الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ولا قسم الموجودات إلى واجب قديم وممكن قديم ، بل ذلك فعل المتأخرين ؛ كابن سينا وأمثاله ، وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع .

والمتأخرون الذين سمعوا كلام أهل الملل أرادوا إصلاح كلامه وتقريبه إلى العقول ، لعله يوافق ما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول . فتكلم عليه ثابت بن قرة وبين أن الفلك لا قوام له إلا بطبيعته ولا قوام لطبيعته إلا بحركته ، ولا قوام لحركته الإرادية إلا بمحرك لها .

وزعموا أن المحرك يجب أن لا يكون متحركا ، وقرروا ذلك بأدلة [ ص: 31 ] فاسدة ، قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع ؛ فقالوا : إنه إنما تحرك الفلك من جهة نسبة الفلك به ، وإن لم يكن هو القادر على تحريك الفلك ، بل ولا شعور منه بالفلك . وعبر عن ذلك ابن رشد الفيلسوف وأمثاله ؛ فقالوا : إنه يأمر الفلك بالحركة وقوام الفلك بطاعته لأمر الله . مع أنه عندهم لا إرادة له ولا علم له بما يأمر به ، بل كونه آمرا وهو معنى كون الفلك يتشبه به ، كما يأمر المعشوق عاشقه أن يحبه ، وإن كان المعشوق لا شعور له ولا إرادة في أن يحبه ذلك .

ثم لو قدر أنه هو الآمر ؛ فإنما يصدر بسبب أمره ، مجرد حركة الفلك ؛ ولهذا شبهوا ذلك بأمر السلطان لعسكره بأمر يطيعونه فيه ، فجعلوا الحركات معلولة بهذا الاعتبار ، لم يثبتوا أنه أبدع شيئا من الأفلاك والعناصر والمولدات ولا العقول ولا النفوس ، لا أبدع أعيانها ولا صفاتها ، ولا أفعالها ، بل غايته أن يكون آمرا لها بالحركة ؛ كأمر الملك لعسكره ، مع أنه عندهم ليس آمرا بالحقيقة ، بل ولا علم له بشيء من الموجودات ، بل غاية ما يزعم أرسطو وأتباعه أن للفلك حاجة إليه من جهة تشبهه به ، وأما كونه هو علية موجبة للفلك ، فإنما يقول هذا من يقوله من متأخريهم كابن سينا .

وأما الفارابي ؛ فهو الذي وسع القول في هذا الباب ، [ ص: 32 ] وقسم الوجود إلى واجب وممكن ، وجعل الأفلاك ممكنة واجبة به ، وفي ذلك من الفساد والاضطراب ما قد بسط في غير هذا الموضع . وبنى ابن سينا الكلام في نفي صفاته على كونه واجب الوجود .

وأما الفارابي في كتاب " آراء المدينة الفاضلة " وغير ذلك فاعتمد على كونه أول ، وكذا أرسطو في كتاب " أثولوجيا " اعتمد على كونه هو الأول ، وشبهه بالأول في العدد ، وعلى ذلك بنوا نفي [ ص: 33 ] الصفات ، وإنما لو أثبتناها لخرج عن كونه أول ، مع أنهم لم يقيموا حجة على كونه أول بهذا المعنى الذي زعموه ، كما لم يقيموا حجة على كونه واجب الوجود بالمعنى الذي ادعوه ، بل تكلموا بألفاظ مجملة متشابهة ، تحتمل حقا وباطلا ؛ فإنه معلوم أن الله واجب الوجود بذاته موجود بنفسه ، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء ، وهو القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال ، وهؤلاء جعلوا وجوب الوجود بمعنى أنه لا يتعلق بغيره فلا يكون له صفة . وكونه أول بمعنى أول الأعداد الذي لا تعدد فيه ، فمعلوم أن الواحد والأول المجرد عن كل شيء إنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان .

فالذهن يقدر واحدا واثنين وثلاثة وأربعة ، إلى سائر الأعداد المجردة ، والعدد المجرد عن المعدود إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان ، فأما الموجود في الخارج فإنما هي أعيان قائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها والأول منها هو ذات متصفة بصفاتها لا توجد في الأعيان ، ليس بذات قائمة بنفسها ، ولا صفة قائمة بغيرها ، بل [ ص: 34 ] لا توجد ذات مجردة عن صفاتها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، ولكن نبهنا هنا عليها لأن هؤلاء القوم قالوا إنا نعجب من هؤلاء القوم أنهم ذو فضل وأدب ومعرفة ، ومن هذا صورته وقد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق ، فما حقهم ينكرون علينا هذا .

فكل كلام هؤلاء النصارى يتضمن تعظيم الفلاسفة وأهل المنطق ، وأن من قرأ كتبهم عرف بها من الحق في الإلهيات ما لا يعرفه سائر أهل الملل ، وهذا يدل على جهل هؤلاء النصارى بما جاءت به الرسل ، وبما يعرف بالعقل المحض .

أما الأول : فلأن المسيح وأتباعه كالحواريين ومن اتبعهم ليس [ ص: 35 ] فيهم من عظم هؤلاء الفلاسفة ، ولا استعان بهم ، ولا التفت إليهم ، بل وهم عندهم من أئمة الكفر ورءوس الضلال ، وكذلك موسى وأتباعه ، وكذلك محمد وأتباعه ، فليس في رسل الله وأنبيائه ولا في أتباعهم من يعظمهم ولا يستعين بكلامهم ، بل الرسل وأتباعهم متفقون على تضليلهم وتجهيلهم .

وأما العقليات : فإنما يعظم كلام هؤلاء الفلاسفة في العلوم الكلية والإلهية من هو من أجهل الناس بالمعارف الإلهية والعلوم الكلية ؛ إذ كان كلامهم في ذلك ، فيه من الجهل والضلال ما لا يحيط به إلا ذو الجلال ، وإنما كان القوم يعرفون ما يعرفونه من الطبيعيات والرياضيات كالهندسة وبعض الهيئة وشيئا من علوم الأخلاق والسياسات المدنية والمنزلية التي هي جزء مما جاءت به الرسل ، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم من هؤلاء بالعلوم الإلهية والأخلاق والسياسات ، فضلا عما وراء ذلك .

فاعتضاد هؤلاء النصارى هؤلاء المتفلسفة يدل على عظيم جهلهم بالشرعيات والعقليات ، وهذا قد بسط الكلام عليه في مواضع متعددة ؛ إذ كان الرد على الفلاسفة لا يختص به النصارى ، بل الكلام في ذلك معهم ومع من يعظمهم من أهل الملل عموما .

[ ص: 36 ] ومعلوم أن المنتسبين إلى الإسلام من أتباع الفلاسفة ؛ كالفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول ، وابن رشد الحفيد إمامهم ، أحذق بهم وأعلم من النصارى .

وكتب الفلاسفة التي صارت إلى الإسلام ، من الطب والحساب والمنطق وغير ذلك ، هذبها المنتسبون إلى الإسلام فجاء كلامهم فيها خيرا من كلام أولئك اليونان .

والنصارى واليهود إنما يعتمدون في هذه العلوم على ما وصفه هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام ، مع أن هؤلاء عند علماء المسلمين جهال [ ص: 37 ] ضلال في الإلهيات والكليات ، فكيف يكون سلفهم ومن يعظمهم من اليهود والنصارى ؟ .

ولما صار أولئك اليونان عارفين بالله ، موحدين له ، عابدين له ، مؤمنين بملائكته وكتبه ورسله ، لما دخل إليهم أتباع المسيح يدعونهم إلى دين الله الذي بعث به المسيح . وكل من كان من أتباع المسيح - غير مبدل لشيء من دينه قبل النسخ - فإنه من المؤمنين المهتدين ، وهم من أولياء الله وهم من أهل الجنة .

ومن ظن أن كلام الرسل يوافق هؤلاء اليونان ؛ فإن ذلك يدل على جهله بما جاءت به الرسل وبما يقول هؤلاء . وإنما يوجد مثل هذا في كلام الملاحدة من أهل الملل ؛ ملاحدة اليهود والنصارى وغيرهم ؛ كأصحاب رسائل إخوان الصفا ، وأمثالهم من الملاحدة المنتسبين إلى [ ص: 38 ] تشيع أو إلى تصوف كابن عربي [ ص: 39 ] وابن سبعين وأمثالهما . وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها ونحو ذلك من الكلام المنسوب إلى أبي حامد قطعة من ذلك .

وهؤلاء يحتجون بالحديث المأثور " أول ما خلق الله العقل فقال له : أقبل . فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك ، فبك آخذ وبك أعطي ، وبك الثواب وعليك العقاب " .

[ ص: 40 ] وهذا الحديث كذب موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر ذلك أهل العلم بالحديث ؛ كأبي جعفر العقيلي ، [ ص: 41 ] وأبي حاتم بن حبان البستي ، وأبي الحسن الدارقطني ، وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم .

ثم لفظه لو كان صحيحا حجة على نقيض مطلوبهم ، فإنه قال : " أول ما خلق الله العقل " بنصب " أول " ، وفي لفظ " لما خلق الله العقل قال له " .

فلفظه يقتضي أنه خاطبه في أول ما خلقه ، فحرفوا لفظه وقالوا : أول ما خلق الله العقل بالضم ، وليس هذا لفظه ، ولكن لفظه يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ؛ ولهذا قال : " ما خلقت خلقا أكرم علي منك " ، وهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره .

وعندهم هو أول المبدعات ، يمتنع أن يتقدمه شيء ، مع أنه وسائر العقول والأفلاك - عندهم - قديمة أزلية لم تزل ولا تزال .

[ ص: 42 ] ثم قال : " فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب " فجعل به هذه الأنواع الأربعة .

وعندهم أن العقل صدر عنه جميع العالم العلوي والسفلي ؛ وذلك أن لفظ ( العقل ) في الحديث سواء كان صحيحا أو ضعيفا ، هو العقل في لغة الأنبياء والمرسلين ، هو عقل الإنسان ، وهو عرض قائم به ، وهذه صفة قائمة بالإنسان ، ليس هو جوهرا قائما بنفسه .

والعقل في لغة هؤلاء الفلاسفة هو جوهر قائم بنفسه . وأما النفس الفلكية ، فلهم فيها قولان : قيل : إنها عرض قائم بالفلك ، وهو قول أكثرهم . وقيل : بل جوهر قائم بنفسه ، ولهذا يميل ابن سيناء ، وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر .

والمقصود هنا ذكر هؤلاء النصارى أن ثم جوهرا لطيفا ، غير الجوهر الكثيف ، ومثلوا ذلك بالنفس والعقل والضوء ، ثم لم يقيموا على ثبوت شيء من ذلك دليلا ، ولا دليل مما دلت عليه الكتب الإلهية ، فإن النفس الفلكية والعقول العشرة لم ينطق بها كتاب [ ص: 43 ] ولا رسول ، بل ولا دل عليها دليل عقلي ، وأدلة المتفلسفة عليها ضعيفة . وإنما دل العقل على ما أخبرت به الرسل من الملائكة .

ولكن هؤلاء الذين حملوا كلام الرسل على ما يوافق قول المتفلسفة يجعلون اللوح المحفوظ ، هو النفس الفلكية ، كما يجعلون العقل والقلم هو العقل الأول والعرش هو الفلك التاسع ، وغير ذلك مما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر .

وإذ لم يقيموا حجة شرعية ولا عقلية على ما مثلوا به من الجواهر اللطيفة لم يكن لهم حجة على من قال : إن الجوهر ما يشغل حيزا ويقبل عرضا . ولما قرنوا النفس بالعقل ، كان ذلك ظاهرا في أنهم أرادوا النفس الفلكية .

فأما إن أرادوا النفس الإنسانية فهذه ثابتة ، أخبرت بها الرسل وأتباعهم ، كما قد بسط في موضعه . لكن هذه لا تقرن بالعقل الذي هو جوهر . والعقل صفة هذه وهو مصدر عقل يعقل عقلا . وقد يراد بالعقل غريزة قائمة بها ، ويراد بالعقل العمل بالعلم كما قد بسط في موضع آخر .

الوجه الرابع : قولهم : " وجوهر الضوء " فيقال لهم : إن أردتم بالضوء نفس الشمس والنار فهذا جسم متحيز ؛ يشغل حيزا ، ويقبل عرضا ، ليس هو من الجواهر اللطيفة الذي مثلتم بها وإن أردتم [ ص: 44 ] بالضوء الشعاع القائم بالهواء والجدران ونحو ذلك ، فليس هذا بجوهر ، لا لطيف ولا كثيف ، بل هو عرض قائم بغيره .

الوجه الخامس : قولكم : " إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا " كلام ممنوع ، وهو باطل أيضا . فإن نفس الإنسان تقبل الأعراض القائمة بها ، وكذلك النفس الفلكية - عند من أثبتها - تقوم بها إرادات وتصورات متجددة . ولفظ " العرض " في اصطلاح النظار يراد به ما قام بغيره سواء كان صفة لازمة أو عارضة ، وهذا موجب تقسيم النصارى ، كما هو قول الفلاسفة .

فإنهم قالوا : ليس في الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض ؛ لأنه أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه ، غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، وهو الجوهر ، وإما مفتقر في وجوده إلى غيره ، لا قوام له بنفسه وهو " العرض " قالوا : " ولا يمكن أن يكون لهذين قسم ثالث " .

وهذا الذي قالوه هو تقسيم أرسطو وأتباعه ، وهو يسمي المبدأ الأول جوهرا وهذا تقسيم سائر النظار . لكن أكثرهم لا يدخلون رب العالمين في مسمى الجوهر ، ومنهم من يدخله فيه ، وبعض النزاع في ذلك لفظي .

وإذا كان الأمر على ما قالوه ؛ فالضوء القائم بالأرض والهواء عرض ليس جوهرا قائما بنفسه ، وهم قد جعلوه جوهرا ، وهذا تناقض بين . وأيضا فالجواهر اللطيفة تقوم بها الأعراض ؛ كالحياة والعلم ، بل والرب - على قولهم - تقوم به الحياة والعلم .

[ ص: 45 ] فإذا سموه جوهرا ، لزمهم أن يسموا صفاته أعراضا ، إذا قالوا : لا موجود إلا جوهر أو عرض .

فهذا يناقض قولهم : " الموجود إما جوهر وإما عرض ، فليس في الموجودات إلا هذا أو هذا " بل موجب كلامهم أنها قائمة بذات الله ، فكيف بذات غيره ؟ .

وإذا قالوا : " ويعنى بالأعراض ، الصفات العارضة أو القائمة بالأجسام " كان هذا مناقضا لقولهم : " الموجود إما جوهر وإما عرض " مع قولهم : " إن الرب جوهر ثلاثة أقانيم ، والأقنوم ذات وصفة " ومع قولهم : " إن الرب جوهر " فقولهم يقتضي أن الرب جوهر تقوم به الأعراض ، فكيف غيره .

ثم يقال : إذا قدر أنهم يدعون ثبوت جوهر لا يقوم به الأعراض ، فهذا اصطلاح لهم وافقوا فيه نفاة الصفات من الفلاسفة كأرسطو وذويه ، فإنهم يقولون : إن الرب جوهر لا يتصف بشيء من [ ص: 46 ] الصفات الثبوتية ، لكن ليس هذا قول النصارى ، فتبين أنهم في قولهم : " إن الرب جوهر " وفي قولهم : " إن من الجواهر ما لا يقوم به الصفات " موافقون للمشركين الفلاسفة ، أرسطو وأتباعه ، لا موافقين للمسيح والحواريين ، وأنهم أثبتوا الصفات لله موافقة للمسيح والحواريين ثم جعلوه جوهرا ، ثم قالوا : " إن الجوهر اللطيف لا تقوم به الصفات " وهذا قول الفلاسفة المشركين المعطلين ، وهذا تحقيق ما ذكرناه عنهم من أنهم ركبوا دينا من دين المسيح والحواريين ومن دين الكفار المشركين .

فهؤلاء إن عنوا بالعرض هذا فكل جوهر يقبل الصفات ، وإن أرادوا بالعرض ما تعنيه المتفلسفة بالصفات العرضية التي يفرقون بينها وبين الذاتية - مع أن هذا ليس مقتضى كلامهم - فقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن تقسيم هؤلاء الصفات اللازمة للموصوف إلى ذاتية وعرضية تقسيم باطل ، وتقدير أن يكون حقا ، فالنفس - أيضا - تقبل الصفات العرضية ، بل وكذلك كل جوهر سواء كان لطيفا أو كثيفا . فقولكم : " إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا ؛ مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة ، كلام باطل على كل تقدير .

[ ص: 47 ] وإن عنوا بلفظ العرض شيئا آخر ، لم ينفعهم ذلك ، فإن المتكلمين الذين قالوا : " الجوهر هو ما يشغل حيزا ويقبل عرضا " إنما أرادوا بالعرض ما يقوم بغيره من المعاني ، سواء كان لازما له أو عارضا له ، ومعلوم أن كل جوهر فإنه يقوم به المعاني . والخالق - تعالى - عندهم يقوم به الحياء والعلم ، فإذا كان الخالق - تعالى - يقوم به المعاني - وهم يسمونه جوهرا - فكيف لا تقوم المعاني بغيره .

وهؤلاء يثبتون جوهرا لطيفا لا تقوم به الأعراض ، مع قولهم : " إنه تقوم به المعاني " وهذا اصطلاح لهم لا يوافقهم عليه أحد . ثم يتناقضون فيقولون : " الموجود إما جوهر وإما عرض " وهذا تناقض .

ونظار المسلمين لهم في تسمية صفات الله القائمة به أعراضا نزاع : بعضهم يسميها أعراضا ، وبعضهم ينكر هذه التسمية ، مع اتفاق هاتين الطائفتين على قيام الصفات به . وجمهور نظار المسلمين [ ص: 48 ] لا يسمونه جوهرا ، وبعضهم يسميه جوهرا ، وأما من أنكر قيام الصفات به فذاك لا يسمي الله جوهرا ولا جسما .

وهؤلاء النصارى متناقضون تناقضا بينا ، ولهذا كان لهم طريقة لا يوافقهم عليها أحد من طوائف العقلاء ، ذلك يظهر : .

بالوجه السادس : وهو أن الناس لهم في إثبات الصفات القائمة بذات الله - تعالى - قولان : فسلف المسلمين وأئمتهم وجمهور الخلق من أهل الملل وغير أهل الملل ، يثبتون قيام الصفات بالله ، تبارك وتعالى . وهل تسمى أعراضا ؟ على قولين : والقول الثاني : قول من ينفي الصفات ، مثل الملاحدة الجهمية ونحوهم ، من مبتدعة المسلمين ، ومن وافقهم من الفلاسفة ، وبعض اليهود والنصارى ، فهؤلاء لا تقوم به المعاني والصفات عندهم ، فلا يقولون : تقوم به الأعراض . ثم من هؤلاء من يسميه جوهرا كأرسطو وأتباعه ، ومنهم من لا يسميه جوهرا ، كمتأخري الفلاسفة : ابن سينا [ ص: 49 ] وأمثاله ، مع جمهور نظار المسلمين وغيرهم ، سواء سموه جوهرا أو لم يسموه .

وأما الجمهور القائلون بقيام المعاني به ؛ فبعضهم يسميها أعراضا وإن لم يسمه جوهرا . وقد سماه بعضهم جوهرا ، وبعضهم ينفي أن يكون أعراضا ، وبعضهم يسكت عن النفي والإثبات ، فلا يسميها أعراضا ولا ينفي تسميتها بذلك ، أو يستفصل القائل عن كونها أعراضا .

وأما هؤلاء النصارى فقالوا : " جوهر ثلاثة أقانيم " ووصفوه بالصفات الثبوتية ؛ وهي الحياة والنطق ، وقالوا : " الموجود إما جوهر وإما عرض " فلزمهم أن تكون صفات الله أعراضا عندهم ، ثم قالوا : " الجوهر اللطيف لا يقوم به الأعراض " ونزهوا الرب أن تقوم به الأعراض ، مع قولهم : " إنه جوهر " تناقضوا تناقضا بينا ، حيث جمعوا بين كلام الرسل وأتباعهم وبين كلام المشركين [ ص: 50 ] المعطلين الفلاسفة . فما تلقوه عن المسيح فهو حق ، وما ابتدعوه من قول من خالف الرسل فهو باطل . فجمعوا في قولهم بين الحق والباطل ، وسلكوا مسلكا لا يعرف عن غيرهم ، وإيضاح هذا أن يقال في :

الوجه السابع : أن هذا الذي ذكروه تناقض بين ؛ فإنهم قالوا : الموجود إما جوهر وإما عرض : " القائم بذاته هو الجوهر ، والقائم بغيره هو العرض " .

ثم قالوا : " إنه موجود حي ناطق ، له حياة ونطق " . فيقال لهم : حياته ونطقه ؛ إما جوهر وإما عرض ، وليس جوهرا ؛ لأن الجوهر ما قام بنفسه ، والحياة والنطق لا يقومان بنفسيهما ، بل بغيرهما ، فهما من الأعراض ، فتعين أنه عندهم جوهر يقوم به الأعراض ، مع قولهم : " إنه جوهر لا يقبل عرضا " .

[ ص: 51 ] فإن قيل : أرادوا بقولهم : " لا يقبل عرضا " ما كان حادثا ؛ قيل : فهذا ينقض تقسيمهم الموجود إلى جوهر وعرض ، فإن المعنى القديم الذي يقوم به ليس جوهرا وليس حادثا . فإن كان عرضا ؛ فقد قام به العرض وقبله ، وإن لم يكن عرضا ؛ بطل التقسيم .

يبين هذا أنه يقال : أنتم قلتم : " إنه شيء حي ناطق " وقلتم : " هو ثلاثة أقانيم " وقلتم : " المتحد بالمسيح أقنوم الكلمة " وقلتم في الأمانة : " نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور ، إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر " .

ثم قلتم : " إن الرب جوهر " وقلتم : " إن الذي يشغل حيزا [ ص: 52 ] أو يقبل عرضا هو الجوهر الكثيف ؛ فأما الجوهر اللطيف فلا يقبل عرضا ولا يشغل حيزا ؛ مثل جوهر النفس وجوهر العقل ، وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة . فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا ولا تشغل حيزا ؛ فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا كلا " فصرحتم بأنه جوهر لا يقبل عرضا ، وقلتم : " ليس في الموجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض ؛ فإن كان قائما بنفسه غير محتاج في وجوده إلى غيره فهو الجوهر ، وإن كان مفتقرا في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه فهو العرض " .

فيقال لكم : الابن القديم الأزلي المولود من جوهر أبيه - الذي هو مولود غير مخلوق ، الذي تجسد ونزل - جوهر قائم بنفسه أم هو عرض قائم بغيره ، والموجود عندكم : إما جوهر وإما عرض . فإن قلتم : هو جوهر ، فقد صرحتم بإثبات جوهرين : الأب جوهر ، والابن جوهر ، ويكون حينئذ أقنوم الحياة جوهرا ثالثا ، فهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر قائمة بنفسها ، وحينئذ فيبطل قولكم : " إنه إله واحد ، وإنه أحدي الذات ثلاثي الصفات ، وإنه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم " إذ كنتم قد صرحتم - على هذا التقدير - بإثبات ثلاثة جواهر .

[ ص: 53 ] وإن قلتم : بل الابن القديم الأزلي ، الذي هو الكلمة ، التي هي العلم والحكمة ، عرض قائم بجوهر الأب ، ليس هو جوهرا ثانيا ؛ فقد صرحتم بأن الرب جوهر تقوم به الأعراض ، وقد أنكرتم هذا في كلامكم ، وقلتم : " هو جوهر لا تقوم به الأعراض " وقلتم : " إن من المخلوقات جواهر لا تقوم بها الأعراض ، فالخالق أولى " وهذا تناقض بين لا حيلة فيه لمن تدبر كلامهم أوله وآخره .

فإن كلامهم هذا يوجب أنه جوهر واحد ، لا يقوم به شيء من الأعراض .

وهم يقولون : " جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم " وسواء سموها صفات أو خواص أو أعراضا ، أو قالوا : الأقنوم هو الذات والصفة . فيقال لهم : الرب مع الأقانيم : ثلاثة جواهر أو جوهر واحد له ثلاثة صفات ، أو جوهر لا صفة له . فإن قالوا : ثلاثة جواهر ، أثبتوا ثلاثة وبطل قولهم : " إن الرب جوهر واحد وإله واحد " وصرحوا بإثبات ثلاثة آلهة .

وإن قالوا : بل جوهر واحد له ثلاث صفات ، فقد صرحوا أن هذا الجوهر تقوم به الصفات ، وإذا قامت به الصفات - وقد سموه جوهرا - وقالوا : " كل موجود إما جوهر وإما عرض " لزمهم قطعا أن تكون صفاته [ ص: 54 ] أعراضا فبطل قولهم : " إنه جوهر لا يقوم به الأعراض " وإن قالوا : جوهر واحد لا تقوم به الصفات . بطل قولهم : " له حياة ونطق " وإذا نفوا الصفات ؛ أبطلوا التثليث والاتحاد وبطلت الأمانة ، مع مخالفتهم لكتب الأنبياء ، فإنها مصرحة بإثبات الصفات ، ومع مخالفتهم لصريح العقل .

والمقصود أنهم يتناقضون تناقضا بينا ؛ لأنهم أثبتوا جوهرا لا تقوم به الأعراض مع قولهم : " الموجود إما جوهر وإما عرض " ومع قولهم : " إنه جوهر ثلاثة أقانيم " فإذا لم تقم به الأعراض ، لم يكن له صفات ، فإن الصفة قائمة بغيرها ليست جوهرا ، بل هي - إذا كان الموجود إما جوهر وإما عرض - من قسم الأعراض ، لا من قسم الجواهر ، فكان هذا الكلام نافيا لقيام الصفات به مطلقا .

ثم قالوا بالأقانيم التي توجب إما إثبات صفات ، وإما إثبات جواهر ثلاثة قائمة بنفسها ، مع أنها إذا قامت بنفسها لزم اتصافها بالصفات . ولا ريب أن القوم يجمعون في قولهم بين النقيضين ، بين إثبات الصفات ونفيها ، وبين إثبات ثلاثة جواهر ثلاثة آلهة ، وبين قولهم الإله الواحد .

وسبب ذلك : أنهم ركبوا لهم اعتقادا ، بعضه من نصوص الأنبياء المحكمة ، كقولهم : " إله واحد " وبعضه من متشابه كلامهم ، كلفظ [ ص: 55 ] ( الابن ) و ( روح القدس ) وبعضه من كلام الفلاسفة المشركين المعطلين ، كقولهم : " جوهر لا تقوم به الصفات " .

ومما يوضح ذلك أنك تجد عامة علماء النصارى - فضلا عن عامتهم - لا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره ، مع اتفاقهم على أن المسيح لم ينسخها كلها ، ولم يقرها كلها ، بل أخبرهم أنه إنما جاء ليتمها لا ليبطلها ، وقد أحل بعض ما حرم فيها ، كالعمل في السبت .

ومعلوم أن المقصود بالرسل تصديقهم فيما أخبروا ، وطاعتهم فيما أمروا ، فإذا كان عامة النصارى لا يميزون ما أمرهم به مما لم يأمرهم به ، ولا ما نهاهم عنه مما لم ينههم عنه - مع اعترافهم بأنه أقر كثيرا من شريعة التوراة ، بل أكثرها وأحل بعضها فنسخه ورفعه ، وهم لا يعرفون هذا من هذا ، لم يكونوا عارفين بما جاء به المسيح ، ولا يعرفون ما أمرهم الله على لسان موسى وسائر الأنبياء - فإنهم لا يجوز لهم العمل بكل ما في التوراة ، بل قد نسخ المسيح بعض ذلك باتفاقهم واتفاق المسلمين على ذلك .

ولا يجوز لهم تعطيل جميع شريعة التوراة ، بل يجب عليهم العمل بما لم ينسخه المسيح ، وعامتهم لا يعرفون ما نسخه مما [ ص: 56 ] لم ينسخه ، فلا يمكنهم العمل بالتوراة والانتفاع بها في الشرع ، حتى يعرفوا المنسوخ منها من غير المنسوخ .

وعامتهم لا يعرفون ذلك ، فلم يكونوا حينئذ على شريعة منزلة من الله ، لا من جهة المسيح ، ولا من جهة موسى فلم يعلموها ، بل كان ذلك مجهولا عند عامتهم وجمهورهم أو جميعهم ، فكانوا محتاجين إلى أن يعرفوا ما شرعه الله مما لم يشرعه ؛ فأرسل الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بشرع أمر فيه بمحاسن ما في الكتابين ، وعوض عما نسخه بما هو خير منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية