ولا قسم الموجودات إلى واجب قديم وممكن قديم ، بل ذلك فعل المتأخرين ؛ وأمثاله ، وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع . كابن سينا
والمتأخرون الذين سمعوا كلام أهل الملل أرادوا إصلاح كلامه وتقريبه إلى العقول ، لعله يوافق ما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول . فتكلم عليه ثابت بن قرة وبين أن الفلك لا قوام له إلا بطبيعته ولا قوام لطبيعته إلا بحركته ، ولا قوام لحركته الإرادية إلا بمحرك لها .
وزعموا أن المحرك يجب أن لا يكون متحركا ، وقرروا ذلك بأدلة [ ص: 31 ] فاسدة ، قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع ؛ فقالوا : إنه إنما تحرك الفلك من جهة نسبة الفلك به ، وإن لم يكن هو القادر على تحريك الفلك ، بل ولا شعور منه بالفلك . وعبر عن ذلك الفيلسوف وأمثاله ؛ فقالوا : إنه يأمر الفلك بالحركة وقوام الفلك بطاعته لأمر الله . مع أنه عندهم لا إرادة له ولا علم له بما يأمر به ، بل كونه آمرا وهو معنى كون الفلك يتشبه به ، كما يأمر المعشوق عاشقه أن يحبه ، وإن كان المعشوق لا شعور له ولا إرادة في أن يحبه ذلك . ابن رشد
ثم لو قدر أنه هو الآمر ؛ فإنما يصدر بسبب أمره ، مجرد حركة الفلك ؛ ولهذا شبهوا ذلك بأمر السلطان لعسكره بأمر يطيعونه فيه ، فجعلوا الحركات معلولة بهذا الاعتبار ، لم يثبتوا أنه أبدع شيئا من الأفلاك والعناصر والمولدات ولا العقول ولا النفوس ، لا أبدع أعيانها ولا صفاتها ، ولا أفعالها ، بل غايته أن يكون آمرا لها بالحركة ؛ كأمر الملك لعسكره ، مع أنه عندهم ليس آمرا بالحقيقة ، بل ولا علم له بشيء من الموجودات ، بل غاية ما يزعم أرسطو وأتباعه أن للفلك حاجة إليه من جهة تشبهه به ، وأما كونه هو علية موجبة للفلك ، فإنما يقول هذا من يقوله من متأخريهم . كابن سينا
وأما فهو الذي وسع القول في هذا الباب ، [ ص: 32 ] وقسم الوجود إلى واجب وممكن ، وجعل الأفلاك ممكنة واجبة به ، وفي ذلك من الفساد والاضطراب ما قد بسط في غير هذا الموضع . وبنى الفارابي ؛ الكلام في نفي صفاته على كونه واجب الوجود . ابن سينا
وأما في كتاب " آراء المدينة الفاضلة " وغير ذلك فاعتمد على كونه أول ، وكذا الفارابي أرسطو في كتاب " أثولوجيا " اعتمد على كونه هو الأول ، وشبهه بالأول في العدد ، وعلى ذلك بنوا نفي [ ص: 33 ] الصفات ، وإنما لو أثبتناها لخرج عن كونه أول ، مع أنهم لم يقيموا حجة على كونه أول بهذا المعنى الذي زعموه ، كما لم يقيموا حجة على كونه واجب الوجود بالمعنى الذي ادعوه ، بل تكلموا بألفاظ مجملة متشابهة ، تحتمل حقا وباطلا ؛ فإنه معلوم أن الله واجب الوجود بذاته موجود بنفسه ، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء ، وهو القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال ، وهؤلاء جعلوا وجوب الوجود بمعنى أنه لا يتعلق بغيره فلا يكون له صفة . وكونه أول بمعنى أول الأعداد الذي لا تعدد فيه ، فمعلوم أن الواحد والأول المجرد عن كل شيء إنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان .
فالذهن يقدر واحدا واثنين وثلاثة وأربعة ، إلى سائر الأعداد المجردة ، والعدد المجرد عن المعدود إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان ، فأما الموجود في الخارج فإنما هي أعيان قائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها والأول منها هو ذات متصفة بصفاتها لا توجد في الأعيان ، ليس بذات قائمة بنفسها ، ولا صفة قائمة بغيرها ، بل [ ص: 34 ] لا توجد ذات مجردة عن صفاتها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، ولكن نبهنا هنا عليها لأن هؤلاء القوم قالوا إنا نعجب من هؤلاء القوم أنهم ذو فضل وأدب ومعرفة ، ومن هذا صورته وقد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق ، فما حقهم ينكرون علينا هذا .
فكل كلام هؤلاء النصارى يتضمن تعظيم الفلاسفة وأهل المنطق ، وأن من قرأ كتبهم عرف بها من الحق في الإلهيات ما لا يعرفه سائر أهل الملل ، وهذا يدل على جهل هؤلاء النصارى بما جاءت به الرسل ، وبما يعرف بالعقل المحض .
أما الأول : فلأن المسيح وأتباعه كالحواريين ومن اتبعهم ليس [ ص: 35 ] فيهم من عظم هؤلاء الفلاسفة ، ولا استعان بهم ، ولا التفت إليهم ، بل وهم عندهم من أئمة الكفر ورءوس الضلال ، وكذلك موسى وأتباعه ، وكذلك محمد وأتباعه ، فليس في رسل الله وأنبيائه ولا في أتباعهم من يعظمهم ولا يستعين بكلامهم ، بل الرسل وأتباعهم متفقون على تضليلهم وتجهيلهم .
وأما العقليات : فإنما يعظم كلام هؤلاء الفلاسفة في العلوم الكلية والإلهية من هو من أجهل الناس بالمعارف الإلهية والعلوم الكلية ؛ إذ كان كلامهم في ذلك ، فيه من الجهل والضلال ما لا يحيط به إلا ذو الجلال ، وإنما كان القوم يعرفون ما يعرفونه من الطبيعيات والرياضيات كالهندسة وبعض الهيئة وشيئا من علوم الأخلاق والسياسات المدنية والمنزلية التي هي جزء مما جاءت به الرسل ، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم من هؤلاء بالعلوم الإلهية والأخلاق والسياسات ، فضلا عما وراء ذلك .
فاعتضاد هؤلاء النصارى هؤلاء المتفلسفة يدل على عظيم جهلهم بالشرعيات والعقليات ، وهذا قد بسط الكلام عليه في مواضع متعددة ؛ إذ كان الرد على الفلاسفة لا يختص به النصارى ، بل الكلام في ذلك معهم ومع من يعظمهم من أهل الملل عموما .
[ ص: 36 ] ومعلوم أن المنتسبين إلى الإسلام من أتباع الفلاسفة ؛ كالفارابي وابن سينا المقتول ، والسهروردي إمامهم ، أحذق بهم وأعلم من وابن رشد الحفيد النصارى .
وكتب الفلاسفة التي صارت إلى الإسلام ، من الطب والحساب والمنطق وغير ذلك ، هذبها المنتسبون إلى الإسلام فجاء كلامهم فيها خيرا من كلام أولئك اليونان .
والنصارى واليهود إنما يعتمدون في هذه العلوم على ما وصفه هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام ، مع أن هؤلاء عند علماء المسلمين جهال [ ص: 37 ] ضلال في الإلهيات والكليات ، فكيف يكون سلفهم ومن يعظمهم من اليهود والنصارى ؟ .
ولما صار أولئك اليونان عارفين بالله ، موحدين له ، عابدين له ، مؤمنين بملائكته وكتبه ورسله ، لما دخل إليهم أتباع المسيح يدعونهم إلى دين الله الذي بعث به المسيح . وكل من كان من أتباع المسيح - غير مبدل لشيء من دينه قبل النسخ - فإنه من المؤمنين المهتدين ، وهم من أولياء الله وهم من أهل الجنة .
ومن ظن أن كلام الرسل يوافق هؤلاء اليونان ؛ فإن ذلك يدل على جهله بما جاءت به الرسل وبما يقول هؤلاء . وإنما يوجد مثل هذا في كلام الملاحدة من أهل الملل ؛ ملاحدة اليهود والنصارى وغيرهم ؛ كأصحاب رسائل إخوان الصفا ، وأمثالهم من الملاحدة المنتسبين إلى [ ص: 38 ] تشيع أو إلى تصوف كابن عربي [ ص: 39 ] وابن سبعين وأمثالهما . وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها ونحو ذلك من الكلام المنسوب إلى أبي حامد قطعة من ذلك .
وهؤلاء يحتجون بالحديث المأثور . " أول ما خلق الله العقل فقال له : أقبل . فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك ، فبك آخذ وبك أعطي ، وبك الثواب وعليك العقاب "
[ ص: 40 ] وهذا الحديث كذب موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر ذلك أهل العلم بالحديث ؛ كأبي جعفر العقيلي ، [ ص: 41 ] وأبي حاتم بن حبان البستي ، وأبي الحسن الدارقطني ، وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم .
ثم لفظه لو كان صحيحا حجة على نقيض مطلوبهم ، فإنه قال : " أول ما خلق الله العقل " بنصب " أول " ، وفي لفظ " لما خلق الله العقل قال له " .
فلفظه يقتضي أنه خاطبه في أول ما خلقه ، فحرفوا لفظه وقالوا : أول ما خلق الله العقل بالضم ، وليس هذا لفظه ، ولكن لفظه يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ؛ ولهذا قال : " " ، وهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره . ما خلقت خلقا أكرم علي منك
وعندهم هو أول المبدعات ، يمتنع أن يتقدمه شيء ، مع أنه وسائر العقول والأفلاك - عندهم - قديمة أزلية لم تزل ولا تزال .
[ ص: 42 ] ثم قال : " " فجعل به هذه الأنواع الأربعة . فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب
وعندهم أن العقل صدر عنه جميع العالم العلوي والسفلي ؛ وذلك أن لفظ ( العقل ) في الحديث سواء كان صحيحا أو ضعيفا ، هو العقل في لغة الأنبياء والمرسلين ، هو عقل الإنسان ، وهو عرض قائم به ، وهذه صفة قائمة بالإنسان ، ليس هو جوهرا قائما بنفسه .
الفلاسفة هو جوهر قائم بنفسه . وأما النفس الفلكية ، فلهم فيها قولان : قيل : إنها عرض قائم بالفلك ، وهو قول أكثرهم . وقيل : بل جوهر قائم بنفسه ، ولهذا يميل والعقل في لغة هؤلاء ابن سيناء ، وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر .
والمقصود هنا ذكر هؤلاء النصارى أن ثم جوهرا لطيفا ، غير الجوهر الكثيف ، ومثلوا ذلك بالنفس والعقل والضوء ، ثم لم يقيموا على ثبوت شيء من ذلك دليلا ، ولا دليل مما دلت عليه الكتب الإلهية ، فإن النفس الفلكية والعقول العشرة لم ينطق بها كتاب [ ص: 43 ] ولا رسول ، بل ولا دل عليها دليل عقلي ، وأدلة المتفلسفة عليها ضعيفة . وإنما دل العقل على ما أخبرت به الرسل من الملائكة .
ولكن هؤلاء الذين حملوا كلام الرسل على ما يوافق قول المتفلسفة يجعلون اللوح المحفوظ ، هو النفس الفلكية ، كما يجعلون العقل والقلم هو العقل الأول والعرش هو الفلك التاسع ، وغير ذلك مما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر .
وإذ لم يقيموا حجة شرعية ولا عقلية على ما مثلوا به من الجواهر اللطيفة لم يكن لهم حجة على من قال : إن الجوهر ما يشغل حيزا ويقبل عرضا . ولما قرنوا النفس بالعقل ، كان ذلك ظاهرا في أنهم أرادوا النفس الفلكية .
فأما إن أرادوا النفس الإنسانية فهذه ثابتة ، أخبرت بها الرسل وأتباعهم ، كما قد بسط في موضعه . لكن هذه لا تقرن بالعقل الذي هو جوهر . والعقل صفة هذه وهو مصدر عقل يعقل عقلا . وقد يراد بالعقل غريزة قائمة بها ، ويراد بالعقل العمل بالعلم كما قد بسط في موضع آخر .
الوجه الرابع : قولهم : " وجوهر الضوء " فيقال لهم : إن أردتم بالضوء نفس الشمس والنار فهذا جسم متحيز ؛ يشغل حيزا ، ويقبل عرضا ، ليس هو من الجواهر اللطيفة الذي مثلتم بها وإن أردتم [ ص: 44 ] بالضوء الشعاع القائم بالهواء والجدران ونحو ذلك ، فليس هذا بجوهر ، لا لطيف ولا كثيف ، بل هو عرض قائم بغيره .
الوجه الخامس : قولكم : " إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا " كلام ممنوع ، وهو باطل أيضا . فإن نفس الإنسان تقبل الأعراض القائمة بها ، وكذلك النفس الفلكية - عند من أثبتها - تقوم بها إرادات وتصورات متجددة . ولفظ " العرض " في اصطلاح النظار يراد به ما قام بغيره سواء كان صفة لازمة أو عارضة ، وهذا موجب تقسيم النصارى ، كما هو قول الفلاسفة .
فإنهم قالوا : ليس في الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض ؛ لأنه أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه ، غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، وهو الجوهر ، وإما مفتقر في وجوده إلى غيره ، لا قوام له بنفسه وهو " العرض " قالوا : " ولا يمكن أن يكون لهذين قسم ثالث " .
وهذا الذي قالوه هو تقسيم أرسطو وأتباعه ، وهو يسمي المبدأ الأول جوهرا وهذا تقسيم سائر النظار . لكن أكثرهم لا يدخلون رب العالمين في مسمى الجوهر ، ومنهم من يدخله فيه ، وبعض النزاع في ذلك لفظي .
وإذا كان الأمر على ما قالوه ؛ فالضوء القائم بالأرض والهواء عرض ليس جوهرا قائما بنفسه ، وهم قد جعلوه جوهرا ، وهذا تناقض بين . وأيضا فالجواهر اللطيفة تقوم بها الأعراض ؛ كالحياة والعلم ، بل والرب - على قولهم - تقوم به الحياة والعلم .
[ ص: 45 ] فإذا سموه جوهرا ، لزمهم أن يسموا صفاته أعراضا ، إذا قالوا : لا موجود إلا جوهر أو عرض .
فهذا يناقض قولهم : " الموجود إما جوهر وإما عرض ، فليس في الموجودات إلا هذا أو هذا " بل موجب كلامهم أنها قائمة بذات الله ، فكيف بذات غيره ؟ .
وإذا قالوا : " ويعنى بالأعراض ، الصفات العارضة أو القائمة بالأجسام " كان هذا مناقضا لقولهم : " الموجود إما جوهر وإما عرض " مع قولهم : " إن الرب جوهر ثلاثة أقانيم ، والأقنوم ذات وصفة " ومع قولهم : " إن الرب جوهر " فقولهم يقتضي أن الرب جوهر تقوم به الأعراض ، فكيف غيره .
ثم يقال : إذا قدر أنهم يدعون ثبوت جوهر لا يقوم به الأعراض ، فهذا اصطلاح لهم وافقوا فيه نفاة الصفات من الفلاسفة كأرسطو وذويه ، فإنهم يقولون : إن الرب جوهر لا يتصف بشيء من [ ص: 46 ] الصفات الثبوتية ، لكن ليس هذا قول النصارى ، فتبين أنهم في قولهم : " إن الرب جوهر " وفي قولهم : " إن من الجواهر ما لا يقوم به الصفات " موافقون للمشركين الفلاسفة ، أرسطو وأتباعه ، لا موافقين للمسيح والحواريين ، وأنهم أثبتوا الصفات لله موافقة للمسيح والحواريين ثم جعلوه جوهرا ، ثم قالوا : " إن الجوهر اللطيف لا تقوم به الصفات " وهذا قول الفلاسفة المشركين المعطلين ، وهذا تحقيق ما ذكرناه عنهم من أنهم ركبوا دينا من دين المسيح والحواريين ومن دين الكفار المشركين .
فهؤلاء إن عنوا بالعرض هذا فكل جوهر يقبل الصفات ، وإن أرادوا بالعرض ما تعنيه المتفلسفة بالصفات العرضية التي يفرقون بينها وبين الذاتية - مع أن هذا ليس مقتضى كلامهم - فقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن تقسيم هؤلاء الصفات اللازمة للموصوف إلى ذاتية وعرضية تقسيم باطل ، وتقدير أن يكون حقا ، فالنفس - أيضا - تقبل الصفات العرضية ، بل وكذلك كل جوهر سواء كان لطيفا أو كثيفا . فقولكم : " إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا ؛ مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة ، كلام باطل على كل تقدير .
[ ص: 47 ] وإن عنوا بلفظ العرض شيئا آخر ، لم ينفعهم ذلك ، فإن المتكلمين الذين قالوا : " الجوهر هو ما يشغل حيزا ويقبل عرضا " إنما أرادوا بالعرض ما يقوم بغيره من المعاني ، سواء كان لازما له أو عارضا له ، ومعلوم أن كل جوهر فإنه يقوم به المعاني . والخالق - تعالى - عندهم يقوم به الحياء والعلم ، فإذا كان الخالق - تعالى - يقوم به المعاني - وهم يسمونه جوهرا - فكيف لا تقوم المعاني بغيره .
وهؤلاء يثبتون جوهرا لطيفا لا تقوم به الأعراض ، مع قولهم : " إنه تقوم به المعاني " وهذا اصطلاح لهم لا يوافقهم عليه أحد . ثم يتناقضون فيقولون : " الموجود إما جوهر وإما عرض " وهذا تناقض .
ونظار المسلمين لهم في تسمية صفات الله القائمة به أعراضا نزاع : بعضهم يسميها أعراضا ، وبعضهم ينكر هذه التسمية ، مع اتفاق هاتين الطائفتين على قيام الصفات به . وجمهور نظار المسلمين [ ص: 48 ] لا يسمونه جوهرا ، وبعضهم يسميه جوهرا ، وأما من أنكر قيام الصفات به فذاك لا يسمي الله جوهرا ولا جسما .
وهؤلاء النصارى متناقضون تناقضا بينا ، ولهذا كان لهم طريقة لا يوافقهم عليها أحد من طوائف العقلاء ، ذلك يظهر : .
بالوجه السادس : وهو أن الناس لهم في إثبات - قولان : فسلف المسلمين وأئمتهم وجمهور الخلق من أهل الملل وغير أهل الملل ، الصفات القائمة بذات الله - تعالى . وهل تسمى أعراضا ؟ على قولين : والقول الثاني : قول من ينفي الصفات ، مثل الملاحدة يثبتون قيام الصفات بالله ، تبارك وتعالى الجهمية ونحوهم ، من مبتدعة المسلمين ، ومن وافقهم من الفلاسفة ، وبعض اليهود والنصارى ، فهؤلاء لا تقوم به المعاني والصفات عندهم ، فلا يقولون : تقوم به الأعراض . ثم كأرسطو وأتباعه ، ومنهم من لا يسميه جوهرا ، كمتأخري من هؤلاء من يسميه جوهرا الفلاسفة : [ ص: 49 ] وأمثاله ، مع جمهور نظار المسلمين وغيرهم ، سواء سموه جوهرا أو لم يسموه . ابن سينا
وأما الجمهور القائلون بقيام المعاني به ؛ فبعضهم يسميها أعراضا وإن لم يسمه جوهرا . وقد سماه بعضهم جوهرا ، وبعضهم ينفي أن يكون أعراضا ، وبعضهم يسكت عن النفي والإثبات ، فلا يسميها أعراضا ولا ينفي تسميتها بذلك ، أو يستفصل القائل عن كونها أعراضا .
وأما هؤلاء النصارى فقالوا : " جوهر ثلاثة أقانيم " ووصفوه بالصفات الثبوتية ؛ وهي الحياة والنطق ، وقالوا : " الموجود إما جوهر وإما عرض " فلزمهم أن تكون صفات الله أعراضا عندهم ، ثم قالوا : " الجوهر اللطيف لا يقوم به الأعراض " ونزهوا الرب أن تقوم به الأعراض ، مع قولهم : " إنه جوهر " تناقضوا تناقضا بينا ، حيث جمعوا بين كلام الرسل وأتباعهم وبين كلام المشركين [ ص: 50 ] المعطلين الفلاسفة . فما تلقوه عن المسيح فهو حق ، وما ابتدعوه من قول من خالف الرسل فهو باطل . فجمعوا في قولهم بين الحق والباطل ، وسلكوا مسلكا لا يعرف عن غيرهم ، وإيضاح هذا أن يقال في :
الوجه السابع : أن هذا الذي ذكروه تناقض بين ؛ فإنهم قالوا : الموجود إما جوهر وإما عرض : " القائم بذاته هو الجوهر ، والقائم بغيره هو العرض " .
ثم قالوا : " إنه موجود حي ناطق ، له حياة ونطق " . فيقال لهم : حياته ونطقه ؛ إما جوهر وإما عرض ، وليس جوهرا ؛ لأن الجوهر ما قام بنفسه ، والحياة والنطق لا يقومان بنفسيهما ، بل بغيرهما ، فهما من الأعراض ، فتعين أنه عندهم جوهر يقوم به الأعراض ، مع قولهم : " إنه جوهر لا يقبل عرضا " .
[ ص: 51 ] فإن قيل : أرادوا بقولهم : " لا يقبل عرضا " ما كان حادثا ؛ قيل : فهذا ينقض تقسيمهم الموجود إلى جوهر وعرض ، فإن المعنى القديم الذي يقوم به ليس جوهرا وليس حادثا . فإن كان عرضا ؛ فقد قام به العرض وقبله ، وإن لم يكن عرضا ؛ بطل التقسيم .
يبين هذا أنه يقال : أنتم قلتم : " إنه شيء حي ناطق " وقلتم : " هو ثلاثة أقانيم " وقلتم : " المتحد بالمسيح أقنوم الكلمة " وقلتم في الأمانة : " نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور ، إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر " .
ثم قلتم : " إن الرب جوهر " وقلتم : " إن الذي يشغل حيزا [ ص: 52 ] أو يقبل عرضا هو الجوهر الكثيف ؛ فأما الجوهر اللطيف فلا يقبل عرضا ولا يشغل حيزا ؛ مثل جوهر النفس وجوهر العقل ، وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة . فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا ولا تشغل حيزا ؛ فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا كلا " فصرحتم بأنه جوهر لا يقبل عرضا ، وقلتم : " ليس في الموجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض ؛ فإن كان قائما بنفسه غير محتاج في وجوده إلى غيره فهو الجوهر ، وإن كان مفتقرا في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه فهو العرض " .
فيقال لكم : الابن القديم الأزلي المولود من جوهر أبيه - الذي هو مولود غير مخلوق ، الذي تجسد ونزل - جوهر قائم بنفسه أم هو عرض قائم بغيره ، والموجود عندكم : إما جوهر وإما عرض . فإن قلتم : هو جوهر ، فقد صرحتم بإثبات جوهرين : الأب جوهر ، والابن جوهر ، ويكون حينئذ أقنوم الحياة جوهرا ثالثا ، فهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر قائمة بنفسها ، وحينئذ فيبطل قولكم : " إنه إله واحد ، وإنه أحدي الذات ثلاثي الصفات ، وإنه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم " إذ كنتم قد صرحتم - على هذا التقدير - بإثبات ثلاثة جواهر .
[ ص: 53 ] وإن قلتم : بل الابن القديم الأزلي ، الذي هو الكلمة ، التي هي العلم والحكمة ، عرض قائم بجوهر الأب ، ليس هو جوهرا ثانيا ؛ فقد صرحتم بأن الرب جوهر تقوم به الأعراض ، وقد أنكرتم هذا في كلامكم ، وقلتم : " هو جوهر لا تقوم به الأعراض " وقلتم : " إن من المخلوقات جواهر لا تقوم بها الأعراض ، فالخالق أولى " وهذا تناقض بين لا حيلة فيه لمن تدبر كلامهم أوله وآخره .
فإن كلامهم هذا يوجب أنه جوهر واحد ، لا يقوم به شيء من الأعراض .
وهم يقولون : " جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم " وسواء سموها صفات أو خواص أو أعراضا ، أو قالوا : الأقنوم هو الذات والصفة . فيقال لهم : الرب مع الأقانيم : ثلاثة جواهر أو جوهر واحد له ثلاثة صفات ، أو جوهر لا صفة له . فإن قالوا : ثلاثة جواهر ، أثبتوا ثلاثة وبطل قولهم : " إن الرب جوهر واحد وإله واحد " وصرحوا بإثبات ثلاثة آلهة .
وإن قالوا : بل جوهر واحد له ثلاث صفات ، فقد صرحوا أن هذا الجوهر تقوم به الصفات ، وإذا قامت به الصفات - وقد سموه جوهرا - وقالوا : " كل موجود إما جوهر وإما عرض " لزمهم قطعا أن تكون صفاته [ ص: 54 ] أعراضا فبطل قولهم : " إنه جوهر لا يقوم به الأعراض " وإن قالوا : جوهر واحد لا تقوم به الصفات . بطل قولهم : " له حياة ونطق " وإذا نفوا الصفات ؛ أبطلوا التثليث والاتحاد وبطلت الأمانة ، مع مخالفتهم لكتب الأنبياء ، فإنها مصرحة بإثبات الصفات ، ومع مخالفتهم لصريح العقل .
والمقصود أنهم يتناقضون تناقضا بينا ؛ لأنهم أثبتوا جوهرا لا تقوم به الأعراض مع قولهم : " الموجود إما جوهر وإما عرض " ومع قولهم : " إنه جوهر ثلاثة أقانيم " فإذا لم تقم به الأعراض ، لم يكن له صفات ، فإن الصفة قائمة بغيرها ليست جوهرا ، بل هي - إذا كان الموجود إما جوهر وإما عرض - من قسم الأعراض ، لا من قسم الجواهر ، فكان هذا الكلام نافيا لقيام الصفات به مطلقا .
ثم قالوا بالأقانيم التي توجب إما إثبات صفات ، وإما إثبات جواهر ثلاثة قائمة بنفسها ، مع أنها إذا قامت بنفسها لزم اتصافها بالصفات . ولا ريب أن القوم يجمعون في قولهم بين النقيضين ، بين إثبات الصفات ونفيها ، وبين إثبات ثلاثة جواهر ثلاثة آلهة ، وبين قولهم الإله الواحد .
وسبب ذلك : أنهم ركبوا لهم اعتقادا ، بعضه من نصوص الأنبياء المحكمة ، كقولهم : " إله واحد " وبعضه من متشابه كلامهم ، كلفظ [ ص: 55 ] ( الابن ) و ( روح القدس ) وبعضه من كلام الفلاسفة المشركين المعطلين ، كقولهم : " جوهر لا تقوم به الصفات " .
ومما يوضح ذلك أنك تجد عامة علماء النصارى - فضلا عن عامتهم - لا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره ، مع اتفاقهم على أن المسيح لم ينسخها كلها ، ولم يقرها كلها ، بل أخبرهم أنه إنما جاء ليتمها لا ليبطلها ، وقد أحل بعض ما حرم فيها ، كالعمل في السبت .
ومعلوم أن المقصود بالرسل تصديقهم فيما أخبروا ، وطاعتهم فيما أمروا ، فإذا كان عامة النصارى لا يميزون ما أمرهم به مما لم يأمرهم به ، ولا ما نهاهم عنه مما لم ينههم عنه - مع اعترافهم بأنه أقر كثيرا من شريعة التوراة ، بل أكثرها وأحل بعضها فنسخه ورفعه ، وهم لا يعرفون هذا من هذا ، لم يكونوا عارفين بما جاء به المسيح ، ولا يعرفون ما أمرهم الله على لسان موسى وسائر الأنبياء - فإنهم لا يجوز لهم العمل بكل ما في التوراة ، بل قد نسخ المسيح بعض ذلك باتفاقهم واتفاق المسلمين على ذلك .
ولا يجوز لهم تعطيل جميع شريعة التوراة ، بل يجب عليهم العمل بما لم ينسخه المسيح ، وعامتهم لا يعرفون ما نسخه مما [ ص: 56 ] لم ينسخه ، فلا يمكنهم العمل بالتوراة والانتفاع بها في الشرع ، حتى يعرفوا المنسوخ منها من غير المنسوخ .
وعامتهم لا يعرفون ذلك ، فلم يكونوا حينئذ على شريعة منزلة من الله ، لا من جهة المسيح ، ولا من جهة موسى فلم يعلموها ، بل كان ذلك مجهولا عند عامتهم وجمهورهم أو جميعهم ، فكانوا محتاجين إلى أن يعرفوا ما شرعه الله مما لم يشرعه ؛ فأرسل الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بشرع أمر فيه بمحاسن ما في الكتابين ، وعوض عما نسخه بما هو خير منه .