الوجه الحادي عشر : أن غلاة المجسمة الذين يكفرهم المسلمون أحسن حالا منكم شرعا وعقلا ، وهم أقل مخالفة للشرع والعقل منكم .
فإذا كان هؤلاء خيرا منكم ، فكيف تشبهون أنفسكم بمن هو خير من هؤلاء من أهل السنة من المسلمين الذين لا يقولون لا بتمثيل ولا بتعطيل .
وبيان ذلك أن التوراة والإنجيل وسائر كتب الله ، وغير ذلك مما هو مأثور عن الأنبياء فيه نصوص كثيرة صريحة ظاهرة واضحة في وحدانية الله ، وأنه لا إله غيره ، وهو مسمى فيها بالأسماء الحسنى ، موصوف بالصفات العلى ، وأن كل ما سواه مخلوق له ، ليس فيه [ ص: 452 ] تثليث ولا اتحاد الخالق بشيء من المخلوقات ، لا المسيح ولا غيره .
وفيها ألفاظ قليلة مشكلة متشابهة ، وهي - مع ذلك - لا تدل على ما ذكرتموه من التثليث والاتحاد ، لا نصا ولا ظاهرا ، ولكن بعضها يحتمل بعض ما قلتم ، وليس فيها شيء يحتمل جميع ما قلتم ، فضلا عن أن يكون ظاهرا فيه أو نصا ، بل بعضها يحتمل بعض قولكم .
فأخذتم ذلك المحتمل وضممتم إليه من الكفر الصريح والتناقض القبيح ما صيرتموه أمانة لكم ; ( أي عقيدة إيمان لكم ) .
ولو كانت كلها تحتمل جميع ما قلتم ، لم يجز العدول عن النص والظاهر إلى المحتمل ، ولو كان بعضها ظاهرا فيما قلتم ، لم يجز العدول عن النصوص الصريحة إلى الظاهر المحتمل .
ولو قدر أن فيها نصوصا صريحة قد عارضتها نصوص أخرى صريحة ، لكان الواجب أن ينظروا بنور الله الذي أيد به عباده المؤمنين ، فيتبعون أحسن ما أنزل الله ، وهو المعنى الذي يوافق صريح المعقول وسائر كتب الله ، وذلك النص الآخر إن فهموا تفسيره ، وإلا فوضوا معناه إلى الله - تعالى - إن كان ثابتا عن الأنبياء .
وهؤلاء عدلوا عما يعلم بصريح المعقول ، وعما يعلم بنصوص [ ص: 453 ] الأنبياء الكثيرة ، إلى ما يحتمله بعض الألفاظ لموافقته لهواهم ، فلم يتبعوا : إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
وأما كفار المجسمة ، فهؤلاء أعذر وأقل كفرا من النصارى ، فإن هؤلاء يقولون كما يقوله معهم النفاة : إن ظواهر جميع الكتب هو التجسيم .
ففي التوراة والقرآن من الآيات التي ظاهرها التجسيم ما لا يحصى .
وليس فيها نص بما يقوله النفاة من أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه ، ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا هو فوق العرش ، ولا يشار إليه ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل منه شيء ، ولا يقرب منه شيء ، ولا يدنو من شيء ، ولا يدنو إليه شيء ، إلى نحو ذلك من النفي الذي يقوله نفاة الصفات .
فمعلوم أنه ليس في الكتب الإلهية لا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن ولا غير ذلك من النبوات - من هذا حرف واحد ، وكلها مملوءة مما يقول هؤلاء : إنه تجسيم .
فيقول هؤلاء : نحن اتبعنا نصوص الأنبياء ، ولم نعدل عنها إلى غيرها ، ولم نجد في نصوصهم نصا محكما صريحا بالنفي الذي يقوله نفاة الصفات .
[ ص: 454 ] ووجدنا نصوصهم كلها بالإثبات الذي يقولون : إنه تجسيم .
فكان على قولنا وقولهم نصوص الأنبياء ظاهرة في التجسيم ، وليس لهم نص يناقض ذلك ، فاتبعنا نصوصهم ، وكل من عارض إثبات الصفات ، لم يعارضها بنصوص صريحة عن الأنبياء ، لكن بحجج عقلية .
فيقول هؤلاء : إن النصارى خالفوا صريح المعقول ، وصريح كلام الأنبياء ، واتبعوا قليلا من متشابه كلامهم ، ونحن اتبعنا نصوص الأنبياء ، ولم نخالف شيئا من صريح نصوصهم ، ولكن مخالفنا يقول : إنا خالفنا العقل .
ونحن ننازعه في ذلك ، وندعي أن العقل معنا لا علينا ، وأن ما يدعيه من المعقولات التي تعارض كلام الأنبياء فهي باطلة .
أو يقولون : نحن والنصارى متفقون على أنا لا نعارض كلام الأنبياء بالشبه العقلية ، لكن نحن اتبعنا كلامهم المحكم الظاهر الكثير ، الذين لا مخالف له من كلامهم .
وهم خالفوا كلامهم الكثير المحكم ، واتبعوا قليلا من المتشابه .
ويقول الغلاة من هؤلاء الذين يكفرهم أئمة المسلمين وجمهورهم الذي يحكي عنهم : أن الله ينزل إلى الأرض عشية عرفة ، فيعانق المشاة ويصافح الركبان ، وأنه يتمشى في الأرض ، يكون موطئ أقدامه مروجا ، ونحو ذلك .
ليس هذا القول بأعجب من قول النصارى الذين يقولون : إنه هو المسيح ، وأن اللاهوت والناسوت اتحدا .
[ ص: 455 ] فنحن نقول أيضا : إنه حل في بعض الأجساد المخلوقة ، كما يقوله النصارى .
أو نقول : إنه تجسد كما تتجسد الملائكة والجن ، وهذا أقرب من قول النصارى : إنه اتحد بجسم المسيح .
فإنا قد عهدنا اللطائف من الملائكة تتصور في صورة بشرية ، ولم نعهد ملكا صار هو والبشر شيئا واحدا .
فإذا لم يجز أن يتحد الملك بالبشر ، فكيف يجوز أن يتحد رب الخلائق كلهم بالبشر ؟
قالوا : وقد يحل الجني في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه ، إلا أنهما جوهران ومشيئتان وطبيعتان ، ليس بينهما اتحاد ، لكنه دخل فيه وتكلم على لسانه .
والنصارى يقولون : إن رب العالمين اتحد بالبشر ، فمنهم من يقول : جوهر واحد ، ومنهم من يقول : شخص واحد وأقنوم واحد ، ومنهم من يقول : مشيئة واحدة ، فلابد لكل منهم من نوع اتحاد ، وهذا أبعد من حلول الجني في الإنسي ، فإذا كان ما يقولونه ممتنعا في الجن والملائكة ، فكيف برب العالمين ؟
[ ص: 456 ] ومن غلاة المجسمة اليهود ، من يحكىعنه أنه قال : ( إن الله بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة ، وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم ) ، وهذا كفر واضح صريح ، ولكن يقولون : قولنا خير من قول النصارى ، فإن النصارى يقولون : ( إنه أخذ وضرب بالسياط وبصق في وجهه ، ووضع الشوك على رأسه كالتاج ، وصلب بين لصين ، وفعل به من أقبح ما يفعل باللصوص قطاع الطرق .
وقد صرح كثير منهم بأن هذا فعل باللاهوت والناسوت جميعا .
وشريعة إيمانهم تدل على ذلك ، وهو لازم لمن أنكر ذلك منهم ، فإنه مع القول بالاتحاد الذي لا بد لطوائفهم الثلاثة منه ، يمتنع أن تحل هذه العقوبات في هذا دون ذاك ، فلا يمكن أن يحل في الناسوت دون اللاهوت ، فإن هذا إنما يتصور إذا كان اثنين ، ومن قال بالاتحاد ، امتنع عنده أن يكون هناك اثنان .
وفي الجملة ، فالنصارى المثلثة ، إما أن يصرحوا بالاتحاد من كل وجه كاليعقوبية ، وهؤلاء يصرحون بأن الآلآم حلت باللاهوت .
وإما أن يقولوا بالاتحاد من وجه كقول الملكية : إنهما شخص [ ص: 457 ] واحد ، وقول النسطورية : هما مشيئة واحدة .
وحينئذ فما قالوه من التعدد الذي يوجب المباينة ، وأنه لا يتصف أحدهما بما يتصف به الآخر ، ولا يحل به ما حل به ، فيكون متناقضا لهذا .
فأحسن أحوالهم أن يتناقضوا في الاتحاد ، كما تناقضوا في التثليث ، وهذا حقيقة قول خيار هؤلاء يتكلمون بالكفر وبما يناقضه ، وبالتوحيد وبما يناقضه .
ومعلوم أن ما يفعله بنفسه من ندم وبكاء وحزن ، هو دون ما يفعله أعداؤه به من ضرب وصفع وجعل الشوك على رأسه ، وصلبه بين لصين ، وأن استغاثته بمن يخلصه من ذلك أشد نقصا من ندمه وحزنه .
وإن قالوا : فعل هذا حتى يعلم عباده التشبه به - أمكن أولئك المجسمة الكفرة أن يقولوا : بكى وندم وعض يده ندما حتى جرى الدم ، حتى يعلم عباده التوبة من الذنوب .
ففي الجملة ، النصارى أقبح منه . ما قال قوم من أهل الملل قولا في الله ، إلا وقول
ولهذا ، كان - رضي الله عنه - يقول : لا ترحموهم ، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ، ولهذا يعظم الله فريتهم [ ص: 458 ] على الله في القرآن أشد من تعظيم افتراء غيرهم كقوله : معاذ بن جبل وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .
وفي الصحيحين ، عن رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أبي هريرة ) . يقول الله - عز وجل - كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، فأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ، وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته
ورواه عن البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ابن عباس ) . قال الله - عز وجل - : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي ، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله : لي ولد ، فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا
[ ص: 459 ] وفي الصحيحين عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبي موسى . ) ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله - عز وجل - إنه يشرك به ويجعل له ند وهو يعافيهم ويرزقهم ويدفع عنهم
الوجه الثاني عشر : أن كل من يعتقد في ما يعتقد ، يمكنه أن يقول كما يقوله التجسيم النصارى ، فإن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم ، قالوا : إنه إله تام وإنسان تام ، وليس فيه من الإلهية شيء ، فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه .
فلو قال القائل : إن موسى بن عمران كان هو الله ، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى ، فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر ، وقد سماه الله في التوراة إلها لهارون ولفرعون .
فإذا قيل فيه ما قالوه في المسيح : إنه أظهر المعجز بلاهوته ، وأظهر العبودية بناسوته ، لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول النصارى ، بل متى جوزوا اتحاد اللاهوت بالناسوت ، لم يمكنهم دفع ذلك عن أحد ممن يدعى فيه إلا بدليل خاص ، بل إذا قيل لهم حل في كثير من الأنبياء والقداديس ، لم يمكنهم نفي ذلك .
وإذا قالوا : لم يخبر بذلك أحد ، ولم يبشر به نبي ، أو هذا غير معلوم .
[ ص: 460 ] قيل لهم : غاية هذا كله ، أنكم لا تعلمون ذلك ، ولم يقم عندكم دليل عليه ، وعدم العلم ليس علما بالعدم ، فعدم علمكم وعدم علم غيركم بالشيء ، ليس علما بعدم ذلك الشيء .
وكذلك عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول عليه ، فإن كل ما خلقه الله دليل عليه ، ثم إذا عدم ذلك لم يلزم عدم الخالق ، فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدال عليه ، إلا أن يكون عدم الدليل مستلزما لعدمه ، كالأمور التي تتوفر الهمم على نقلها ، إذا لم ينقل علم انتفاؤها .
والمقصود أنكم - مع العدم - يمكنكم النفي العام عن غير المسيح لعدم الدليل الدال عليه ، فإنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في نفس الأمر ، لا سيما وهو كان متحدا بالمسيح عندهم أكثر من ثلاثين سنة ، ومع هذا فكان يخفي نفسه ولا يظهر إلا العبودية .
فإذا قيل لهم : هكذا كان متحدا بغيره من الأنبياء والصالحين ، ولكن أخفى نفسه لحكمة له في ذلك ، أو أظهر على نفسه بعض خواص عباده ، أو أظهر لطائفة لم ينقل إلينا خبرهم ونحو ذلك ، لم يمكن مع تصديق النصارى فيما يدعونه الجزم بكذب هؤلاء ، بل من جوز قول النصارى ، جوز أن يكون متحدا بغير ذلك من الأجسام ، فيجعل كثيرا من الأجسام المخلوقة هي رب العالمين ، إذ كانت ليس هو متحدا بها في نفس الأمر .
[ ص: 461 ] فإذا اعتقدوا الاتحاد فيها ، كما اعتقدته النصارى في المسيح ، لم يكن ثم إله في الحقيقة إلا ذلك الجسم الناسوتي المخلوق .
لكن ظن الضال أنه رب العالمين ، كما ظن عباد العجل أن العجل إله موسى . فإذا جاز أن يتحد الرب - عز وجل - ببعض الأجسام ، لم ينكر على أصحاب العجل إذا جوزوا أن يكون رب العالمين اتحد بالعجل ، وقد رأوا منه نوع خرق عادة . فليس للنصارى أن ينكروا على عباد العجل ولا عباد شيء من الأصنام إذا أمكن أن يكون الرب - عز وجل - حل فيها عندهم إن لم يقيموا دليلا على أن الرب لم يحل في ذلك .
فإذا قيل : إن موسى - عليه السلام - أنكر على عباد العجل .
قيل : نعم . وموسى ينكر على كل من عبد شيئا من المخلوقات ، حتى لو عبد أحد الشجرة التي كلمه الله منها لأنكر عليه ، فإنكاره على النصارى أعظم .
وموسى - عليه السلام - لم يقل قط : إن الله يتحد بشيء مع المخلوقات ويحل فيه ، بل أخبر من عظمة الله - عز وجل - بما يناقض ذلك .
ففي التوراة من نهيه عن عبادة ما سوى الله ومن تعظيم أمره وعقوبة المشركين به ، وبما أخبر به من صفات الله - عز وجل - ما يناقض قول النصارى .
[ ص: 462 ] ولهذا كان من تدبر التوراة وغيرها من كلام الأنبياء - عليهم السلام - من النصارى ، تبين له أن دينهم يناقض دين الأنبياء كلهم ، وأن ما هم عليه من التثليث والاتحاد والشرك ، لم يبعث به أحد من الأنبياء - عليهم السلام - .
وما يفعلونه من دعاء المخلوقين كالملائكة ، أو كالأنبياء والصالحين الذين ماتوا ، مثل دعائهم مريم وغيرها ، وطلبهم من الأموات الشفاعة لهم عند الله - لم يبعث به أحد من الأنبياء ، فكيف وقد صوروا تماثيلهم ليكون تذكيرا لهم بأصحابها ، ويدعون تلك الصور ؟
وإن قصدوا دعاء أصحابها ، فهم إذا صرحوا بدعاء أصحابها وطلبوا منهم الشفاعة وهم موتى وغائبون ، كانوا مشركين .
فكيف إذا كان الدعاء في الظاهر لتماثيلهم المصورة ، وهذا مما يعترف حذاق علمائهم بأنه مخالف لدين الأنبياء كلهم .
ولهذا وقع بينهم تنازع في اتخاذ الصور في الكنائس لما ابتدعه بعضهم ، كما هو مذكور في أخبارهم ، ولم يأت من ابتدع ذلك بحجة شرعية .
والمجسمة يعتقدون أن الله قديم أزلي ، وأنه عظيم جدا ، لا يقولون : إنه متحد بشيء من الأجسام المخلوقة ، ولا يحل فيها . فمن [ ص: 463 ] قال باتحاده وحلوله فيها ، كان قوله شرا من قول هؤلاء المجسمة .
كما أن المتفلسفة الذين يقولون بأن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة بنفسها أولها علة تتشبه بها كما يقوله " أرسطو " وذووه ، أو يثبتون لها علة فاعلة ، لم تزل مقارنة لها ، كما يقوله " ابن سينا " وأمثاله .
وهؤلاء قولهم شر من قول اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين يثبتون للسموات والأرض خالقا خلقها بمشيئته وقدرته .
ولو قال من قال منهم : إن ذلك جسم فغايته أن يثبت جسما قديما أزليا موصوفا بصفات الكمال
فمن أثبت جسما قديما أزليا ليس موصوفا بصفات الكمال ، كان قوله شرا من قول هذا .
فتبين أن المجسمة الذين يثبتون جسما قديما أزليا واجب الوجود بنفسه عالما بكل شيء قادرا على كل شيء مع قولهم : إنه تحله الحوادث وتقوم به الحركة والسكون - خير من قول الفلاسفة الذين يقولون : إن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة الوجود بنفسها ، كما يقوله " أرسطو " وذووه ، وخير من النصارى أيضا .
الوجه الثالث عشر : قولهم : من قال : ثلاثة آلهة مختلفة أو متفقة ، أو ثلاثة أشخاص مركبة ، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه - فنحن نلعنه ونكفره .
فيقال لهم : وأنتم أيضا تلعنون من قال : إن المسيح ليس هو إله حق من إله حق ، ولا هو مساوي الأب في الجوهر ، ومن قال : إنه [ ص: 464 ] ليس بخالق ، ومن قال : إنه ليس بجالس عن يمين أبيه ، ومن قال أيضا : إن روح القدس ليس برب حق محي ، ومن قال : إنه ليس ثلاثة أقانيم .
وتلعنون أيضا مع قولكم إنه الخالق من قال : إنه الأب ، والأب هو الخالق ، فتلعنون من قال : هو الأب الخالق ، ومن قال : ليس هو الخالق ، فتجمعون بين النقيضين .
فتلعنون من جرد التوحيد بلا شرك ولا تثليث ، ومن أثبت التثليث مع انفصال كل واحد عن الآخر ، وتجمعون بين النقيضين .
فمن أثبت أحدهما منفكا عن الآخر لعنتموه ، كمن قال : عندي واحد ثلاثة .
فمن قال : هو واحد ليس بثلاثة - كذبه ، ومن قال : هو ثلاثة ليس واحدا - كذبه .
ومن قال : عندي شيء موجود معدوم ، فمن قال : هو موجود ليس بمعدوم - كذبه ، ومن قال : معدوم ليس بموجود - كذبه .
ومن قال : عندي شيء هو حي ميت ، هو عالم جاهل ، هو قادر عاجز ، فمن قال : هو حي ليس بميت - كذبه ، ومن قال : هو ميت ليس بحي - كذبه .
فهكذا أنتم تجمعون بين قولين متناقضين ، أحدهما حق والآخر باطل .
فمن قال الحق ونفى الباطل لعنتموه ، ومن قال الباطل ونفى [ ص: 465 ] الحق لعنتموه .
وأنتم تشبهون الملاحدة من الجهمية والفلاسفة والباطنية الذين يسلبون عنه النقيضين ، أو يمتنعون عن إثبات أحد النقيضين ، فيقولون : لا نقول هو حي ولا ليس بحي ، ولا هو عالم ولا ليس بعالم ، ولا قادر ولا ليس بقادر .
بل منهم من يقول : لا نقول : هو موجود ولا معدوم ، ولا نقول هو شيء ولا نقول ليس بشيء .
ومنهم من يقول : ليس بحي ولا ميت ، ولا عالم ولا جاهل ، ولا قادر ولا عاجز .
ومنهم من يقول : لا نطلق لا هذا ولا هذا .
فيقال لهم : رفع النقيضين كجمع النقيضين ، والامتناع عن إثبات أحد النقيضين ، كالامتناع عن نفي أحد النقيضين .
وكذلك من وصفه بأنه موجود واجب الوجود لذاته ، ثم وصفه بصفات تستلزم عدمه ، فقد جمع بين النقيضين .
وكل قول يتضمن جمع النقيضين وإثبات الشيء ونفيه ، أو رفع النقيضين الإثبات والنفي - فهو باطل .
والنصارى في هذا الباب من أبلغ الناس تناقضا يقولون الشيء ويقولون بما يناقضه ، ويلعنون من قال هذا ومن قال هذا .
وأيضا فكل طائفة منكم تلعن الأخرى ، فإن أهل الأمانة تلعن الأريوسية وغيرهم من طوائف النصارى ، وهم يلعنونكم وكل من فرقكم [ ص: 466 ] الثلاثة ، النسطورية ، واليعقوبية ، والملكية ، تلعن الطائفتين الأخريين .
فأنتم واليعقوبية تلعنون من يقول : إن مريم لم تلد إلها ، ويقولون : إن مريم ولدت إنسانا تاما إلها تاما .
وأنتم والنسطورية تلعنون من قال : إنهما جوهر واحد بمشيئة واحدة وطبيعة واحدة .
ومن قال : إن اللاهوت تألم مع قولكم : إن اللاهوت مولود من مريم ، ومع قولكم : المسيح الذي ولدته مريم مات وصلب ، وفي أقوالكم من العجائب المتناقضة التي توجب أنكم ملعونون ، ما يطول وصفه ، فما منكم من أحد إلا وهو لاعن ملعون ، فلعنكم من قال بهذه المقالات ، لا يوجب أنكم على الحق ، بل يوجب أن يكون من جملة الملعونين عندكم كطائفة من طوائفكم . والنصارى طوائف كثيرون مختلفون اختلافا كثيرا .