الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 5 ] فصل

قال الحاكي عنهم : فقلت فإنهم ينكرون علينا قولنا : إن الله - تعالى - جوهر قالوا إننا نسمع عن هؤلاء القوم أنهم ذوو فضل وأدب ومعرفة ، ومن هذا صورته ، وقد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق فما حقهم ينكرون هذا علينا وذلك أنه ليس [ ص: 6 ] في الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض ؛ لأن أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، وهو الجوهر ، وإما مفتقر في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه ، وهو العرض ولا يمكن أن يكون لهذين القسمين قسم ثالث . فأشرف هذين القسمين القائم بذاته الغير مفتقر في وجوده إلى غيره . وهو الجوهر .

ولما كان الباري - تقدست أسماؤه - أشرف الموجودات ؛ إذ هو سبب سائرها ، أوجب أن يكون أشرف الأمور وأعلاها الجوهر ؛ ولهذا قلنا إنه جوهر لا كالجواهر المخلوقة ، كما نقول إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة ، وإلا لزم أن يكون قوامه بغيره ومفتقر في وجوده إلى غيره ، وهذا من القبيح أن يقال على الله - تعالى - فقلت [ ص: 7 ] لهم إنهم يقولون إنا إنما نمتنع من تسميه جوهرا ؛ لأن الجوهر ما قبل عرضا وما شغل الحيز ولهذا ما يطلق عليه القول بأنه - تعالى - جوهر . قالوا : إن الذي يقبل عرضا ويشغل حيزا هو الجوهر الكثيف ، فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا ؛ مثل جوهر النفس ، وجوهر العقل ، وجوهر الضوء ، وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة المخلوقة .

فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا ، ولا تشغل حيزا فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف ، ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا ؟ كلا .

والجواب من وجوه :

أحدها : أن يقال : أما تسمية الباري جوهرا . فهو من أهون ما ينكر على النصارى ؛ ولهذا كان من الناس من ينكره من جهة الشرع - فقط - أو اللغة ، ومنهم من ينكره من جهة العقل أيضا ، ومنهم من يراه نزاعا لفظيا . وطائفة من المسلمين يسمونه جوهرا وجسما أيضا . وذلك أن المسلمين في أسماء الله - تعالى - على طريقتين ، فكثير منهم يقول : إن أسماءه سمعية شرعية ، فلا يسمى إلا بالأسماء التي جاءت بها الشريعة ، فإن هذه عبادة ، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع .

ومنهم من يقول : ما صح معناه في اللغة ، وكان معناه ثابتا له ، [ ص: 8 ] لم يحرم تسميته به ، فإن الشارع لم يحرم علينا ذلك ، فيكون عفوا . والصواب القول الثالث ؛ وهو أن يفرق بين أن يدعى بالأسماء أو يخبر بها عنه . فإذا دعي لم يدع إلا بالأسماء الحسنى كما قال - تعالى - :

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه

وأما الإخبار عنه فهو بحسب الحاجة ؛ فإذا احتيج في تفهيم الغير المراد إلى أن يترجم أسماؤه بغير العربية ، أو يعبر عنه باسم له معنى صحيح ، لم يكن ذلك محرما .

وأما الذين منعوه من جهة العقل فكثير : منهم من يقولون : إن الجوهر ما شغل الحيز ، وحمل الأعراض والله - سبحانه وتعالى - ليس كذلك ، وهذا قول من نفى ذلك من أهل الكلام . ومنهم من يقول : الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع ، وهذا إنما يكون فيما وجوده زائد على ذاته ، وواجب الوجود وجوده عين ذاته ، فلا يكون [ ص: 9 ] جوهرا . وهذا قول ابن سينا وأمثاله من متأخري المتفلسفة .

وأما قدماء الفلاسفة ؛ كأرسطو وأمثاله ؛ فكانوا يسمونه جوهرا ؛ وعنهم أخذت النصارى هذه التسمية ؛ فإن أرسطو كان قبل المسيح [ ص: 10 ] بأكثر من ثلاثمائة سنة ولهذا قال هؤلاء في كتابهم نعجب ممن ينكر ذلك وهو قد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق .

وأما اللغة : فإن لفظ الجوهر ليس من العربية العرباء ؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب المحض ، وإنما هو معرب كما ذكر ذلك الجوهري وغيره ، قال الجوهري : الجوهر معرب ، الواحدة [ ص: 11 ] جوهرة ، فهو من العربية المعربة ، لا من العربية العرباء ، كلفظ سجيل ، وإستبرق وأمثال ذلك من الألفاظ المعربة ، وهذا اللفظ ليس موجودا في القرآن . ومع هذا فلما عرب كان معناه في اللغة هو الجوهر المعروف . وتسمية القائم بنفسه أو الشاغل للحيز جوهرا ، فهو أمر اصطلاحي ، ليس هو من الأسماء اللغوية ولا العرفية العامة ، ولا الأسماء الشرعية .

وقد قيل : إنه مأخوذ من كلام الأوائل ، كاليونان وغيرهم ، فإنه [ ص: 12 ] يوجد في كلامهم تسمية القائم بنفسه جوهرا . وقد قيل : سموه بذلك ؛ لأن جوهر الشيء أصله والقائم بنفسه هو الأصل . وقد يسمون العرض القائم بغيره جوهرا . وقيل : لأن لفظ الجوهر ، فوعل ، من الجهر ؛ وهو الظهور والوضوح ، والقائم بنفسه يظهر ويعرف قبل أن يعرف ما قام به من الأعراض .

والناس متفقون على إثبات الأعيان القائمة بنفسها التي تسمى جواهر أو أجساما ، وتنازعوا في ثبوت الأعراض القائمة بها ، والنزاع عند محققيهم لفظي ، فإن عاقلا لا ينازع أن الجسم يتحرك بعد سكونه . لكن منهم من يقول : حركته ليست زائدة على ذاته . ومنهم من يقول : هي زائدة على ذاته . وهو نظير نزاعهم في الصفات : هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة ؟ .

والتحقيق أن مسمى الإنسان إذا أطلق دخل فيه صفاته ، وإذا ميز بين هذا وهذا قيل : الذات والصفات . ومن الناس من يخص بلفظ العرض ما لم يكن من الصفات لازما للموصوف ، والصفات اللازمة يسميها صفات ذاتية جوهرية . ومنهم من يخص بالعرض [ ص: 13 ] ما لا يبقى عنده زمانين ، ويقول : صفات المخلوق تسمى أعراضا ؛ لأنها لا تقبل زمانين بخلاف صفات الله ، فإنها عنده باقية فلا تسمى أعراضا .

ومن نظار المسلمين من يسمي صفات كل موصوف أعراضا ، وإذا كان كذلك فلا يدخل في أسماء الله التي تذكر في أصول الإيمان التي يجب اعتقادها من الأسماء ما هو اصطلاح طائفة من الناس ، مع أنه يوهم معنى باطلا . وهذا الوضع مما اضطرب فيه - مع النصارى - كثير من الناس .

منهم من يجعل الصفات أعيانا قائمة بنفسها وجواهر قائمة بنفسها .

ومنهم من يجعل الأعيان القائمة بنفسها صفات ، والصفات لا تقوم بأنفسها بل لا بد لها من موصوف تقوم به .

والأولون نوعان :

منهم من نفى الصفات ، وقال : لو أثبتنا له حياة وعلما وقدرة [ ص: 14 ] لزم أن تكون هذه آلهة فإن القدم أخص وصفه ، فلو أثبتنا قديما ليست هي الذات ، لزم أن يشارك الذات في أخص وصفها ، فتكون ذاتا أخرى قائمة بنفسها . وهذه طريقة كثير من نفاة الصفات من مبتدعة المسلمين ، واليهود والنصارى احتجوا على نفي الصفات بأنا لو أثبتناها لزم أن تكون آلهة .

وقال من قال من المنتسبين إلى الإسلام : أنا لو أثبتنا الصفات لقلنا بقول النصارى ، حيث أثبتوا لله الأقانيم ، وحجة هؤلاء قائمة على النصارى ، وهم النوع الثالث ، فإنهم أثبتوا لله صفات جعلوها جوهرا [ ص: 15 ] قائما بنفسه ، وقالوا : إن الله موجود حي ناطق ، ثم قالوا حياته جوهر قائم بنفسه ، ونطقه - وهو الكلمة - جوهر قائم بنفسه وقالوا في هذا : إنه إله من إله ، وهذا إله من إله ، فأثبتوا صفات لله وجعلوها جواهر قائمة بنفسها ، ثم قالوا : الجميع جوهر ، فكان في كلامهم أمور كثيرة من الباطل المتناقض . منهم من جعل الصفات جوهرا . ومنهم من جعل الجواهر المتعددة جوهرا واحدا .

والذين قالوا من نفاة الصفات المعتزلة والجهمية : إن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى ، هو متوجه على من جعل الصفات جواهر . وهؤلاء هم النصارى يزعمون أن الصفات جواهر آلهة ، ثم قال هؤلاء : ولا إله إلا الله ، فلا صفة له . وقالت النصارى : بل الأب جوهر إله ، والابن جوهر إله ، وروح القدس جوهر إله ، ثم قالوا : والجميع إله واحد . ونفس تصور هذه الأقوال - التصور التام - يوجب العلم بفسادها . وأما الرسل وأتباعهم فنطقوا أن لله علما وقدرة وغير ذلك من الصفات ، وثبتوا أن الإله إله واحد . فإذا قال القائل : عبدت الله ودعوت الله ؛ فإنما دعا وعبد إلها واحدا ؛ وهو ذات متصفة بصفات الكمال ، لم يعبد ذاتا لا حياة لها ولا علم ولا قدرة ، ولا عبد ثلاثة آلهة ولا ثلاثة جواهر ، بل نفس اسم الله يتضمن ذاته المقدسة المتصفة [ ص: 16 ] بصفاته - سبحانه - وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ، ولا زائدة على مسمى اسمه ، بل إذا قدر ذات مجردة عن الصفات ، فالصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في الذهن المجردة عن الصفات ليست الصفات زائدة عن الذات المتصفة بالصفات ، فإن تلك لا تحقق إلا بصفاتها فتقديرها - مجردة عن صفاتها - تقدير ممتنع .

وقد تنازع المثبتة : هل يقال الصفات عين الذات ، أم يقال ليست عين الذات ؟ أم يقال : لا يقال هن غير الذات ، ولا يقال ليست غير الذات ؟ وتنازعوا في مسمى الغيرين : هل هما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر مطلقا ، أو ما جاز مفارقته بوجود أو زمان أو مكان ، أو هما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر ؟ وغاية ذلك منازعات لفظية .

وكثير منهم فرق في الصفات اللازمة بين بعضها وبعض ؛ فجعل بعضها زائدا على الذات وبعضها ليس بزائد على الذات ، وكان الفرق بحسب ما يتصوره ، لا بحسب ما الأمر عليه في نفسه . فإذا [ ص: 17 ] أمكنهم تصور الذات بدون صفة قالوا : هذه زائدة ، وإلا قالوا ليست زائدة . وهذا يقتضي أنها زائدة على ما تصوروه هم من الذات ، لا أنه في الخارج ذات مجردة عن تلك الصفة ، وصفة زائدة عليها ، بل ليس إلا الذات المتصفة بتلك الصفات .

ولكن يجب الفرق بين أن يقال : إن الصفات غير الذات ، وبين أن يقال : إنها غير الله ؛ فإن اسم ( الله ) متناول لذاته المتصفة بصفاته . فإذا قال القائل : دعوت الله وعبدت الله ؛ فلم يدع ذاتا مجردة ولا صفات مجردة ، بل دعا الذات المتصفة بصفاتها فاسمه - تعالى - يتناول ذلك . فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك ، وإن قيل إنها زائدة على الذات المجردة . ومن ظن أنها زائدة على الذات المتصفة بصفاتها التي تدخل صفاتها في مسماها ، فقد غلط ولكن في الأذهان والألسنة زلق في هذا الموضع كثيرا .

فإذا قيل : الصفات مغايرة للذات ، لم يكن في هذا من المحذور ما في قولنا : إن صفات الله غير الله ؛ فإن اسم الله يتناول صفاته .

فإذا قيل : إنها غيره ؛ فهم من ذلك أنها مباينة له وهذا باطل . ولهذا كان النفاة إذا ناظروا أئمة المسلمين ، كما ناظروا الإمام [ ص: 18 ] أحمد بن حنبل في محنته المشهورة فقالوا له : " ما تقول في القرآن وكلام الله ، أهو الله أم غير الله ؟ " عارضهم بالعلم ؛ وقال لهم : " ما تقولون في علم الله ، أهو الله أم غير الله ؟ " . وأجاب - أيضا - [ ص: 19 ] بأن الرسل لم تنطق بواحد من الأمرين ، فلا حجة لهم في كلام الله ورسوله ، فإن الله لم يقل لكلامه : هو أنا ، ولا قال : إنه غيري ! حتى يقول القائل : إذا كان قد جعل كلامه غيره وسواه فقد أخبر أنه خالق لكل ما سواه ! .

فإن كان الاحتجاج بالسمع ؛ فلا حجة فيه ، وإن كان الاحتجاج بالعقل ؛ فالمرجع في ذلك إلى المعاني لا إلى العبارات . فإن أراد المريد بقوله : هل كلامه وعلمه غيره ، أنه مباين له . فليس هو غيرا له بهذا الاعتبار . وإن أراد بذلك أن نفس الكلام والعلم ليس هو العالم المتكلم ؛ فهو غير له بهذا الاعتبار . وإذا كان اللفظ مجملا لم يجز إطلاقه على الوجه الذي يفهم المعنى الفاسد . وأما الذين جعلوا الأعيان القائمة بأنفسها صفات ، فهم هؤلاء المتفلسفة النفاة للصفات ومن أشبههم ؛ فإنهم قالوا : إن رب العالمين عقل وعاقل ومعقول .

ولفظ ( العقل ) عندهم وإن كانوا يقولون : هو جوهر قائم بنفسه ، فقد صرحوا أيضا بأنه - نفسه - علمه ، حتى صرحوا بأن رب العالمين علم ، كما صرح بذلك ابن رشد وغيره ، ونقلوه عن أرسطو ، [ ص: 20 ] وأن العقول العشرة كل منها علم ، فهو علم وعالم ومعلوم ، بل قالوا : عقل وعاقل ومعقول ، وعاشق ومعشوق وعشق ، ولذيذ وملتذ ولذة ، فجعلوه - نفسه - لذة وعقلا وعشقا ، وجعلوا ذلك هو العالم العاشق الملتذ ، وجعلوا نفس العلم نفس العشق ونفس اللذة ؛ فجعلوه - نفسه - صفات ، وجعلوه ذاتا قائمة بنفسها ، وجعلوا كل صفة هي الأخرى ، وهذا مما يعلم - بصريح العقل - بطلانه .

ومنهم من لا يصرح بأنه - نفسه - علم ، فإنه يقول : هو عاقل ومعقول وعقل ؛ يقول : إنه يعلم - نفسه - بلا علم علمه ، بل هو العالم ، وهو المعلوم وهو العلم . وحقيقة كلامهم تعود إلى قول أولئك ؛ فإنهم إذا قالوا : إن العلم الذي يعلم به ذاته هو العالم وهو المعلوم ؛ فقد جعلوا نفس العلم نفس العالم ونفس العلم نفس المعلوم وهي حقيقة قول أولئك ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .

[ ص: 20 ] الوجه الثاني : أن يقال لهم : أنتم تقولون إنكم متبعون للكتب الإلهية ، وإذا كان كذلك لم ينبغ لكم في شريعة إيمانكم من الأسماء إلا ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام .

والأنبياء لم يسم الله أحد منهم جوهرا ، وإنما سماه بذلك أرسطو وأمثاله ، وهؤلاء كانوا مشركين يعبدون الأصنام ولم يكونوا يعرفون الله المعرفة الصحيحة ، ولا يقولون : إنه خالق السماوات والأرض ، ولا إنه بكل شيء عليم ، ولا على كل شيء قدير ، وإنما كانوا يعبدون الكواكب العلوية ، والأصنام السفلية ويعبدون الشياطين ويؤمنون بالجبت والطاغوت ، وإنما صاروا مؤمنين لما دخل إليهم دين المسيح ، صلوات الله عليه وسلامه بعد الإسكندر المقدوني [ ص: 22 ] - صاحب أرسطو - بنحو ثلاثمائة سنة . ويقال : إنه آخر ملوكهم كان ( بطليموس ) وكانوا يسمون الملك من ملوكهم ( بطليموس ) كما يسمون القبط ملكها ( فرعون ) والحبشة ملكها ( النجاشي ) والفرس ( كسرى ) ونحو ذلك . وحينئذ فعدولكم عن طريقة الأنبياء والمرسلين . إلى طريقة الكفار والمشركين المعطلين من الضلال المبين .

وفي كتبهم : أن بولص لما صار إلى ( أيثينية ) دار الفلاسفة ، وفيها دار الأصنام ، وجد مكتوبا على باب دار العلماء : الإله الخفي [ ص: 23 ] الذي لا يعرف هو الذي خلق العالم .

فكانوا لا يعرفون رب العالمين ، فكيف يعدل عن طريقة رسل الله وأنبيائه كموسى ، وداود ، والمسيح ، إلى طريقة هؤلاء الكفار المشركين المعطلين ؟ ! .

ولكن النصارى ركبوا دينا من دينين : من دين الأنبياء الموحدين ودين المشركين ، فصار في دينهم قسط مما جاءت به الأنبياء ، وقسط مما ابتدعوه من دين المشركين في أقوالهم وأفعالهم ، كما أحدثوا ألفاظ الأقانيم ، وهي ألفاظ لا توجد في كلام الأنبياء ، وكما أحدثوا الأصنام المرقومة بدل الأصنام المجسدة ، والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب ، بدل الصلاة لها ، والصيام في وقت الربيع ، ليجمعوا بين الدين الشرعي والأمر الطبيعي وغير ذلك .

الوجه الثالث : قولهم : إن الذي يشغل حيزا ويقبل عرضا هو الجوهر الكثيف ، فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا ، مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء . فيقال : الكلام في [ ص: 24 ] الجواهر . هل هي منقسمة إلى متحيز وغير متحيز أو كلها متحيزة ؟ متصل بالكلام على نفس الإنسان الناطقة .

فنقول إن المسلمين من أعظم الناس معرفة بوجود الملائكة والجن ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وكذلك سلف الأمة وأئمتها يعرفون وجود النفس التي هي روح الإنسان التي تفارق بدنه حين الموت ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة ، وإن كان كثير من أهل الكتاب يزعم أنها عرض من [ ص: 25 ] أعراض البدن ، أو جزء من أجزائه ، فهذا قول محدث في الإسلام لم يذهب إليه أحد من السلف والأئمة ، وإن كان محكيا عن أكثر المتكلمين ، فليس الذين قالوا هذا من سلف الأمة ولا أئمتها ، بل هم من أهل الكلام المحدث المذموم عند السلف . وأئمة الأمة وكثير من المتفلسفة الداخلين في أهل الملل يقولون : إن الذوات التي تسميها الأنبياء الملائكة هي التي تسميها المتفلسفة المشاءون عقولا ، أو عقولا ونفوسا ، وهذا غلط عظيم كما قد بسط في موضعه .

فإن العقول التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة لا حقيقة لها عند الرسل وأتباعهم ، بل ولا حقيقة لها في المعقول الصريح ، بل حقيقة كلامهم أنها أعراض قائمة بنفسها . وقد صرحوا بأن واجب الوجود - نفسه - هو علم ، وجعلوا نفس العلم هو نفس العالم ، ونفس تصور هذا القول يكفي في العلم بفساده ، كما أن هؤلاء المتفلسفة [ ص: 26 ] - أتباع أرسطو - لا يعرفون الملائكة ، بل ولا الجن ، وإنما علمهم معرفة الأجسام الطبيعية ، وتكلموا في الإلهيات بكلام قليل نزر ؛ باطله أكثر من حقه ، كما قد بسط في موضع آخر .

وهؤلاء يزعمون أن العقل الأول أبدع ما دونه من العقول والأفلاك إلى أن ينتهي الأمر إلى العقل العاشر ، فهو مبدع ما تحت فلك القمر . وهذا كله من أعظم الكفر عند الرسل وأتباعهم أهل الملل . فإن مضمون هذا أن ملكا من الملائكة خلق كل ما تحت السماء ، وملكا فوقه خلق كل ما سوى الله - سبحانه - وهذا من أعظم الكفر في دين المرسلين وأهل الملل المسلمين واليهود والنصارى . قال - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون

فأخبر أن الملائكة لا تسبقه بالقول ، ولا تعمل إلا بأمره ، فضلا عن أن يكون ملك خلق كل شيء .

[ ص: 27 ] وهؤلاء يقولون : إن الوحي والكلام الذي جاءت به الرسل ، إنما هو فيض من هذا العقل الفعال على قلوب الأنبياء . والله - تعالى - عند هؤلاء لم يكن يعرف موسى ولا عيسى ولا إبراهيم ولا محمدا ولا غيرهم من الرسل ، ولا يعرف الجزئيات ، بل عند أرسطو وأتباعه : أنه لا يعلم شيئا من الأشياء ، بل ولا خلق عندهم شيئا ، بل ولا يقدر عندهم على خلق شيء ، فضلا عن أن يكون على كل شيء قدير وأن يكون أحاط بكل شيء علما .

وأرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام بمقدونية وأثينية وغيرهما من مدائن فلاسفة اليونان ، وكان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني ، وكان هذا قبل المسيح - عليه السلام - بنحو ثلاثمائة سنة ، ولم يكن وزيرا لذي القرنين الذي بنى سد يأجوج ومأجوج ، [ ص: 28 ] وعامة علم القوم علم الطبيعيات والحسابيات ، وأما العلم الإلهي - وهو الذي يسمونه علم ما بعد الطبيعة ، وهو منتهى فلسفتهم - فإنما تكلموا فيه على أمور كلية ، قسموا الوجود إلى جوهر وتسعة أعراض يجمعها بيتان

زيد الطويل الأسود بن مالك في داره بالأمس كان متكى     في يده سيف نضاه فانتضى
فهذه عشر مقولات سوا

وهي : الجوهر ، والكم ، والكيف ، والأين ، ومتى ، والإضافة ، والملك ، والوضع ، وأن يفعل ، وأن ينفعل .

وقد نازعه أتباعه وغيرهم في هذا الحصر وقالوا : إنه لا دليل [ ص: 29 ] عليه . ومنهم من جعلها ثلاثة . ومنهم من قال غير ذلك وأثبت العلة الأولى بناء على حركة الفلك ، وأنه يتحرك حركة شوقية ، فلابد له مما يتشبه به . فالعلة الأولى هي غاية لحاجة الفلك إليها من جهة أنه متحرك ليتشبه بها كحركة المؤتم بإمامه ، والمقتدي بقدوته ، وقد يقولون : كتحريك المعشوق لعاشقه .

وكلام أرسطو في ذلك موجود ، وقد نقلته بألفاظه وتكلمت عليه في غير هذا الموضع ، وقد ذكر ذلك في مقالة اللام وهي آخر فلسفته ومنتهى حكمته .

وفي كتاب أثولوجيا " ولم يثبت أن الرب مبدع لفلك [ ص: 30 ] وعلة فاعلة ، ولا يسمى واجب الوجود .

التالي السابق


الخدمات العلمية