الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 351 ] قال سعيد بن البطريق : وليس حلول كلمة الله الخالقة والتحامها بجوهر الناسوت - عن انتقال ولا تغير ولا احتيال من واحد من الجوهرين عن كثافة ، فلا الإلهي احتال أن يكون إلها خالقا ، ولا الناسي احتال عن أن يكون ناسيا مخلوقا .

والاحتيال والتغير ، إنما يلزم الخلطة إذا كانت من خلقين ثقيلين غليظين ، مثل الماء والخمر ، أو الماء والعسل ، أو السمن والعسل ، والذهب والورق والنحاس والرصاص ، وما أشبه ذلك ; لأن كله ثقيل غليظ ، وكل ثقل تخالطه ثقلة - لا محالة - يلزمه التغير حتى يصير إلى ما كانت عليه الأثقال ، فلا الخمر خمرا ، ولا الماء ماء بعد اختلاطهما ، ولكنهما احتالا جميعا عن جوهرهما ، فصار إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه ، ولا أحدهما خالص من الفساد والاحتيال عن حاله .

فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ ، لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال ، مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا ، [ ص: 352 ] أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت ; أي استحالت عن جوهرها أن تكون نفسا تعرفها بفعالها ، ولا الجسد تغير ولا احتال عن حاله وأفعاله ، ومثل ما كان تخالط النار والحديد فيلتحمان جميعا فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار قد تغيرت إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع ، ولا الحديدة تغيرت واحتالت إلى أن تكون نارا تحرق ، فكذلك تفعل كل خلطة مؤلفة من شيئين مختلفين أحدهما روحاني لطيف ، والآخر ثقلي غليظ ، مثل النفس والجسد والنار والحديد ، ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة ، فهي لا تتغير ولا تحتال عن نورها ونقائها وضوئها ، مع مخالطتها كل سواد وسخ ، ونتن ونجس .

قال : والخلطة تكون على ثلاثة أوجه :

أحدها : خلطة باختلاط من الطبيعتين الثقيلتين واحتيالهما وفسادهما ، مثل خلطة الخمر والماء ، والخل والعسل ، والذهب والورق والرصاص والنحاس ، فإن في ذلك كله وما أشبهه ، احتيالا وفسادا ; لأن مزاج الخمر والماء ، ليس بخمر ولا ماء ; لاحتيال كل واحد منهما عن طبعه واختلاطهما بفسادهما وتغيرهما عن حالهما .

[ ص: 353 ] وكذلك خلطة الخل والعسل ، قد صارت لا خلا ولا عسلا ; لاحتيال كل واحد منهما ، وخلطة الذهب والورق على مثل ذلك صارت على غير صحة لا من الذهب ولا من الورق ، وخلطة الورق والنحاس على غير صحة ، لا من الورق ولا من النحاس ، فهذا وجه من الوجوه الثلاثة .

والوجه الثاني : خلطة افتراق من الطبيعتين الثقيلتين ، وقد تعرف من تلك الخلطة كل واحدة من الطبيعتين ثابتة في الأخرى بقوامها ووجهها ، مثل الزيت والماء في قنديل واحد ، ومثل الكتان والقز في ثوب واحد منسوج بكتان مضلع بقز ، ومثل صنم نحاس رأسه من ذهب ، وما أشبه ذلك مما لا ينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين والقوامين ، مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة ; لأن طبيعة القلة فخار ، قوامها قلة ، وليس بينهما وبين الماء خلطة ، بل أشد الفرقة .

وكذلك الماء والزيت ، لولا أن وعاء القنديل الذي هما فيه ضمهما ما اجتمعا .

وكذلك الكتان والقز ، ليس بينهما خلطة ، وإن كانا في ثوب واحد ، ولا بين الذهب والنحاس ولم يسبكا خلطة ، وإن جمعها صنم واحد .

فهاتان الخلطتان لا تكونا أبدا إلا في أثقال جسمانيات غليظة .

فإن التحم بعضهما ببعض مثلما يذاب الذهب والنحاس ويفرغان جميعا ، وقعت في وجه خلطة الاحتيال والفساد ; لأن تلك النقرة ليست بذهب صحيح ، ولا بنحاس صحيح .

[ ص: 354 ] فإن لم تلحم وألزم بعضها بعضا ، مثل طوق يكون من نحاس وذهب ، وقعت من وجه خلطة الافتراق التي لا يحق لها أن تسمى خلطة .

وفي هذين الوجهين وقع " نسطورس " وأشياعه فلزموا خلطة الاحتيال والفساد ، فزعموا أن الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية اختلطا في المسيح الواحد ، فهو ذو قوام واحد بطبيعة واحدة مختلطة من طبيعتين مختلفتين إلهية وناسية ، فأقروا أنهما قد احتالا ، والاحتيال فساد .

وألزموا على هذا القول الكافر طبيعة الله المصائب والموت ، وصيروا المسيح لا إلها صحيحا ولا إنسانا ، مثل الذهب والنحاس .

فنسطورس وأشياعه لزموا خلطة الفرقة والانقطاع ، فزعموا أن المسيح الواحد ذو طبيعتين مختلفتين ، الإلهية وناسية ، وذو قوامين معروفين ، إلهي وناسي ، فصيروا الفرقة خلطة ، كالطوق الملون نصفين أحدهما ذهب والآخر نحاس ، والثوب المبطن ظاهره خز وباطنه قطن ، ليس بينهما خلطة في طبيعة ولا قوام .

وليس لهم على هذا أن يؤمنوا بمسيح واحد ; لأن الطوق الملون طوقان ، والثوب المبطن ثوبان .

فالمسيح - مثل ذلك - مسيحان ، واحد إلهي بطبيعته وقوامه ، مثل قضيب الذهب في الطوق الملون ، ومثل ظهارة الخز في الثوب المبطن .

والآخر ناسي ، مثل قضيب النحاس في الطوق ، وبطانة القطن في الثوب .

[ ص: 355 ] والعجب كل العجب ، كيف لم يفصل أهل الخلاف والشقاق بين الصنفين كليهما ؟ ولم يفهموا أن هاتين الخلقتين أنهما خلقتان ذواتا أثقال جسمانية غليظة ، ليس فيهما شيء من الخلق الروحاني اللطيف الخفيف ، ولذلك لا تقدر الأثقال الغليظة على الخروج من هذين الوجهين من وجوه الخلطة ; لأنهما إن اختلطا خلطة ملتحمة ممتزجة ، صارت إلى احتيال وفساد ، وإن قامت على حالها ، لا تلتحم ولا يمتزج بعضها ببعض ، فهي على وجه خلطة الافتراق ، ومنقطعة بعضها من بعض ، وإن جمعها صنم واحد أو ثوب واحد ، فليس يوجد لشيء من الأثقال الجسمانية وجه خلطة سوى هذين الوجهين أبدا ، إما فساد وإما انقطاع ، إلا أن تكون الخلطة في اثنين أحدهما ثقيل جسماني ، والآخر لطيف روحاني ، فإن ذلك هو .

الوجه الثالث من الخلطة : وهي خلطة الحلول بلا اختلاط ولا احتيال ، ولا فساد ولا فرقة ولا انقطاع ، لكنها نفاذ الطبيعة الروحانية في الطبيعة الثقيلة السفلية ، حتى تنتشر في جميعها وتحل بكلها ، فلا يبقى موضع من الطبيعة الثقيلة السفلية خلوا من الطبيعة الروحانية ، ولا احتيال من الثقيلة الجسمانية عن طبيعتها الغليظة الثقيلة ، ولا تغيير ولا فساد لإحداهما ، مثل خلطة النفس والجسد ، ومثل خلطة النار والحديد في قوام جمرة واحدة ، فهي جمرة واحدة بالقوام من طبيعة نار ملتحمة مخالطة لطبيعة الحديدة بلا فرقة من انقطاع ، ولا تخليط احتيال وفساد ، [ ص: 356 ] وقد انتشرت النار في جميع الحديدة ، ولبستها ، وأنالت النار الحديدة من قوامها وقوتها حتى أنارت الحديدة وأحرقت ، ولم تنل النار من ضعف الحديدة شيئا من السواد ولا البرودة .

فعلى هذا الوجه من الخلطة دبرت كلمة الله الخالقة خلطتها للطبيعة البشرية .

فهو مسيح واحد ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل الأدهار كلها ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود ليس بمخلوق من سوس أبيه وجوهره وطبيعته ، وهو إياه من مريم العذراء المولود منها في آخر الزمان بقوام واحد ، قوام ابن الله الوحيد الجامع للطبيعتين كلتيهما ، الإلهية التي لم تزل في البدء قبل كل بدء ، والناسية التي كونت في آخر الزمان المقوم بالقوام الأزلي .

فهو مسيح واحد بقوام واحد أزلي ، ذو طبيعتين إلهية لم تزل ، وناسية خلقها له والتحم بها من مريم العذراء ، فقوامه ذلك قوام الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية ، جامعا لهما بلا اختلاط ولا فساد ، ولا فرقة انقطاع ، لم يزل قوام الطبيعة الإلهية ، ثم هو قوام الطبيعة الناسية ، قد خلقها وكونها وقومها بقوامه الذي لم يزل يقيم إلا به ، ولم يعرف إلا له .

والجواب عن هذا الكلام - بعد أن يقال : إنه تناقض ، [ ص: 357 ] فجعل هذا تارة اختلاطا ، وتارة يقول : ليس هو اختلاطا - أن يقال : إنه - أولا - قد يجعل هذا الحلول والالتحام اختلاطا ، ويقول : إنه لا يكون فيه استحالة ولا تغير ، ويقول : الاستحالة والتغيير إنما يلزم الخلطة ، إذا كانت من خلقين غليظين ، كالماء والخمر ، فأما إذا كانت من لطيف وكثيف ، لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال - أي استحالة - ويقول : والخلطة تكون على ثلاثة أوجه : ثم يقول : أحدهما كالخمر والماء ، والثاني كالزيت والماء ، والكتان والقز ، ثم يقول : وما أشبه ذلك مما ينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين ، فيجعله من أقسام الخلطة ، ثم يقول : ولا ينبغي أن يسمى خلطة .

وليس المقصود المنازعات اللفظية ، بل يقول : دعواه أن أحد نوعي الاختلاط يكون عن تغير واستحالة ، بخلاف النوع الآخر الذي هو اختلاط لطيف وغليظ - دعوى ممنوعة ، ولم يقم عليها دليلا ، بل يقول : هي باطلة ، بل لا يكون الاختلاط بين شيئين إلا مع تغير واستحالة .

وما ذكره من الأمثال والشواهد ، فهي حجة عليه ; لقوله : ( فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ ، لم يخالط تلك الخلطة تغير [ ص: 358 ] ولا احتيال ، مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا ، أحدهما ملتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت عن جوهرها ، أن تكون نفسا تعرفها بفعالها ، ولا الجسد تغير واستحال عن حاله وفعاله .

فيقال : هذا قول باطل ظاهر البطلان لكل من تصوره ، فإن الجسد إذا خلا عن النفس ، مثل ما يكون قبل نفخ الروح فيه ، وما يكون بعد مفارقة الروح له بالموت ، بل آدم - عليه السلام - أبو البشر ، خلق من تراب وماء ، وصار صلصالا كالفخار ، ثم نفخت فيه الروح ، فصار جسدا هو لحم وعظم وعصب ودم .

فهل يقول عاقل : إن جسد آدم قبل النفس وبعدها على صفة واحدة لم يتغير ولم تستحل ، وذريته من بعده يخلق أحدهم من نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، فيكون جسدا ميتا ، ثم ينفخ فيه الروح فيصير الجسد حيا بعد أن كان ميتا ؟

وأي تغيير أعظم من انتقال الجسد من الموت إلى الحياة ؟

ومعلوم بالحس والعقل الفرق بين الحي والميت ، كما قال تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات والجسد إذا لم ينفخ فيه الروح ، فهو موات ليس له حس ولا حركة إرادية ، ولا يسمع ولا يبصر ، ولا ينطق ولا يعقل ، ولا يبطش ولا يأكل [ ص: 359 ] ولا يشرب ، ولا يمني ولا ينكح ، ولا يتفكر ولا يحب ولا يبغض ، ولا يشتهي ولا يغضب .

فإذا اتصلت به النفس ، تغيرت أحواله واستحالت صفاته ، وصار حساسا متحركا بالإرادة ، فكيف يقال مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا ، أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واستحالت عن جوهرها ، أن تكون نفسا يعرفها بفعالها ، ولا الجسد تغير ولا استحال عن حاله وأفعاله ؟

فهل يقول عاقل يتصور ما يقول : إن الجسد كان حاله وفعاله مع مفارقة النفس له ، كحاله وفعاله مع مخالطتها له ؟

وهل يقول عاقل : إن الجسد بعد موته ومفارقة النفس له ، حاله وفعاله كحاله وفعاله إذا كانت النفس مختلطة به ، وهو إذا مات كالجماد لا يسمع ولا يبصر ، ولا ينطق ولا يبطش ولا يمشي ، قد جمد دمه واسود ، ولم يبق سائلا ، وتغير سحنته ولونه ، وتغير الجسد بالحياة بعد الموت ، وبالموت بعد الحياة - من أعظم التغيرات والاستحالات ؟

وكذلك النفس ، فإن النفس - عند اتصالها بالبدن - تلتذ بلذته ، وتتألم بألمه .

فإذا أكل البدن وشرب ، ونكح واشتم ، التذت النفس ، وإذا ضرب البدن وصفع ، وأهين وحط الشوك على رأسه ، وبصق في وجهه ، تألمت النفس بذلك .

فإذا شبهوا اتحاد الرب بالمسيح باتحاد النفس بالبدن ، وهم [ ص: 360 ] يقولون : إن المسيح وكل أحد إذا ضرب وصفع وصلب فتألم بدنه ، تألمت نفسه أيضا .

فإن كان الألم مع نفس المسيح وجسده ، كالنفس مع الجسد ، وجب أن يكون الرب يتألم بتألم الناسوت ، ويجوع بجوعه ويشبع بشبعه ، فإن ألم الجوع ولذة الشبع يحصل للنفس إذا جاع البدن وشبع .

وأيضا فالمسيح عندهم إله تام ، وإنسان تام ، والإله إله قبل الاتحاد ، والإنسان إنسان قبل الاتحاد .

فهم يقولون : إنهما بعد الاتحاد إله تام كما كان ، وإنسان تام كما كان .

فنظير هذا ، أن يكون الإنسان المركب من بدن ونفس ، نفسا تامة وبدنا تاما ، وأن تكون الحديدة المحماة ، حديدا تاما ونارا تامة ، وهو باطل ، بل الإنسان مركب من نفس وبدن ، والإنسان اسم لمجموع ، ليس الإنسان روحا والإنسان بدنا .

فلو كان الاتحاد حقا ، لوجب أن يقال : إن المسيح نصفه لاهوت ، ونصفه ناسوت ، وهو مركب من هذا وهذا .

ولا يقال : إن المسيح نفسه إنسان تام ، والمسيح نفسه إله تام ، فإن تصور هذا القول على الوجه التام يوجب العلم الضروري ، حيث جعلوا [ ص: 361 ] المسيح الذي هو المبتدأ ، الموضوع المخبر عنه المحكوم عليه ، هو إنسان تام وإله تام ، يوجب أن يكون نفس الإنسان هو نفس الإله .

ولو قيل هذا في مخلوقين ، فقيل : نفس الملك نفس البشر ، لكان ظاهر البطلان ، فكيف إذا قيل في رب العالمين ؟ لا سيما وكثير من النصارى لا يقولون : إن جسد المسيح مخلوق ، بل يصفون الجميع بالإلهية ، وهذا مقتضى قول أئمتهم القائلين : إن المسيح إله تام ، لكنهم تناقضوا فقالوا - مع ذلك - : وهو إنسان تام ، فكأنهم قالوا : هو الخالق ليس هو الخالق ، هو مخلوق ليس هو مخلوق ، فجمعوا بين النقيضين ، وهذا حقيقة قول النصارى ، لا سيما واتحاد اللاهوت بناسوت المسيح - عندهم - اتحاد لازم ، لم يفارقه البتة ، فيكون ذلك أبلغ من الاتحاد العارض ، ومن أن الرب كان متحدا بجسد لا روح فيه ، ثم بالجسد مع نفخ الروح فيه ، ثم بالجسد بعد مفارقة الروح له ، وحيث دفن في القبر ووضع التراب عليه .

ومعلوم أن الإنسان إذا كانت فيه النفس وجعلت في التراب معه ، تألمت النفس ألما شديدا ، ثم تفارق البدن .

ومن العجائب أنهم يقولون : إن المسيح صلب ومات ، ففارقته النفس الناطقة ، وصار الجسد لا روح فيه ، واللاهوت - مع هذا - متحد لم يفارقه وهو في القبر ، واللاهوت متحد به ، فيجعلون اتحاده به أبلغ من اتحاد النفس بالبدن .

[ ص: 362 ] والنفس - عند اتصالها بالبدن - تتغير وتتبدل صفاتها وأحوالها ، ويصير لها من الصفات والأفعال ما لم يكن بدون البدن ، وعند مفارقة البدن ، تتغير صفاتها وأفعالها .

فإن كان تمثيلهم مطابقا ، لزم أن يكون الرب قد تغيرت أوصافه وأفعاله ، لما اختلط بالمسيح ، كما تتغير صفات النفس وأفعالها ، ويكون الرب قبل هذا الاختلاط كالنفس المجردة التي لم تقترن ببدن .

وأيضا فالنفس والبدن شريكان في الأعمال الصالحة والفاسدة ، لهما الثواب وعليهما العقاب ، والثواب والعقاب على النفس أكمل منه على البدن ، فإن كان الرب كذلك ، كان جميع ما يفعله المسيح باختياره فعل الرب ، كما أن جميع ما يفعله البدن باختيار فعل النفس عن التي تخاطب بالأمر والنهي ، فيقال لها : كلي واشربي وانكحي ، ولا تأكلي ولا تشربي ولا تنكحي .

فإن كان الرب مع الناسوت كذلك ، كان الرب هو المأمور والمنهي بما يأمر به المسيح ، وكان الرب هو المصلي الصائم العابد الداعي ، وبطل قولهم : يخلق ويرزق بلاهوته ، ويأكل ويعبد بناسوته .

فإن النفس والبدن لما اتحدا ، كانت جميع الأفعال الاختيارية للنفس والبدن ، فإذا صلى الإنسان وصام ودعا ، فالنفس والبدن يوصفان بذلك جميعا ، بل النفس أخص بذلك ، وكذلك إذا أمر أو نهى ، فكلاهما موصوف بذلك ، وكذلك إذا ضرب ، فألم الضرب يصل [ ص: 363 ] إليهما كما تصل إليهما لذة الأكل والجماع .

بل أبلغ من ذلك ، أن الجني إذا دخل في الإنسي وصرعه وتكلم على لسانه ، فإن الإنسي يتغير ، حتى يبقى الصوت والكلام الذي يسمع منه ، ليس هو صوته وكلامه المعروف .

وإذا ضرب بدن الإنسي ، فإن الجني يتألم بالضرب ويصيح ويصرخ ، ويخرج منه ألم الضرب ، كما قد جرب الناس من ذلك ما لا يحصى ، ونحن قد فعلنا من ذلك ما يطول وصفه .

فإذا كان الجني تتغير صفاته وأحواله لحلوله في الإنسي ، فكيف بنفس الإنسان ؟

وعندهم اتحاد اللاهوت بالناسوت أتم وأكمل من اتحاد النفس بالجسد .

فهل يقول عاقل - مع هذا الاتحاد - : إنهما جوهران ، لكل منهما أفعال اختيارية ، لا يشركه الآخر فيها .

ويقولون - مع قولهم بالاتحاد - : إن الذي كان يصلي ويصوم ، ويدعو ويتضرع ، ويتكلم ويتألم ، ويضرب ويصلب ، هو نظير البدن ، والذي كان يأمر وينهى ، ويخلق ويرزق ، هو نظير النفس .

هذا مع قولهم : إن مريم ولدت اللاهوت مع الناسوت ، وأنه اتحد به مع كونه حيا وقبل حياته وعند مماته ، والجسد في ذلك كله كسائر أجساد الآدميين ، لم يظهر فيه شيء من خصائص الرب أصلا ، بل ولا بعد إتيانه بالآيات ، فإن تلك كان يجري مثلها وأعظم منها على يد [ ص: 364 ] الأنبياء ، فهذا أقرب أمثالهم وقد ظهر فساده .

وأبعد منه وأشد فسادا ، تمثيلهم ذلك بالنار والحديد .

ومعلوم عند كل من له خبرة ، أن النار إذا اتصلت بشيء من الأجسام الحيوانية والنباتية والمعدنية ، مثل جسد الإنسان وغيره ، ومثل الخشب والقصب والقطن وغيره ، ومثل الحديد والذهب والفضة ، فإنها تغير ذلك الجسد وتبدل صفاته عما كانت ، فتحرقه ، أو تذيبه ، أو تلينه ، والنار المختلطة به لا تبقى نارا محضة ، بل تستحيل وتتغير أيضا .

فقول هؤلاء : ومثل ما تختلط النار والحديد ، فيلتحمان جميعا ، فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار تغيرت ، إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع ، ولا الحديدة تغيرت واستحالت إلى أن تكون نارا تحرق ) ، كلام باطل ملبس ، فإن الجمرة ليست حديدة محضة ، ولا نارا محضة ، بل نوعا ثالثا .

وقوله : ( لم تتغير النار إلى أن تصير حديدة ، ولا الحديدة إلى أن تصير نارا ) - تلبيس .

فإن الاختلاط لا يتضمن الاستحالة والتغير ، كاختلاط الكثيفين الذي سلمه مثل الماء والخمر ، والماء والعسل ، والسمن والعسل ، والذهب والورق ، والنحاس والرصاص ، قد قال فيه : إنه لا الخمر خمر ، ولا الماء ماء بعد اختلاطهما ، ولكنهما استحالا جميعا عن جوهرهما ، فصارا إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه ، ولا أحدهما خالصا من الفساد والاستحالة عن حاله .

فيقال له : فهذا الذي سلمت فيه الفساد والاستحالة ، لم يصر [ ص: 365 ] الخمر فيه ماء ، ولا الماء فيه خمرا ، فكذلك مورد النزاع إذا لم تصر النار حديدة ، ولا الحديدة نارا ، لم ينفعك هذا النفي ، ولم يكن هذا مانعا من الاستحالة إلى نوع ثالث ، ومن الاستحالة والفساد كما ذكرته في اختلاط الكثيفين ، فإنه معلوم أن ما خالطته النار واتحدت به ، غيرته وأحالته وأفسدت صورته الأولى ، والنار الملتحمة به ليست نارا محضة .

ومعلوم أيضا أن الجمرة التي ضربتها مثلا للمسيح فقلت : إن الله وعيسى اتحدا كاتحاد النار والحديد ، حتى صارا جمرة ، فمعلوم أن الجمرة إذا ضربت بالمطرقة ، أو وضعت في الماء ، أو مدت ، فإن هذه الأفعال تقع بالمجموع ، لا تقع على حديدة بلا نار ، ولا نار بلا حديدة .

فيلزم من ذلك أن يكون ما حل بالمسيح من ضرب وبصاق في الوجه ، ووضع الشوك على الرأس ، ومن أكل وشرب وعبادة ، ومن مشي وركوب ، ومن حمل وولادة ، وغير ذلك مما حل بالمسيح ، ومن موت ، إما متقدم وإما متأخر إذا نزل إلى الأرض ، ومن صلب - على قولهم - أن يكون جميع ذلك حل بالمسيح الذي هو عندهم إله تام ، وإنسان تام ، من غير فرق بين لاهوته ولا ناسوته ، كما يكون ما يحل بجمرة النار ، من حمل ووضع وطرق بالمطرقة ومد ، وتصوير بشكل مخصوص وإلقاء في الماء ، وغير ذلك حال بمجموع الجمرة ، لا يقول عاقل : إن ذلك يحل بالحديد دون النار ، بل هو حال بالجمرة المستحيلة من حديدة ونار ، ومن خشبة ونار ، وليست حديدة محضة ، [ ص: 366 ] ولا نارا محضة ، ولا مجموع حديد محض ، ونار محضة ، بل جوهر ثالث مستحيل من حديد ونار ، كسائر ما يستحيل بالاتحاد والاختلاط إلى حقيقة ثالثة .

فلا فرق بين الشيئين إذا اتحدا واختلطا وصارا شيئا واحدا من أن يكونا كثيفين ، أو يكون أحدهما كثيفا والآخر لطيفا ، لا بد في ذلك كله أن يحصل لكل منهما من التغير والاستحالة ما يوجب الاتحاد ، وأن يكون المتحد المختلط المركب منهما شيئا ثالثا ، ليس هو أحدهما فقط ، ولا هو مجموع كل منهما على حاله .

فقولهم : ( إنه مع الاتحاد إنسان تام وإله تام ) ، كلام فاسد معلوم الفساد بصريح العقل .

وكلما ضربوا له مثلا ، كان المثل حجة على فساد قولهم ، بل مع الاتحاد ليس بإنسان تام ولا إله تام ، لكنه شيء ثالث مركب من إنسان استحال وتغير ، وإله استحال وتغير .

وإذا كان كل من هذين باطلا - بل إنسانية المسيح باقية تامة ، كما كانت لم تستحل ولم تتغير ، ورب العالمين باق بصفات كماله ، لم يستحل ولم يتصف بشيء من خصائص المخلوقات ، ولا استحال عما كان عليه قبل ذلك - كان قولهم ظاهر الفساد .

[ ص: 367 ] فهذا مثلهم الثاني الذي ضربوه لله ، حيث شبهوا المسيح أو الله مع الإنسان بالنفس مع الجسد ، وشبهوه بالنار مع الحديد ، وهذا المثل أشد فسادا وأظهر .

وأما المثل الثالث - وهو تمثيل ذلك بالشمس مع الماء والطين - : فهو أشد فسادا ، فإنهم قالوا كما تقدم : ( ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة ، فهي لا تتغير ولا تستحيل عن نورها وبقائها وضوئها ، مع مخالطتها كل سواد ووسخ ونتن ونجس ) .

فيقال : أما جرم الشمس الذي في السماء فلم يخالط شيئا من الماء والطين ، ولا اتحد به ولا حل فيه بوجه من الوجوه ، بل بينهما من البعد ما لا يقدر قدره إلا الله ، والله - تعالى - أجل وأعظم وأبعد من مخالطة الإنسان من الشمس للماء والطين .

فإذا كانت الشمس نفسها لم تتحد ، ولم تختلط ولا حلت في الماء والطين ، بل ولا بغيرها من المخلوقات ، فرب العالمين أولى أن ينزه عن الاتحاد والاختلاط والحلول بشيء من المخلوقات .

ولكن شعاع الشمس حل بالماء والطين والهواء وغير ذلك مما يقوم به الشعاع ، كما يحل شعاع النار في الأرض والحيطان ، وإن كان نفس جرم النار القائم بنفسه الذي في ذبالة المصباح هو جوهر قائم بنفسه ، لم تحل ذاته في شيء من تلك المواضع .

[ ص: 368 ] ولفظ الضياء والنور ونحو ذلك ، يراد به الشيء بنفسه المستنير ، كالشمس والقمر وكالنار ، قال تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقال : وجعلنا سراجا وهاجا وسمى سبحانه الشمس سراجا وضياء ; لأن فيها مع الإنارة والإشراق تسخينا وإحراقا ، فهي بالنار أشبه بخلاف القمر ، فإنه ليس فيه مع الإنارة تسخينا ، فلهذا قال : جعل الشمس ضياء والقمر نورا

والمقصود هنا ، أن لفظ الضياء والنور ونحو ذلك يراد به الشيء المستنير المضيء القائم بنفسه ، كالشمس والقمر والنار ، ويراد به الشعاع الذي يحصل بسبب ذلك في الهواء والأرض ، وهذا الثاني عرض قائم بغيره ليس هو الأول ، ولا صفة قائمة بالأول ، ولكنه حادث بسببه .

فالشعاع الذي هو الضوء والنور الحاصل على الماء والطين والهواء وغير ذلك ، هو عرض قائم بغيره ، وليس هو متحدا به البتة .

فهذا المثل لو ضربته النسطورية الذين يقولون : ( إن الناسوت واللاهوت جوهران بطبيعتين ، حل أحدهما بالآخر ) ، لكان تمثيلا باطلا ، فإن الشمس لم تحل بغيرها ، ولا صارت مشيئتها ومشيئة غيرها [ ص: 369 ] واحدة كما تقوله النسطورية ، بل شعاعها حل بغيره ، والشعاع حادث وكائن عنها .

فإذا قيل : إن ما يكون عن الرب من نوره وروح قدسه وهداه وكلامه ومعرفته ، يحل بقلوب أنبيائه والمؤمنين من عباده ، ومثل ذلك بحلول الشعاع بالأرض - كان أقرب إلى العقول ، ولهذا قال تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة قال أبي بن كعب : مثل نوره في قلوب المؤمنين بهذا .

وكذلك إذا قيل : نوره أو هداه أو كلامه ، وسمى ذلك روحا ، يحل في قلوب المؤمنين ، فهو بهذا الاعتبار ، والله قد سمى ذلك روحا فقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقال تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده

[ ص: 370 ] وقال تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه

وما جاء في الكتب المتقدمة من أن روح الله أو روح القدس يحل في الأنبياء والمؤمنين ، فهو حق بهذا الاعتبار .

وإذا قيل : كلام الله يحل في قلوب القارئين ، فهو حق بهذا الاعتبار .

وأما نفس ما يقوم بالرب ، فلا يتصور أن يقوم هو نفسه بغير الرب ، بل ما يقوم بالمخلوق من الصفات والأعراض ، يمتنع أن يقوم هو نفسه بغيره .

فيمتنع في صفات الشمس القائمة بها من شكلها واستدارتها ، وما قام بها من نور أو غيره أن يقوم بغيرها ، وكذلك ما قام بجرم النار من حرارة وضوء ، فلا يقوم بغيرها ، بل إذا جاورت النار هواء أو غير هواء ، حصل في ذلك المحل سخونة أخرى غير السخونة القائمة بنفس النار تسخن الهواء الذي يجاورها ، كما تسخن القدر الذي يوقد تحتها النار فيسخن ، ثم يسخن الماء الذي فيها مع أن سخونة النار باقية فيها ، وسخونة القدر باقية فيها ، وسخونة الماء سخونة أخرى حصلت في الماء ليست واحدة من تينك ، وإن كانت حادثة عنها ، وجنس السخونة يجمع ذلك كله .

[ ص: 371 ] ولهذا ذكر الإمام أحمد عن السلف أنهم كرهوا أن يتكلم أحد في حلول كلام الله في العباد بنفي أو إثبات ، فإن لفظ " الحلول " لفظ مجمل يراد به معنى باطل ، ويراد به معنى حق .

وقد جاء في كلام الأنبياء لفظ " الحلول " بالمعنى الصحيح ، فتأوله من في قلبه زيغ ، كالنصارى وأشباههم على المعنى الباطل ، وقابلهم آخرون أنكروا هذا الاسم بجميع معانيه ، وكلا الأمرين باطل .

وقد قدمنا أن الناس يقولون : أنت في قلبي ، أو ساكن في قلبي ، وأنت حال في قلبي ، ونحو ذلك ، وهم لا يريدون أن ذاته حلت فيه ، ولكن يريدون أن تصوره وتمثله وحبه وذكره حل في قلبه ، كما تقدم نظائر ذلك .

والمقصود هنا ، أن النسطورية لو شبهوا ما يدعونه من اتحاد وحلول بالشعاع مع الطين ، كان تمثيلهم باطلا ، فكيف بالملكية الذين هم أعظم باطلا وضلالا ؟ فقولهم : ( ومثل الشمس المخالطة للطين والماء وكل رطوبة وحمأة ) ، تمثيل باطل من وجوه :

منها : أن الشمس نفسها لم تتحد ولم تحل بغيرها ، بل ذلك شعاعها .

ومنها : أن الشعاع نفسه لم يتحد بالماء والطين ، ولكن حل به وقام به .

[ ص: 372 ] ومنها : أن ذلك عام في المخلوقات من وجه ، وبعباده المؤمنين من وجه لا يختص المسيح به ، فالمخلوقات كلها مشتركة في أن الله خلقها بمشيئته وقدرته ، وأنه لا قوام لها إلا به ، فلا حول ولا قوة إلا به ، وهي كلها مفتقرة إليه محتاجة إليه مع غناه عنها ، ولهذا كانت من آيات ربوبيته وشواهد إلهيته .

ومن سماها مظاهر ومجالي ، بمعنى أن ذاته نفسها تظهر فيها ، فهو مفتر على الله ، ومن أراد بذلك أنه أظهر بها مشيئته وقدرته وعلمه وحكمته ، فأراد بالمظاهر والمجالي ما يراد بالدلائل والشواهد ، فقد أصاب .

وكذلك إذا قال : هي آثاره ومقتضى أسمائه وصفاته .

وأما المؤمنون ، فإن الإيمان بالله ومعرفته ومحبته ونوره وهداه يحل في قلوبهم ، وهو المثل الأعلى والمثال العلمي ، فلا اختصاص للمسيح بهذا ، وكذلك كلامه في قلوب عباده المؤمنين ، لا اختصاص للمسيح بذلك .

ومنها : أن الشعاع لم يخالط الماء والطين ، ولا يخالط شيئا من الأعيان ولا ينفذ فيه ولا يتحد به ، بل يكون على سطحه الظاهر فقط ، لكن الشعاع يسخن ما يحل فيه ، فإذا سخن ذلك ، سخن جوفه [ ص: 373 ] بالمجاورة ، كما يسخن الماء بسخونة القدر من غير أن تكون النار خالطت القدر ولا الماء .

فأين هذا من قولهم : ( إن رب العالمين اتحد بابن امرأة ، فصار إلها تاما وإنسانا تاما ) ؟

وهل يقول عاقل : إن الماء والطين صار شعاعا تاما ، وطينا تاما ؟ بل الطين طين ، لكن أثر الشعاع فيه بتجفيفه ، لم يتحد به الشعاع ، ولا نفذ فيه ، ولا حل في باطنه .

فهذا المثل أبعد عن مذهبهم من تمثيلهم بالنار مع الحديد ، ومن تمثيلهم بالنفس مع الجسد ، فإن هناك اتصالا بباطن الحديد والبدن ، وهنا لم يتصل الشعاع إلا بظاهر الطين وغيره .

وأيضا فالنفس جوهر قائم بنفسه ، والشعاع عرض ، وكذلك النار جوهر ، فالشمس هنا لم تتحد ولم تحل بالطين ، بل شعاعها ، بل ولا يوصف الطين باتحاده بالشعاع ، ولا باختلاط الشعاع بباطنه ، ولا بحلول الشمس نفسها فيه .

وحينئذ فقول القائل : ( إن الشمس لم تتغير ، ولم تستحل عن نورها ونقائها وضوئها مع مخالطتها كل وسخ ونتن ونجس ) ، إن أريد به نفس الشمس أو صفاتها القائمة بها ، فتلك لم تتحد بغيرها ولا حلت فيه ولا قامت بغيرها .

فإذا كانت الشمس كذلك - ولله المثل الأعلى - فهو أولى أن لا يتحد بغيره ولا يحل فيه ولا يقوم به .

[ ص: 374 ] وإن أريد شعاعها ، فشعاها ليس هو الشمس ، فلا ينفعهم التمثيل به ، فإنهم يقولون : إن الله نفسه اتحد بالمسيح ، والمسيح - عندهم - هو رب العالمين مع أنه إنسان تام ، فهو - عندهم - إله تام ، إنسان تام ، والطين ليس بشعاع تام ، ولا طين تام ، والشعاع نفسه لا يخالط شيئا ، ولكن يقوم به ، وقيام العرض بالمحل غير مخالطته له ، فإن المخالطة تكون باختلاط كل من الأمرين بالآخر ، كاختلاط الماء بالطين ونحو ذلك .

وأما ما يقوم بالسطح الظاهر فيقال : إنه مخالط بجميع الأجزاء ، فلا يقال للشعاع الذي على الجبال والبحر : إنه مخالط لجميع الجبال والبحر ، ولا لشعاع النار : إنه مخالط للحيطان وداخل للأرض ، وقد تقدم أنهم قسموا هذا الباب ثلاثة أقسام :

أحدها : اختلاط أحد الشيئين بالآخر ، كالماء والخمر .

والثاني : اتصال من غير اختلاط ، كالماء والزيت ، والإناء الذي بعضه فضة وبعضه ذهب ، وقالوا : إن هذا لا ينبغي أن يسمى اختلاطا مع افتراق الطبيعتين والقوامين ، مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة ; لأن طبيعة الفخار ليس بينها وبين الماء خلطة .

وهذا الفرق موجود في الشعاع والطين ، بل بينهما من الفرق [ ص: 375 ] أشد مما بين الماء والقلة ، فإن الماء جرم قائم بنفسه ، وهذا عرض قائم بغيره ، والجسم بالجسم أشبه من الجسم بالعرض .

والإله عندهم مخالط لجميع ناسوت المسيح ، لم يخل جزء منه من اتحاد الإله به ، فأين هذا من هذا ؟

وإذا قيل : إن الشعاع لم يستحل عن نوره ونقائه وضوئه مع مخالطته كل سواد ووسخ ونتن ونجس ، لم يكن مثلا يطابقه مع أنه لم يخالط الشعاع غيره .

ثم يقال : إن أراد بما لم يتغير نفس الشعاع القائم بالمحل ، فهذا ممنوع ، فإن الشعاع يتغير بتغير محله ، فيرى في الأحمر أحمر ، وفي الأسود أسود ، وفي الأزرق أزرق ، حتى إن الزجاج المختلف الألوان إذا صار مطرحا للشعاع ، ظهر الشعاع متلونا بتلون الزجاج ، فيرى أحمر وأزرق وأصفر .

وقد ضرب أهل الإلحاد القائلون بوحدة الوجود ، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق - لله أمثالا باطلة شرا من أمثال النصارى ، ولهم مثل السوء ، ولله المثل الأعلى ، وكان مما ضربوه لله من الأمثال أن شبهوه بالشعاع في الزجاج .

فالأعيان الثابتة في العدم - عندهم - هي الممكنات ، ووجود الحق قاض عليها ، فشبهوا وجوده بالشعاع ، وأعيانهم بالزجاج ، وهذا باطل من وجوه :

منها : أن القول بأن أعيان الممكنات ثابتة في العدم - قول باطل .

[ ص: 376 ] ومنها : أن قولهم : إن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق ، هو أيضا باطل .

ومنها : أن حلول الشعاع بالزجاج يقتضي حلول أحدهما بالآخر ، وهم ينكرون الحلول ، ويقولون : الوجود واحد .

ومنها : أن الشعاع الذي على نفس الزجاج ، ليس وجوده وجود الزجاج ، وعندهم وجود الرب وجود الممكنات .

ومنها : أن الشعاع الحال بهذا الزجاج ، ليس هو بعينه ذلك الشعاع الحال بالزجاج الآخر ، وإن كان نظيره ، وهؤلاء عندهم أن الوجود واحد بالعين لا يتعدد .

ومنها : أن الشعاع عرض مفتقر إلى الزجاج ، فهو مفتقر إليه افتقار العرض إلى محله ، فيلزم إذا مثلوا به الرب أن يكون الرب مفتقرا إلى كل ما سواه مع غنى كل ما سواه عنه ، وهذا قلب كل حقيقة ، وأعظم كفر بالخالق - تعالى - فإنه - سبحانه - الغني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه مفتقر إليه .

وكل من قال بحلول الله في شيء من المخلوقات من النصارى وغيرهم ، يلزمهم أن يكون مفتقرا إلى ما حل فيه ، فإنه لا حقيقة للحلول إلا هذا .

ولهذا كان ما حل بقلوب المؤمنين من الإيمان والهدى والنور والمعرفة مفتقرا إلى قلوب المؤمنين ، ولا يقوم إلا بها .

[ ص: 377 ] وجميع الصور الذهنية القائمة بالأذهان مفتقرة إلى الأذهان ، لا تقوم إلا بها ، والشعاع مفتقر إلى محله ، لا يقوم إلا به ، وهكذا سائر النظائر .

وهؤلاء الذين شابهوا النصارى وزادوا عليهم من الكفر بقولهم : إن وجود الخالق وجود كل مخلوق ، وإنه قائم بأعيان الممكنات يقولون : إنه مفتقر إلى الأعيان في وجوده ، وهي مفتقرة إليه في ثباتها ، فيجعلون الخالق محتاجا إلى كل مخلوق ، والمخلوق محتاجا إلى الخالق ، ويصرحون بذلك ، كما يصرح بعض النصارى ، بأن اللاهوت محتاج إلى الناسوت ، والناسوت محتاج إلى اللاهوت .

ومعلوم أن الله غني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه ، فهو الصمد المستغني عن كل شيء ، وكل شيء مفتقر إليه .

فمن قال : إنه مفتقر إلى مخلوق بوجه ما ، فهو كاذب مفتر كافر ، فكيف بمن قال : إنه مفتقر إلى كل شيء ؟

والمثل الذي ضربوه له ، يقتضي أن يكون مفتقرا إلى غيره ، وغيره مستغن عنه ، كالمثل الذي ضربه النصارى له ، لما مثلوه بشعاع الشمس مع محله ، فإن محل الشعاع مستغن عن الشعاع ، والشعاع مفتقر إلى محله .

فمقتضى هذا التمثيل ، أن الإله محتاج إلى الإنسان ، والإنسان [ ص: 378 ] مستغن عن الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا

التالي السابق


الخدمات العلمية