجمرة التي ضربتها مثلا للمسيح فقلت : إن الله وعيسى اتحدا كاتحاد النار والحديد ، حتى صارا جمرة ، فمعلوم أن الجمرة إذا ضربت بالمطرقة ، أو وضعت في الماء ، أو مدت ، فإن هذه الأفعال تقع بالمجموع ، لا تقع على حديدة بلا نار ، ولا نار بلا حديدة .
فيلزم من ذلك أن يكون ما حل بالمسيح من ضرب وبصاق في الوجه ، ووضع الشوك على الرأس ، ومن أكل وشرب وعبادة ، ومن مشي وركوب ، ومن حمل وولادة ، وغير ذلك مما حل بالمسيح ، ومن موت ، إما متقدم وإما متأخر إذا نزل إلى الأرض ، ومن صلب - على قولهم - أن يكون جميع ذلك حل بالمسيح الذي هو عندهم إله تام ، وإنسان تام ، من غير فرق بين لاهوته ولا ناسوته ، كما يكون ما يحل بجمرة النار ، من حمل ووضع وطرق بالمطرقة ومد ، وتصوير بشكل مخصوص وإلقاء في الماء ، وغير ذلك حال بمجموع الجمرة ، لا يقول عاقل : إن ذلك يحل بالحديد دون النار ، بل هو حال بالجمرة المستحيلة من حديدة ونار ، ومن خشبة ونار ، وليست حديدة محضة ، [ ص: 366 ] ولا نارا محضة ، ولا مجموع حديد محض ، ونار محضة ، بل جوهر ثالث مستحيل من حديد ونار ، كسائر ما يستحيل بالاتحاد والاختلاط إلى حقيقة ثالثة .
فلا فرق بين الشيئين إذا اتحدا واختلطا وصارا شيئا واحدا من أن يكونا كثيفين ، أو يكون أحدهما كثيفا والآخر لطيفا ، لا بد في ذلك كله أن يحصل لكل منهما من التغير والاستحالة ما يوجب الاتحاد ، وأن يكون المتحد المختلط المركب منهما شيئا ثالثا ، ليس هو أحدهما فقط ، ولا هو مجموع كل منهما على حاله .
فقولهم : ( إنه مع الاتحاد إنسان تام وإله تام ) ، كلام فاسد معلوم الفساد بصريح العقل .
وكلما ضربوا له مثلا ، كان المثل حجة على فساد قولهم ، بل مع الاتحاد ليس بإنسان تام ولا إله تام ، لكنه شيء ثالث مركب من إنسان استحال وتغير ، وإله استحال وتغير .
وإذا كان كل من هذين باطلا - بل إنسانية المسيح باقية تامة ، كما كانت لم تستحل ولم تتغير ، ورب العالمين باق بصفات كماله ، لم يستحل ولم يتصف بشيء من خصائص المخلوقات ، ولا استحال عما كان عليه قبل ذلك - كان قولهم ظاهر الفساد .
[ ص: 367 ] فهذا مثلهم الثاني الذي ضربوه لله ، حيث المسيح أو الله مع الإنسان بالنفس مع الجسد ، وشبهوه بالنار مع الحديد ، وهذا المثل أشد فسادا وأظهر . شبهوا
وأما المثل الثالث - وهو تمثيل ذلك بالشمس مع الماء والطين - : فهو أشد فسادا ، فإنهم قالوا كما تقدم : ( ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة ، فهي لا تتغير ولا تستحيل عن نورها وبقائها وضوئها ، مع مخالطتها كل سواد ووسخ ونتن ونجس ) .
فيقال : أما جرم الشمس الذي في السماء فلم يخالط شيئا من الماء والطين ، ولا اتحد به ولا حل فيه بوجه من الوجوه ، بل بينهما من البعد ما لا يقدر قدره إلا الله ، والله - تعالى - أجل وأعظم وأبعد من مخالطة الإنسان من الشمس للماء والطين .
فإذا كانت الشمس نفسها لم تتحد ، ولم تختلط ولا حلت في الماء والطين ، بل ولا بغيرها من المخلوقات ، فرب العالمين أولى أن ينزه عن الاتحاد والاختلاط والحلول بشيء من المخلوقات .
ولكن شعاع الشمس حل بالماء والطين والهواء وغير ذلك مما يقوم به الشعاع ، كما يحل شعاع النار في الأرض والحيطان ، وإن كان نفس جرم النار القائم بنفسه الذي في ذبالة المصباح هو جوهر قائم بنفسه ، لم تحل ذاته في شيء من تلك المواضع .
[ ص: 368 ] ولفظ الضياء والنور ونحو ذلك ، يراد به الشيء بنفسه المستنير ، كالشمس والقمر وكالنار ، قال تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقال : وجعلنا سراجا وهاجا وسمى سبحانه الشمس سراجا وضياء ; لأن فيها مع الإنارة والإشراق تسخينا وإحراقا ، فهي بالنار أشبه بخلاف القمر ، فإنه ليس فيه مع الإنارة تسخينا ، فلهذا قال : جعل الشمس ضياء والقمر نورا
والمقصود هنا ، أن لفظ الضياء والنور ونحو ذلك يراد به الشيء المستنير المضيء القائم بنفسه ، كالشمس والقمر والنار ، ويراد به الشعاع الذي يحصل بسبب ذلك في الهواء والأرض ، وهذا الثاني عرض قائم بغيره ليس هو الأول ، ولا صفة قائمة بالأول ، ولكنه حادث بسببه .
فالشعاع الذي هو الضوء والنور الحاصل على الماء والطين والهواء وغير ذلك ، هو عرض قائم بغيره ، وليس هو متحدا به البتة .
فهذا المثل لو ضربته النسطورية الذين يقولون : ( إن الناسوت واللاهوت جوهران بطبيعتين ، حل أحدهما بالآخر ) ، لكان تمثيلا باطلا ، فإن الشمس لم تحل بغيرها ، ولا صارت مشيئتها ومشيئة غيرها [ ص: 369 ] واحدة كما تقوله النسطورية ، بل شعاعها حل بغيره ، والشعاع حادث وكائن عنها .
فإذا قيل : ، ومثل ذلك بحلول الشعاع بالأرض - كان أقرب إلى العقول ، ولهذا قال تعالى : إن ما يكون عن الرب من نوره وروح قدسه وهداه وكلامه ومعرفته ، يحل بقلوب أنبيائه والمؤمنين من عباده الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة قال : مثل نوره في قلوب المؤمنين بهذا . أبي بن كعب
وكذلك إذا قيل : نوره أو هداه أو كلامه ، وسمى ذلك روحا ، يحل في قلوب المؤمنين ، فهو بهذا الاعتبار ، والله قد سمى ذلك روحا فقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقال تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده
[ ص: 370 ] وقال تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وما جاء في الكتب المتقدمة من أن روح الله أو روح القدس يحل في الأنبياء والمؤمنين ، فهو حق بهذا الاعتبار .
وإذا قيل : كلام الله يحل في قلوب القارئين ، فهو حق بهذا الاعتبار .
وأما نفس ما يقوم بالرب ، فلا يتصور أن يقوم هو نفسه بغير الرب ، بل ما يقوم بالمخلوق من الصفات والأعراض ، يمتنع أن يقوم هو نفسه بغيره .
فيمتنع في صفات الشمس القائمة بها من شكلها واستدارتها ، وما قام بها من نور أو غيره أن يقوم بغيرها ، وكذلك ما قام بجرم النار من حرارة وضوء ، فلا يقوم بغيرها ، بل إذا جاورت النار هواء أو غير هواء ، حصل في ذلك المحل سخونة أخرى غير السخونة القائمة بنفس النار تسخن الهواء الذي يجاورها ، كما تسخن القدر الذي يوقد تحتها النار فيسخن ، ثم يسخن الماء الذي فيها مع أن سخونة النار باقية فيها ، وسخونة القدر باقية فيها ، وسخونة الماء سخونة أخرى حصلت في الماء ليست واحدة من تينك ، وإن كانت حادثة عنها ، وجنس السخونة يجمع ذلك كله .
[ ص: 371 ] ولهذا ذكر الإمام عن السلف أنهم كرهوا أن يتكلم أحد في حلول كلام الله في العباد بنفي أو إثبات ، فإن لفظ " الحلول " لفظ مجمل يراد به معنى باطل ، ويراد به معنى حق . أحمد
وقد جاء في كلام الأنبياء لفظ " الحلول " بالمعنى الصحيح ، فتأوله من في قلبه زيغ ، كالنصارى وأشباههم على المعنى الباطل ، وقابلهم آخرون أنكروا هذا الاسم بجميع معانيه ، وكلا الأمرين باطل .
وقد قدمنا أن الناس يقولون : أنت في قلبي ، أو ساكن في قلبي ، وأنت حال في قلبي ، ونحو ذلك ، وهم لا يريدون أن ذاته حلت فيه ، ولكن يريدون أن تصوره وتمثله وحبه وذكره حل في قلبه ، كما تقدم نظائر ذلك .
والمقصود هنا ، أن النسطورية لو شبهوا ما يدعونه من اتحاد وحلول بالشعاع مع الطين ، كان تمثيلهم باطلا ، فكيف بالملكية الذين هم أعظم باطلا وضلالا ؟ فقولهم : ( ومثل الشمس المخالطة للطين والماء وكل رطوبة وحمأة ) ، تمثيل باطل من وجوه :
منها : أن الشمس نفسها لم تتحد ولم تحل بغيرها ، بل ذلك شعاعها .
ومنها : أن الشعاع نفسه لم يتحد بالماء والطين ، ولكن حل به وقام به .
[ ص: 372 ] ومنها : أن ذلك عام في المخلوقات من وجه ، وبعباده المؤمنين من وجه لا يختص المسيح به ، فالمخلوقات كلها مشتركة في أن الله خلقها بمشيئته وقدرته ، وأنه لا قوام لها إلا به ، فلا حول ولا قوة إلا به ، وهي كلها مفتقرة إليه محتاجة إليه مع غناه عنها ، ولهذا كانت من آيات ربوبيته وشواهد إلهيته .
ومن سماها مظاهر ومجالي ، بمعنى أن ذاته نفسها تظهر فيها ، فهو مفتر على الله ، ومن أراد بذلك أنه أظهر بها مشيئته وقدرته وعلمه وحكمته ، فأراد بالمظاهر والمجالي ما يراد بالدلائل والشواهد ، فقد أصاب .
وكذلك إذا قال : هي آثاره ومقتضى أسمائه وصفاته .
وأما المؤمنون ، فإن الإيمان بالله ومعرفته ومحبته ونوره وهداه يحل في قلوبهم ، وهو المثل الأعلى والمثال العلمي ، فلا اختصاص للمسيح بهذا ، وكذلك كلامه في قلوب عباده المؤمنين ، لا اختصاص للمسيح بذلك .
ومنها : أن الشعاع لم يخالط الماء والطين ، ولا يخالط شيئا من الأعيان ولا ينفذ فيه ولا يتحد به ، بل يكون على سطحه الظاهر فقط ، لكن الشعاع يسخن ما يحل فيه ، فإذا سخن ذلك ، سخن جوفه [ ص: 373 ] بالمجاورة ، كما يسخن الماء بسخونة القدر من غير أن تكون النار خالطت القدر ولا الماء .
فأين هذا من قولهم : ( إن رب العالمين اتحد بابن امرأة ، فصار إلها تاما وإنسانا تاما ) ؟
وهل يقول عاقل : إن الماء والطين صار شعاعا تاما ، وطينا تاما ؟ بل الطين طين ، لكن أثر الشعاع فيه بتجفيفه ، لم يتحد به الشعاع ، ولا نفذ فيه ، ولا حل في باطنه .
فهذا المثل أبعد عن مذهبهم من تمثيلهم بالنار مع الحديد ، ومن تمثيلهم بالنفس مع الجسد ، فإن هناك اتصالا بباطن الحديد والبدن ، وهنا لم يتصل الشعاع إلا بظاهر الطين وغيره .
وأيضا فالنفس جوهر قائم بنفسه ، والشعاع عرض ، وكذلك النار جوهر ، فالشمس هنا لم تتحد ولم تحل بالطين ، بل شعاعها ، بل ولا يوصف الطين باتحاده بالشعاع ، ولا باختلاط الشعاع بباطنه ، ولا بحلول الشمس نفسها فيه .
وحينئذ فقول القائل : ( إن الشمس لم تتغير ، ولم تستحل عن نورها ونقائها وضوئها مع مخالطتها كل وسخ ونتن ونجس ) ، إن أريد به نفس الشمس أو صفاتها القائمة بها ، فتلك لم تتحد بغيرها ولا حلت فيه ولا قامت بغيرها .
فإذا كانت الشمس كذلك - ولله المثل الأعلى - فهو أولى أن لا يتحد بغيره ولا يحل فيه ولا يقوم به .
[ ص: 374 ] وإن أريد شعاعها ، فشعاها ليس هو الشمس ، فلا ينفعهم التمثيل به ، فإنهم يقولون : إن الله نفسه اتحد بالمسيح ، والمسيح - عندهم - هو رب العالمين مع أنه إنسان تام ، فهو - عندهم - إله تام ، إنسان تام ، والطين ليس بشعاع تام ، ولا طين تام ، والشعاع نفسه لا يخالط شيئا ، ولكن يقوم به ، وقيام العرض بالمحل غير مخالطته له ، فإن المخالطة تكون باختلاط كل من الأمرين بالآخر ، كاختلاط الماء بالطين ونحو ذلك .
وأما ما يقوم بالسطح الظاهر فيقال : إنه مخالط بجميع الأجزاء ، فلا يقال للشعاع الذي على الجبال والبحر : إنه مخالط لجميع الجبال والبحر ، ولا لشعاع النار : إنه مخالط للحيطان وداخل للأرض ، وقد تقدم أنهم قسموا هذا الباب ثلاثة أقسام :
أحدها : اختلاط أحد الشيئين بالآخر ، كالماء والخمر .
والثاني : اتصال من غير اختلاط ، كالماء والزيت ، والإناء الذي بعضه فضة وبعضه ذهب ، وقالوا : إن هذا لا ينبغي أن يسمى اختلاطا مع افتراق الطبيعتين والقوامين ، مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة ; لأن طبيعة الفخار ليس بينها وبين الماء خلطة .
وهذا الفرق موجود في الشعاع والطين ، بل بينهما من الفرق [ ص: 375 ] أشد مما بين الماء والقلة ، فإن الماء جرم قائم بنفسه ، وهذا عرض قائم بغيره ، والجسم بالجسم أشبه من الجسم بالعرض .
والإله عندهم مخالط لجميع ناسوت المسيح ، لم يخل جزء منه من اتحاد الإله به ، فأين هذا من هذا ؟
وإذا قيل : إن الشعاع لم يستحل عن نوره ونقائه وضوئه مع مخالطته كل سواد ووسخ ونتن ونجس ، لم يكن مثلا يطابقه مع أنه لم يخالط الشعاع غيره .
ثم يقال : إن أراد بما لم يتغير نفس الشعاع القائم بالمحل ، فهذا ممنوع ، فإن الشعاع يتغير بتغير محله ، فيرى في الأحمر أحمر ، وفي الأسود أسود ، وفي الأزرق أزرق ، حتى إن الزجاج المختلف الألوان إذا صار مطرحا للشعاع ، ظهر الشعاع متلونا بتلون الزجاج ، فيرى أحمر وأزرق وأصفر .
وقد ضرب أهل الإلحاد القائلون بوحدة الوجود ، - لله أمثالا باطلة شرا من أمثال وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق النصارى ، ولهم مثل السوء ، ولله المثل الأعلى ، وكان مما ضربوه لله من الأمثال أن شبهوه بالشعاع في الزجاج .
فالأعيان الثابتة في العدم - عندهم - هي الممكنات ، ووجود الحق قاض عليها ، فشبهوا وجوده بالشعاع ، وأعيانهم بالزجاج ، وهذا باطل من وجوه :
منها : أن القول بأن أعيان الممكنات ثابتة في العدم - قول باطل .
[ ص: 376 ] ومنها : أن قولهم : إن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق ، هو أيضا باطل .
ومنها : أن حلول الشعاع بالزجاج يقتضي حلول أحدهما بالآخر ، وهم ينكرون الحلول ، ويقولون : الوجود واحد .
ومنها : أن الشعاع الذي على نفس الزجاج ، ليس وجوده وجود الزجاج ، وعندهم وجود الرب وجود الممكنات .
ومنها : أن الشعاع الحال بهذا الزجاج ، ليس هو بعينه ذلك الشعاع الحال بالزجاج الآخر ، وإن كان نظيره ، وهؤلاء عندهم أن الوجود واحد بالعين لا يتعدد .
ومنها : أن الشعاع عرض مفتقر إلى الزجاج ، فهو مفتقر إليه افتقار العرض إلى محله ، فيلزم إذا مثلوا به الرب أن يكون الرب مفتقرا إلى كل ما سواه مع غنى كل ما سواه عنه ، وهذا قلب كل حقيقة ، وأعظم كفر بالخالق - تعالى - فإنه - سبحانه - الغني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه مفتقر إليه .
وكل من قال بحلول الله في شيء من المخلوقات من النصارى وغيرهم ، يلزمهم أن يكون مفتقرا إلى ما حل فيه ، فإنه لا حقيقة للحلول إلا هذا .
ولهذا كان ما حل بقلوب المؤمنين من الإيمان والهدى والنور والمعرفة مفتقرا إلى قلوب المؤمنين ، ولا يقوم إلا بها .
[ ص: 377 ] وجميع الصور الذهنية القائمة بالأذهان مفتقرة إلى الأذهان ، لا تقوم إلا بها ، والشعاع مفتقر إلى محله ، لا يقوم إلا به ، وهكذا سائر النظائر .
وهؤلاء الذين شابهوا النصارى وزادوا عليهم من الكفر بقولهم : إن يقولون : إنه مفتقر إلى الأعيان في وجوده ، وهي مفتقرة إليه في ثباتها ، فيجعلون الخالق محتاجا إلى كل مخلوق ، والمخلوق محتاجا إلى الخالق ، ويصرحون بذلك ، كما يصرح بعض وجود الخالق وجود كل مخلوق ، وإنه قائم بأعيان الممكنات النصارى ، بأن اللاهوت محتاج إلى الناسوت ، والناسوت محتاج إلى اللاهوت .
ومعلوم أن . الله غني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه ، فهو الصمد المستغني عن كل شيء ، وكل شيء مفتقر إليه
فمن قال : إنه مفتقر إلى مخلوق بوجه ما ، فهو كاذب مفتر كافر ، فكيف بمن قال : إنه مفتقر إلى كل شيء ؟
والمثل الذي ضربوه له ، يقتضي أن يكون مفتقرا إلى غيره ، وغيره مستغن عنه ، كالمثل الذي ضربه النصارى له ، لما مثلوه بشعاع الشمس مع محله ، فإن محل الشعاع مستغن عن الشعاع ، والشعاع مفتقر إلى محله .
فمقتضى هذا التمثيل ، أن الإله محتاج إلى الإنسان ، والإنسان [ ص: 378 ] مستغن عن الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا