الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 325 ] قال سعيد بن البطريق : ومثلما أن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في قرطاس ، فهي في القرطاس كلها حقا من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت ، ولا يفارقها العقل الذي ولدها ; لأن العقل بالكلمة يعرف ; لأنها فيه ، والكلمة كلها في العقل الذي ولدها ، وكلها في نفسها ، وكلها في القرطاس الذي التحمت به فكذلك كلمة الله كلها في الأب الذي ولدت منه ، وكلها في نفسها وفي الروح ، وكلها في الناسوت التي حلت فيها والتحمت به فيقال : هذا التمثيل حجة عليكم وعلى فساد قولكم ، لا حجة لكم ، وذلك يظهر بوجوه .

أحدها : أن يقال : إن كان حلول كلمة الله التي هي المسيح في الناسوت ، مثل كتابة الكلام في القرطاس ، فحينئذ يكون المسيح من جنس سائر كلام الله ، كالتوراة وزبور داود والإنجيل والقرآن ، وغير ذلك ، فإن هذا كله كلام الله ، وهو مكتوب في القراطيس باتفاق أهل [ ص: 326 ] الملل ، بل الخلق كلهم متفقون على أن كلام كل متكلم يكتب في القراطيس ، وقد قال تعالى في القرآن : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ .

وقال تعالى : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون . وقال : يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وقال : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة وقال تعالى : والطور وكتاب مسطور في رق منشور

وإذا كانت الكلمة التي هي المسيح عندكم هكذا ، فمعلوم أن كلام الله المكتوب في القراطيس ليس هو إلها خالقا ، وهو كلام كثير لا ينحصر في كلمة ولا كلمتين .

ولو قال قائل : يا كلام الله اغفر لي وارحمني ، أو يا توراة ، [ ص: 327 ] أو يا إنجيل ، أو يا قرآن اغفر لي وارحمني ، كان قد تكلم بباطل عند جميع أهل الملل والعقلاء .

وأنتم تقولون : المسيح إله خالق ، وهو يدعى ويعبد ، فكيف تشبهونه بكلام الله المكتوب في القراطيس ؟

الثاني : أن الكلام المكتوب صفة للمتكلم ، يقوم به ويكتب في القراطيس عند سلف أهل الملل وجماهيرهم .

وعند بعضهم ، هو عرض مخلوق ، يخلقه في غيره .

فالجميع متفقون على أن الكلام صفة تقوم بغيرها ، ليس جوهرا قائما بنفسه .

والمسيح - عندكم - لاهوته جوهر قائم بنفسه ، وهو إله حق من إله حق وهو - عندكم - إله تام وإنسان تام .

فكيف تجعلون الإله الذي هو عين قائمة بنفسها كالصفة التي لا تقوم إلا بغيرها ؟

الثالث : قولكم : ( إن كلمة الإنسان مولودة من عقله ) ، لو كان صحيحا فالتولد لا يكون إلا حادثا .

وأنتم تقولون : إن كلمة الله القديمة الأزلية متولدة منه قبل [ ص: 328 ] الدهور وتقولون - مع هذا - : هي إله .

وهذا كما أن بطلانه معلوم بصريح العقل ، فهي بدعة وضلالة في الشرع ، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ابنا له ، ولا قال : إن صفته متولدة منه . ولفظ الابن لا يوجد عندكم عن الأنبياء إلا اسما لناسوت مخلوق ، لا لصفة الله القديمة ، فقد بدلتم كلام الأنبياء بهذا الافتراء .

الرابع : قولكم : ( مولودة من عقله ) ، إن أردتم ( بعقله ) العين القائمة بنفسها التي يسميها قلبا وروحا ونفسا ، أو نفسا ناطقة ، فتلك إنما تقوم بها المعاني ، وأما الألفاظ فإنما تقوم بفمه ولسانه .

وإن أردتم ( بعقله ) مصدر عقل يعقل عقلا ، فالمصدر عرض قائم بالعقل ، وهو عرض من جنس العلم والكلمة والعمل الصالح .

وإن أردتم بالعقل الغريزة التي في الإنسان ، فهو أيضا عرض .

الخامس : أن تسميتكم تكلم الإنسان بالمعنى أو اللفظ تولدا ، أمر اخترعتموه لا يعرف عن نبي من الأنبياء ، ولا أمة من الأمم ، ولا في لغة من اللغات .

وإنما ابتدعتم هذا لتقولوا : إذا كان كلام الإنسان متولدا منه ، فكلام الله متولد منه .

ولم ينطق أحد من الأنبياء بأن كلام الله تولد منه ، ولا أنه ابنه ، ولا أن علمه تولد منه ، ولا أنه ابنه .

[ ص: 329 ] السادس : قولكم : ( إن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في القرطاس ، فهي في القرطاس كلها حقا ، من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت ) ، إلى قولكم : ( الكلمة كلها في العقل الذي ولدها ، وكلها في القرطاس الذي التحمت به ) - مكابرة ظاهرة ، معلومة الفساد بصريح العقل ، فإن وجود الكلام في القلب واللسان ، ليس هو عين وجوده مكتوبا في القرطاس ، بل القائم بقلب المتكلم معان : طلب وخبر وعلم وإرادة ، والقائم بنفسه حروف مؤلفة هي أصوات مقطعة ، أو هي حدود أصوات مقطعة ، وليس في قلب الإنسان ولا فمه مداد كالمداد الذي في القرطاس .

والكلام مكتوب في القرطاس باتفاق العقلاء ، مع علمهم بأنه ليس في القرطاس علم وطلب وخبر قائم به ، كما تقوم بقلوب المتكلم ، ولا قام به أصوات مقطعة مؤلفة ، ولا حروف كالأصوات القائمة بفم المتكلم ، بل لفظ الحرف يقال على الحرف المكتوب : إما المداد المصور ، وإما صورة المداد وشكله . ويقال على الحرف المنطوق : إما الصوت المقطع ، وإما حد الصوت ومقطعه وصورته .

وكل عاقل يميز بحسه وعقله بين الصوت المسموع من المتكلم ، وبين المداد المرئي بالبصر ، ولا يقول عاقل : إن هذا هو هذا ، ولا يقال : إن هذا وهذا هو نفس المعنى القائم بقلب المتكلم ، فكيف تقولون : إن الكلمة في القرطاس كلها ، وكلها في العقل الذي ولدها ، وكلها في نفسها ؟

[ ص: 330 ] السابع : أن حرف ( في ) التي يسميها النحاة ظرفا ، يستعمل في كل موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع .

فإذا قيل : إن الطعم واللون والريح حال في الفاكهة ، أو العلم والقدرة والكلام حال في المتكلم ، فهذا معنى معقول .

وإذا قيل : إن هذا حال في داره ، أو إن الماء حال في الظرف ، فهذا معنى آخر .

فإن ذاك حلول صفة في موصوفها ، وهذا حلول عين قائمة تسمى جسما وجوهرا في محلها . ومنه يقال لمكان القوم : المحلة ، ويقال : فلان حل بالمكان الفلاني .

وإذا قيل : الشمس والقمر في الماء ، أو في المرآة ، أو وجه فلان في المرآة ، أو كلام فلان في هذا القرطاس ، فهذا له معنى يفهمه الناس ، يعلمون أنه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة ورؤيت فيها ، وأنه لم يحل بها ذات ذلك ، وإنما حل فيها مثال شعاعي عند من يقول ذلك .

وكذلك الكلام إذا كتب في القرطاس ، فالناس يعلمون أنه مكتوب فيه ومقروء فيه ومنظور فيه ، ويقولون : نظرت في كلام فلان وقرأته ، وتدبرته وفهمته ورأيته ، ونحو ذلك ، كما يقولون : رأيت وجهه في المرآة وتأملته ونحو ذلك .

وهم في ذلك كله صادقون يعلمون ما يقولون ، ويعلمون أن نفس جرم الشمس والقمر والوجه لم يحل في المرآة ، وأن نفس ما قام به من المعاني والأصوات لم تقم بالقرطاس ، بل كانت المرآة واسطة [ ص: 331 ] في رؤية الوجه فهو المقصود بالرؤية ، وكان القرطاس واسطة في معرفة الكلام ، فهو المقصود بالرؤية ، ويعلمون أن حاسة البصر باشرت ما في المرآة من الشعاع المنعكس ، ولكن المقصود بالرؤية هو الشمس ، وحاسة البصر باشرت ما في القرطاس من المداد المكتوب ، ولكن المقصود بالرؤية هو الكلام المكتوب .

ويعلمون أن نفس المثال الذي في المرآة ليس هو الوجه ، وأن نفس المداد المكتوب به ليس هو الكلام المكتوب ، بل يفرقون بينهما ، كما قال تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا

ففرق سبحانه بين الكلمات وبين المداد الذي يكتب به الكلمات .

فكيف يقال : إن هذا هو هذا ، وإن الكلمة في القرطاس كلها ، وهي في المتكلم كلها ؟

الثامن : أن الكلام له معنى في المتكلم يعبر عنه بلفظه ، واللفظ يكتب في القرطاس ، فالمكتوب في القرطاس هو اللفظ المطابق للمعنى ، لا يكتب المعنى بدون كتابة اللفظ الذي كتب بالخط ; ليعرف ما كتب .

فدعوى هؤلاء أن نفس المعنى الذي في القلب كله ، هو في القرطاس كله - جعل لنفس المعنى هو الخط ، وهذا باطل .

[ ص: 332 ] التاسع : أنه لا ريب أن كلام المتكلم يقال : إنه قائم به .

ويقال - مع ذلك - : إنه مكتوب في القرطاس ، ويقال : هذا هو كلام فلان بعينه ، وهذا هو ذاك ، ونحو ذلك من العبارات التي تبين أن هذا المكتوب في القرطاس هو هذا الكلام الذي تكلم به المتكلم بعينه ، لم يزد فيه ولم ينقص ، لم يكتب كلام غيره .

ولا يريدون بذلك أن نفس الخط نفس الصوت ، أو نفس المعنى ، فإن هذا لا يقوله عاقل .

فإن قيل : ففي المسلمين من يقول : إن كلام الله القديم الأزلي ، أو كلام الله الذي ليس بمخلوق ، هو حال في الصدور والمصاحف من غير مفارقة .

ومن هؤلاء من يقول : إنه يسمع من الإنسان الصوت القديم ، أو الصوت الذي ليس بمخلوق .

ومنهم من يقول : إن الحرف القديم أو الذي ليس بمخلوق ، هو في القرطاس ، وحكي عن بعضهم أنه يقول ذلك في المداد .

ومن هؤلاء من يقول : إن القديم حل في المصحف ونحو ذلك .

فتقول النصارى : نحن مثل هؤلاء .

قيل : الجواب من وجوه .

أحدها : أن المقصود بيان الحق الذي بعث الله به رسله ، وأنزل [ ص: 333 ] به كتبه ، والرد على من خالف ذلك من النصارى وغيرهم .

ونحن لا ننكر أن في المنتسبين إلى الإسلام طوائفا منهم منافقون ملحدون وزنادقة ، ومنهم جهال ومبتدعة ، ومنهم من يقول مثل قول النصارى ، ومنهم من يقول شرا منه ، فالرد على هؤلاء كلهم ، والعصمة ثابتة لكتاب الله وسنة رسوله .

وما اجتمع عليه عباده المؤمنون . فهذا لا يكون إلا حقا ، وما تنازع فيه المسلمون ، ففيه حق وباطل .

الوجه الثاني : أن يقال : هؤلاء الذين قالوا في القرآن ما قالوه ، ليس قولهم مثل قول النصارى .

فإن النصارى جعلوا لله ولدا قديما أزليا سموه كلمة ، وقالوا : إنه إله يخلق ويرزق ، وإنه اتحد بالمسيح ، فجعلوا المسيح - الذي هو الكلمة عندهم - إلها يخلق ويرزق .

وليس في طوائف المسلمين المعروفة من يقول : إن كلام الله إله يخلق ويرزق .

ولكن محمد وغيره من الرسل - عليهم السلام - بلغوا إلى الخلق كلام الله الذي تكلم به .

فكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان على أن القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلام الله ، هو كلام الله الذي تكلم به ، وأن الله أنزله وأرسل به ملائكته ، ليس هو مخلوقا بائنا عنه خلقه في غيره .

[ ص: 334 ] ويقولون : إن هذا القرآن هو كلام الله الذي بلغه رسوله ، والمسلمون يقرءونه ، ويسمع من القارئ كلام الله ، لكن يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم ، ويسمعونه من القارئ الذي يقرؤه بصوت نفسه ، فالكلام كلام البارئ ، والصوت صوت القارئ .

ويقولون : إن الله تكلم به وكلم به موسى ، وإن موسى سمع نداء الله بأذنه ، فكلمه الله بالصوت الذي سمعه موسى ، كما بين ذلك في كتب الله القرآن والإنجيل والتوراة وغير ذلك .

فحدث بعد الصحابة وأكابر التابعين طائفة معطلة يقولون : إن الله لم يكلم موسى تكليما ، ولم يتخذ إبراهيم خليلا ، فقتل المسلمون مقدمهم " الجعد " وصار لهم مقدم يقال له " الجهم " فنسبت إليهم الجهمية ، نفاة الأسماء والصفات .

تارة يقولون : إن الله لم يتكلم ولم يكلم موسى ، وإنما أطلق ذلك مجازا .

[ ص: 335 ] وتارة يقولون : تكلم ويتكلم حقيقة ، ولكن معنى ذلك أنه خلق كلاما في غيره ، سمعه موسى ، لا أنه نفسه قام به كلام ، وهذا قول من يقوله من المعتزلة ونحوهم .

وزين هذا القول بعض ذوي الإمارة ، فدعوا إليه مدة وأظهروه ، وعاقبوا من خالفهم ، ثم أطفئ ذلك ، وأظهر ما كان عليه سلف الأمة ، أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله ، تكلم هو به . منه بدا ، ليس ببائن منه ، وليس بمخلوق خلقه في غيره .

ولما أظهر الله هذا ، والناس يتلون قول الله تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله صار بعض أهل الأهواء يقول : إنما سمع صوت القارئ ، وصوته مخلوق ، وهو كلام الله ، فكلام الله مخلوق .

ولم يميز هذا بين أن يسمع الكلام من المتكلم به ، كما سمعه موسى من الله بلا واسطة ، وبين أن يسمع من المبلغ عنه .

ومعلوم أنه لو سمع كلام الأنبياء وغيرهم من المبلغين ، لم يكن صوت المبلغ هو صوت المبلغ عنه ، وإن كان الكلام كلام المبلغ عنه لا كلام المبلغ .

فكلام الله إذا سمع من المبلغين عنه ، أولى أن يكون هو كلام الله [ ص: 336 ] لا كلام المبلغين ، وإن بلغوه بأصواتهم .

فجاءت طائفة ثانية فقالوا : هذا المسموع ألفاظنا وأصواتنا ، وكلامنا ليس هو كلام الله ; لأن هذا مخلوق ، وكلام الله ليس بمخلوق .

وكان مقصود هؤلاء ، تحقيق أن كلام الله غير مخلوق ، فوقعوا في إنكار أن يكون هذا القرآن كلام الله ، ولم يهتدوا إلى أنه - وإن كان كلام الله ، فهو كلام الله مبلغا عنه - ليس هو كلامه مسموعا منه ، ولا يلزم - إذا كانت أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة ليست هي كلام الله - أن يكون الكلام الذي يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم كلامهم ، ويكون مخلوقا ليس هو كلام الله .

وهؤلاء الذين قالوا : ليس هذا كلام الله ، منهم من قال : هو حكاية لكلام الله ، وطردوا ذلك في كل من بلغ كلام غيره أن يكون ما بلغه حكاية لكلام المبلغ عنه لا كلامه .

وأهل الحكاية منهم من يقول : إن كلام الرب يتضمن حروفا مؤلفة ، إما قائما بذاته على قول بعضهم ، أو مخلوقة في غيره على قول بعضهم ، والقائم بذاته معنى واحد .

ومن هؤلاء من قال : الحكاية تماثل المحكي عنه ، فلا نقول : هو حكاية ، بل هو عبارة عنه ، والتقدير عندهم فأجره حتى يسمع كلام عبارته أو حكايته .

فجاءت طائفة ثالثة فقالت : بل قد ثبت أن هذا المسموع [ ص: 337 ] كلام الله ، وكلام الله ليس بمخلوق ، وهذا المسموع هو الصوت ، فالصوت غير مخلوق .

ثم من هؤلاء من قال : إنه قديم ، ومنهم من قال : ليس بقديم ، ومنهم من قال : يسمع صوت الرب والعبد ، ومنهم من قال : إنما يسمع صوت الرب .

ثم منهم من قال : إنه قديم ، ومنهم من قال : إنما يسمعه من العبد .

وهؤلاء منهم من قال : إن صوت الرب حل في العباد ، فضاهوا النصارى .

ومنهم من قال : بل نقول : ظهر فيه من غير حلول . ومنهم من يقول : لا يطلق لا هذا ولا هذا .

وكل هذه الأقوال محدثة مبتدعة ، لم يقل شيئا منها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا إمام من أئمة المسلمين ، كمالك والثوري ، [ ص: 338 ] والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، [ ص: 339 ] والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وابن عيينة وغيرهم .

بل هؤلاء كلهم متفقون على أن القرآن منزل غير مخلوق ، وأن الله أرسل به جبريل ، فنزل به جبريل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فبلغه محمد إلى الناس فقرأه الناس بحركاتهم وأصواتهم ، وليس شيء من أفعال العباد وأصواتهم قديما ولا غير مخلوق ، ولكن كلام الله غير مخلوق ، ولم يكن السلف يقولون : القرآن قديم .

ولما أحدث الجهمية وموافقوهم من المعتزلة وغيرهم أنه مخلوق بائن من الله ، قال السلف والأئمة : إنه كلام الله غير مخلوق .

[ ص: 340 ] ولم يقل أحد من السلف : إن الله تكلم بغير قدرته ومشيئته ، ولا أنه معنى واحد قائم بالذات ، ولا أنه تكلم بالقرآن أو التوراة أو الإنجيل في الأزل بحرف وصوت قديم ، فحدث بعد ذلك طائفة فقالوا : إنه قديم .

ثم منهم من قال : القديم هو معنى واحد قائم بالذات ، هو معنى جميع كلام الله .

وذلك المعنى إن عبر عنه بالعبرية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا ، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، والأمر والنهي والخبر صفات له لا أنواع له .

ومن هؤلاء من قال : بل هو قديم ، وهو حروف ، أو حروف وأصوات أزلية قديمة ، وأنها هي التوراة والإنجيل والقرآن .

فقال الناس لهؤلاء : خالفتم الشرع والعقل في قولكم : إنه قديم ، وابتدعتم بدعة لم يسبقكم إليها أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، وفررتم من محذور إلى محذور ، كالمستجير من الرمضاء بالنار .

ثم قولكم : إنه معنى واحد - وهو مدلول جميع العبارات - مكابرة للعقل والشرع ؛ فإنا نعلم - بالاضطرار - أنه ليس معنى آية [ ص: 341 ] الكرسي ، هو معنى آية الدين ، ولا معنى تبت يدا أبي لهب هو معنى سورة الإخلاص .

والتوراة إذا عربناها لم تصر هي القرآن العربي الذي جاء به محمد ، وكذلك إذا ترجمنا القرآن بالعبرية ، لم يكن هو توراة موسى .

وقول من قال منكم : إنه حروف ، أو حروف وأصوات أزلية ، ظاهر الفساد ، فإن الحروف متعاقبة ، فيسبق بعضها بعضا ، والمسبوق بغيره لا يكون قديما لم يزل ، والصوت المعين لا يبقى زمانين ، فكيف يكون قديما أزليا ؟

والسلف والأئمة لم يقل أحد منهم بقولكم ، لكن قالوا : إن الله تكلم بالقرآن وغيره من الكتب المنزلة ، وإن الله نادى موسى بصوت سمعه موسى بأذنه ، كما دلت على ذلك النصوص .

ولم يقل أحد منهم : إن ذلك النداء الذي سمعه موسى قديم أزلي ، ولكن قالوا : إن الله لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء ; لأن الكلام صفة كمال ، لا صفة نقص ، وإنما تكون صفة كمال إذا قام به ، لا إذا كان مخلوقا بائنا عنه ، فإن الموصوف - إلا بما قام به - لا يتصف بما هو بائن عنه ، فلا يكون الموصوف حيا عالما قادرا متكلما رحيما مريدا بحياة قامت بغيره ، ولا بعلم وقدرة قامت بغيره ، ولا بكلام ورحمة وإرادة قامت بغيره .

والكلام بمشيئة المتكلم وقدرته أكمل ممن لا يكون بمشيئته وقدرته .

وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا مشيئته وقدرته ، فإما أنه ممتنع [ ص: 342 ] أو هو صفة نقص ، كما يدعى مثل ذلك في المصروع .

وإذا كان كمالا ، فدوام الكمال له ، وأنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال أكمل من كونه صار متكلما بعد أن لم يكن ، لو قدر أن هذا ممكن ، فكيف إذا كان ممتنعا ؟

وكان أئمة السنة والجماعة كلما ابتدع في الدين بدعة ، أنكروها ولم يقروها ، ولهذا حفظ الله دين الإسلام ، فلا يزال في أمة محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة .

بخلاف أهل الكتاب ، فإن النصارى ابتدعوا بدعا خالفوا بها المسيح ، وقهروا من خالفهم ممن كان متمسكا بشرع المسيح حتى لم يبق حين بعث الله محمدا من هو متمسك بدين المسيح ، إلا بقايا من أهل الكتاب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ) .

فلما أظهر قوم من الولاة أن القرآن مخلوق ، ودعوا الناس إلى ذلك ، ثبت الله أئمة السنة وجمهور الأمة ، فلم يوافقوهم ، وكان المشار إليه من الأئمة إذ ذاك أحمد بن حنبل .

ثم بقي ذلك القول المحدث ظاهرا نحو أربع عشرة سنة ، وأئمة الأمة وجمهورها ينكرونه ، حتى جاء من الولاة من منع من إظهاره [ ص: 343 ] والقول به ، فصار مخفيا كغيره من البدع ، وشاع عند العامة والخاصة أن القرآن كلام الله غير مخلوق .

فأراد بعض الناس أن يجيب عن شبهة من قال : إن هذا الذي يقوم بنا مخلوق . فقال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، ولكن ألفاظنا به مخلوقة ، وتلاوتنا له مخلوقة .

وربما قالوا : هذا الذي نقرؤه مخلوق ، أو هذا ليس هو كلام الله فقصدوا معنى صحيحا ، وهو كون صفات العباد وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة .

لكن غلطوا حيث أطلقوا القول ، أو أفهموا الناس بأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون مخلوق ، ولم يهتدوا إلى أنا إذا أشرنا إلى كلام متكلم قد بلغ عنه ، فقلنا مثلا لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ) : هذا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو لقول الشاعر : [ ص: 344 ]

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

- : هذا كلام لبيد بن ربيعة ، ونحو ذلك .

فإنا نشير إلى نفس الكلام معانيه ونظمه وحروفه ، لا إلى ما يختص بالمبلغ من حركته وصوته ، بل ولا صوت المبلغ عنه وفعله .

فإن كون الحي متحركا أو مصوتا قدر مشترك بين الناطق والأعجم ، وليس هذا صفة له .

والكلام الذي يتميز به الناطق عن الأعجم ، إنما يتميز بالمعاني القائمة به ، وباللفظ المطابق لها من الحروف المنظومة بالأصوات المقطعة .

وهذا أمر يختص به المتكلم بالكلام ، لا المبلغ عنه ، فليس للمبلغ إلا تأدية ذلك .

ولهذا لو قال قائل لشعر لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

فقال : هذا شعري أو كلامي لكونه أنشده بصوته ، لكذبه الناس .

ولو قال : هذا الذي أقوله مثل شعر لبيد ، لكذبه الناس وقالوا : بل هو شعره نفسه ، ولكن أديته بصوتك .

[ ص: 345 ] بخلاف ما إذا قال قائل قولا نظما أو نثرا ، وقال آخر مثله ، فإن الناس يقولون : هذا مثل قول فلان ، كما قال تعالى : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم وقال عن القرآن : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولهذا لو قال قارئ : أنا آتي بقرآن مثل قرآن محمد ، وتلاه نفسه وقال : هذا مثله ، لأنكر الناس ذلك وضحكوا منه وقالوا : هذا القرآن الذي جاء به هو ، ليس هو كلام آخر مماثل له .

فإذا كان القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي بلغه الرسول ، لم يجز أن يقال : ليس هو بكلام الله ، بل هو مثل له ، أو حكاية عنه ، أو عبارة .

وإذا كان معلوما إنما هو كلام الله ، فقد تكلم الله به - سبحانه - لم يخلقه بائنا عنه ، ولم يجز أن يقال لما هو كلامه : إنه مخلوق .

فإذا قيل عما يقرؤه المسلمون : إنه مخلوق ، والمخلوق بائن [ ص: 346 ] عن الله ، ليس هو كلامه ، فقد جعل مخلوقا ، ليس هو بكلام الله ، فصار الأئمة يقولون : هذا كلام الله وهذا غير مخلوق ، لا يشيرون بذلك إلى شيء من صفات المخلوق ، بل إلى كلام الله الذي تكلم به وبلغه عنه رسوله .

والمبلغ إنما بلغه بصفات نفسه ، والإشارة في مثل هذا يراد بها الكلام المبلغ ، لا يراد بها ما به وقع التبليغ .

وقد يراد بهذا ، الثاني ، مع التقييد كما في مثل الاسم إذا قيل : عبدت الله ودعوت الله ، فليس المراد أن المعبود المدعو ، هو الاسم الذي هو اللفظ ، بل المعبود المدعو هو المسمى باللفظ ، فصار بعضهم يقول : الاسم هو غير المسمى ، حتى قيل لبعضهم : أقول : دعوت الله ، فقال : لا تقل هكذا ، ولكن قل : دعوت المسمى بالله ، وظن هذا الغالط أنك إذا قلت ذلك ، فالمراد دعوت هذا اللفظ ، ومثل هذا يرد عليه في اللفظ الثاني .

فما من شيء عبر عنه باسم ، إلا والمراد بالاسم هو المسمى ، فإن الأسماء لم تذكر إلا لبيان المسميات ، لا أن الاسم نفسه هو ذات المسمى .

فمن قال : إن اللفظ والمعنى القائم بالقلب هو عين المسمى ، فغلطه واضح .

ومن قال : إن المراد بالاسم في مثل قولك : دعوت الله ، وعبدته ، [ ص: 347 ] هو نفس اللفظ ، فغلطه واضح ، ولكن اشتبه على الطائفتين ما يراد بالاسم ونفس اللفظ .

كذلك أولئك اشتبه عليهم نفس كلام المتكلم المبلغ عنه الذي هو المقصود بلفظ المبلغ وكتابته بنفس صوت المبلغ ومداده .

والفرق بين هذا وهذا واضح عند عامة العقلاء .

وإذا كتب كاتب اسم الله في ورقة ، ونطق باسم الله في خطابه ، وقال قائل : أنا كافر بهذا ومؤمن بهذا ، كان مفهوم كلامه أنه مؤمن أو كافر بالمسمى المراد باللفظ والخط ، لا أنه يؤمن ويكفر بصوت أو مداد .

فكذلك من قال لما يسمعه من القراء ولما يكتب في المصاحف : إن هذا كلام الله .

أو قال لما يسمع من جميع المبلغين لكلام غيرهم ، ولما يوجد في الكتب : هذا كلام زيد ، فليس مرادهم ذلك الصوت والمداد ، إنما هو المعنى واللفظ الذي بلغه زيد بصوته وكتب في القرطاس بالمداد .

فإذا قيل عن ذلك : إنه مخلوق ، فقد قيل : إنه ليس كلام الله ، ولم يتكلم به .

ومن قصد نفس الصوت أو المداد وقال : إنه مخلوق ، فقد أصاب ، كما أن من قصد نفس الصوت أو الخط وقال : ليس هذا هو كلام الله ، بل هو مخلوق ، فقد أصاب ، لكن ينبغي أن يبين مراده بلفظ لا لبس فيه .

[ ص: 348 ] فلهذا كان الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره ، ينكرون على من أطلق القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق ، أو غير مخلوق ويقولون : من قال : إنه مخلوق فهو جهمي ، ومن قال : إنه غير مخلوق ، فهو مبتدع ، ومن قال : إنه مخلوق هنا ، فقد يقولون : ليس هو كلام الله ، وهذا خلاف المتواتر عن الرسول ، وخلاف ما يعلم بمثل ذلك بصريح المعقول .

فإن الناس يعلمون - بعقولهم - أن من بلغ كلام غيره فالكلام كلام المبلغ عنه الذي قاله مبتديا آمرا بأمره مخبرا بخبره ، لا كلام من قاله مبلغا عنه مؤديا .

ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في المواسم : ( ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي ؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ) رواه أبو داود وغيره ، عن جابر .

ولما أنزل الله تعالى : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون

[ ص: 349 ] قال بعض الكفار لأبي بكر الصديق : هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ قال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ، ولكنه كلام الله .

فلهذا اشتد به إنكار أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الإسلام ، وبالغ قوم في الإنكار عليهم وقالوا : لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، وأطلقوا عبارات تتضمن وتشعر أن يكون شيء من صفات العباد غير مخلوقة ، فأنكر ذلك أحمد وغيره ، كما أنكر ذلك ابن المبارك ، وإسحاق بن راهويه ، والبخاري ، وغير هؤلاء من أئمة السنة ، وبينوا أن الورق والمداد وأصوات العباد وأفعالهم مخلوقة ، وأن كلام الله الذي يحفظه العباد ويقرءونه ويكتبونه غير مخلوق .

فكلام أئمة السنة والجماعة كثير في هذا الباب ، متفق غير مختلف ، وكله صواب .

[ ص: 350 ] ولكن قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك .

فمن ابتلي بمن يقول : ليس هذا كلام الله كالإمام أحمد ، كان كلامه في ذم من يقول : هذا مخلوق ، أكثر من ذمه لمن يقول : لفظي مخلوق .

ومن ابتلي بمن يجعل بعض صفات العباد غير مخلوق ، كالبخاري صاحب الصحيح ، كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غير مخلوق ، أكثر ، مع نص أحمد والبخاري وغيرهما ، على خطأ الطائفتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية