الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 379 ] وهذا الذي قد ذكره هذا البترك " سعيد بن البطريق " المعظم عند النصارى ، المحب لهم ، المتعصب لهم في أخبارهم التي بين بها أحوالهم في دينهم ، معظما لدينهم ، مع ما في بعض الأخبار من زيادة فيها تحسين لما فعلوه ، وكثير من الناس ينكر ذلك ويكذبه ، مثل ما ذكره من ظهور الصليب ، ومن مناظرة " أريوس " وغير ذلك ، فإن كثيرا من الناس يخالفه فيما ذكر . ويذكر أن أمر ظهور الصليب كان بتدليس وتلبيس وحيلة ومكر . ويذكر أن " أريوس " لم يقل قط : إن المسيح خالق .

ولكن المقصود أنه إذا صدق هذا فيما ذكره ، فإنه بين أن عامة الدين الذي عليه النصارى ، ليس مأخوذا عن المسيح ، بل هو مما ابتدعه طائفة منهم ، وخالفهم في ذلك آخرون ، وأنه كان بينهم من العداوة والاختلاف في إيمانهم وشرائعهم ما يصدق قوله تعالى : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون

[ ص: 380 ] والنصارى يقرون بما ذكره هذا البترك ، أن أول ملك أظهر دين النصارى هو " قسطنطين " ، وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة ، وهو نصف الفترة التي بين المسيح ومحمد - صلى الله عليهما وسلم - ، فإنها كانت ستمائة سنة أو ستمائة وعشرين .

وإذا كان النصارى مقرين بأن ما هم عليه من الإيمان صنعه طائفة منهم مع مخالفة آخرين لهم فيه ليس منقولا عن المسيح ، وكذلك ما هم عليه من تحليل ما حرمه الله ورسوله ، وكذلك قتال من خالف دينه وقتل من حرم الخنزير ، مع أن شريعة الإنجيل تخالف هذا ، وكذلك الختان ، وكذلك تعظيم الصليب .

وقد ذكروا مستندهم في ذلك أن " قسطنطين " رأى صورة صليب كواكب .

ومعلوم أن هذا لا يصلح أن ينبني عليه شريعة ، فإن مثل هذا يحصل للمشركين عباد الأصنام والكواكب ما هو أعظم منه ، وبمثل هذا بدل دين الرسل وأشرك الناس بربهم ، وعبدوا الأوثان ، فإن الشيطان يخيل هذا وأعظم منه .

وكذلك الإزار الذي رآه من رآه ، والصوت الذي سمعه ، هل يجوز لعاقل أن يغير شرع الله الذي بعثت به رسله ، بمثل هذا الصوت والخيال الذي يحصل للمشركين عباد الكواكب والأصنام ما هو أعظم منه ؟ مع أن هذا الذي ذكروه عن " بطرس " رئيس الحواريين ، ليس فيه [ ص: 381 ] تحليل كل ما حرم ، بل قال : ( ما طهره الله فلا تنجسه ) وما نجسه الله في التوراة ، فقد نجسه ولم يطهره ، إلا أن ينسخه المسيح . والحواري لم يبح لهم الخنزير وسائر المحرمات إن كان قوله معصوما ، كما يظنون .

والمسيح لم يحل كل ما حرمه الله في التوراة ، وإنما أحل بعض ما حرم عليهم ، ولهذا كان هذا من الأوصاف المؤثرة في قتال النصارى ، كما قال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

وقد ذكر من لعن بعض طوائف النصارى لبعض في مجامعهم السبعة وغير مجامعهم ما يطول وصفه ، ويصدق قوله تعالى : فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة

وحينئذ فقول هؤلاء : ( من خالفنا لعناه ) كلام لا فائدة فيه ، فإن كل طائفة منهم لاعنة ملعونة .

فليس في لعنتهم لمن خالفهم إحقاق حق ولا إبطال باطل ، وإنما يحق الحق بالبراهين والآيات التي جاءت بها الرسل ، كما قال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم [ ص: 382 ] الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

وقد تقدم ما ذكره " سعيد بن البطريق " من أخبارهم ، أنه كان يأتي البترك العظيم منهم إلى كنيسة مبنية لصنم من الأصنام يعبده المشركون ، فيحتال حتى يجعلهم يعبدون مكان الصنم مخلوقا أعظم منه ، كملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء ، كما كان بالإسكندرية للمشركين كنيسة فيها صنم اسمه " ميكائيل " فجعلها النصارى كنيسة باسم " ميكائيل الملك " وصاروا يعبدون الملك بعد أن كانوا يعبدون الصنم ويذبحون له .

وهذا نقل لهم من الشرك بمخلوق إلى الشرك بمخلوق أعلى منه ، أولئك كانوا يبنون الهياكل ويجعلون فيها الأصنام بأسماء الكواكب ، كالشمس والزهرة وغير ذلك .

فنقلهم المبتدعون من النصارى إلى عبادة بعض الملائكة ، أو بعض الأنبياء ولهذا قال تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .

[ ص: 383 ] وقال تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية