الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 57 ] فصل

ثم قالوا : " إنا نعجب من هؤلاء القوم ، الذين مع أدبهم وما يأخذون به أنفسهم من الفضل ، كيف لم يعلموا أن الشرائع شريعتان : شريعة عدل وشريعة فضل ؛ لأنه لما كان الباري عدلا وجوادا وجب أن يظهر عدله على خلقه فأرسل موسى إلى بني إسرائيل فوضع شريعة العدل وأمرهم بفعلها إلى أن استقرت في نفوسهم ، ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال ، وجب أن يكون هو - تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه - الذي يضعه ؛ لأنه ليس شيء أكمل منه ، ولأنه جواد ؛ وجب أن يجود بأجل الموجودات وليس في الموجودات أكمل من كلمته ؛ لذلك وجب أن يجود بكلمته ، فلهذا وجب أن يجود بكلمته ، فلهذا وجب أن يتحد بذات محسوسة يظهر منها قدرته وجوده . ولما لم يكن في المخلوقات أجل من الإنسان ، اتحد بالطبيعة البشرية من السيدة الطاهرة ، من مريم البتول المصطفاة على نساء العالمين ، وبعد هذا الكمال ما تبقى شيء يوضع ؛ لأن [ ص: 58 ] جميع ما يتقدمه وما يأتي مقتضيه ، وما يأتي بعد الكمال غير محتاج إليه ؛ لأن ليس شيء يأتي بعد الكمال فيكون فاضلا ، بل دون ، أو أخذ منه . فهو فاضل لا يحتاج إليه ، وفي هذا القول نفع . والسلام على من اتبع الهدى ، وهذا مما عرفته من أن القوم الذين رأيتهم وخاطبتهم في محمد - عليه السلام - وما يحتجون به عن أنفسهم ، فإن يكن ما ذكروه صحيحا ؛ فلله الحمد . وإن كان خلاف ذلك فمولانا يكتب ذلك ، فقد جعلوني سفيرا ، والحمد لله رب العالمين " .

والجواب على هذا من وجوه ، أحدها : أن يقال : بل الشرائع ثلاثة : شريعة عدل فقط ، وشريعة فضل فقط ، وشريعة تجمع العدل والفضل ، فتوجب العدل ، وتندب إلى الفضل ، وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذي [ ص: 59 ] جمع فيه بين العدل والفضل . مع أنا لا ننكر أن يكون موسى - عليه السلام - أوجب العدل وندب إلى الفضل ، وكذلك المسيح - أيضا - أوجب العدل وندب إلى الفضل .

وأما من يقول : إن المسيح أوجب الفضل وحرم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه ، أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان ، فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين . لكن قد يقال : إن ذكر العدل في التوراة أكثر ، وذكر الفضل في الإنجيل أكثر ، والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال .

والقرآن بين أن السعداء أهل الجنة ، وهم أولياء الله نوعان : أبرار مقتصدون ، ومقربون سابقون ؛ فالدرجة الأولى تحصل بالعدل : وهي أداء الواجبات وترك المحرمات ، والثانية لا تحصل إلا بالفضل : وهو أداء الواجبات والمستحبات ، وترك المحرمات والمكروهات .

فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل ؛ كقوله - تعالى - وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة .

فهذا عدل واجب ، من خرج عنه استحق العقوبة في الدنيا والآخرة .

ثم قال : وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون .

[ ص: 60 ] فهذا فضل مستحب مندوب إليه ، من فعله أثابه الله ورفع درجته ، ومن تركه لم يعاقبه .

وقال - تعالى - : .

ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله .

فهذا عدل .

ثم قال - تعالى - : إلا أن يصدقوا .

فهذا فضل .

وقال - تعالى - : .

والجروح قصاص .

فهذا عدل .

ثم قال : .

فمن تصدق به فهو كفارة له .

فهذا فضل .

وقال - تعالى - : .

وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم .

[ ص: 61 ] فهذا عدل .

ثم قال : .

إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى .

فهذا فضل .

وقال - تعالى - : .

وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به .

فهذا عدل .

ثم قال : .

ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .

فهذا فضل .

وقال - تعالى - .

وجزاء سيئة سيئة مثلها .

فهذا عدل .

ثم قال : .

فمن عفا وأصلح فأجره على الله .

فهذا فضل .

[ ص: 62 ] وهو - سبحانه - دائما يحرم الظلم ويوجب العدل ويندب إلى الفضل ، كما في آخر سورة البقرة لما ذكر حكم الأموال . والناس فيها إما محسن وإما عادل وإما ظالم ؛ فالمحسن المتصدق ، والعادل المعاوض كالبايع ، والظالم كالمرابي .

فبدأ بالإحسان والصدقة فذكر ذلك ورغب فيه فقال : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم الآيات .

ثم ذكر تحريم الربا ، فقال :

الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

ثم لما أحل البيع ذكر المداينات ، وحكم البيع الحال والمؤجل ، وحفظ ذلك بالكتاب والشهود أو الرهن ، وختم السورة بأصول [ ص: 63 ] الإيمان من الإيمان بالكتب والرسل ، وهو - سبحانه - بعد أن افتتحها بذكر أصناف الناس ، وهم ثلاثة : إما مؤمن وإما كافر وإما منافق . فذكر نعت المؤمنين ، ثم ذكر نعت الكافرين ، ثم ذكر نعت المنافقين ، ثم مهد أصول الإيمان ؛ فأمر بعبادة الله - تعالى - وذكر آياته وآلائه . ثم قرر نبوة رسله ، ثم ذكر اليوم الآخر والوعد والوعيد ، ثم ذكر بدء العالم وخلق السماوات والأرض ، ثم خلق آدم وإسجاد الملائكة له وخروجه من الجنة ، وهبوطه إلى الأرض .

ثم بعد أن عم بالدعوة جميع الخلق ، خص أهل الكتاب فخاطبهم : خاطب اليهود أولا بني إسرائيل ، ثم النصارى ، ثم خاطب المؤمنين فقرر لهم قواعد دينه ؛ فذكر أصل ملة إبراهيم وبناءه للبيت ودعاءه لأهل مكة ، ووكد الأمر بملة إبراهيم ، ثم ذكر ما يتعلق بالبيت من اتخاذه قبلة ومن تعظيم شعائر الله التي عنده كالصفا والمروة ، ثم ذكر التوحيد والحلال والحرام والمطاعم للناس عموما ، ثم للذين آمنوا خصوصا .

ثم ذكر ما يتعلق بالقتل من القصاص وبالموت من الوصية ، ثم [ ص: 64 ] ذكر شرائع الدين ، فذكر صيام شهر رمضان ، وما يكون فيه من الاعتكاف ، ثم ذكر ما يتصل بشهر الصيام ، وهو أشهر الحج ، فذكر الحج ، وذكر حكم القتال عموما ، وخصوصا في البلد الحرام . ولما ذكر الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة ، ذكر بعد ذلك الحلال والحرام في الفروج . فذكر أحكام وطء النساء والحيض والإيلاء منهن والطلاق لهن ، واختلاعهن . وذكر حكم الأولاد وإرضاعهم ، واعتداد النساء وخطبتهن في العدة ، وطلاقهن قبل الدخول وبعده ، ثم ذكر الصلوات والمحافظة عليهن ، ثم قرر المعاد وما يدل عليه من إحياء الموتى في الدنيا مرة بعد مرة .

فتضمنت هذه السورة الواحدة جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين وأصوله وفروعه ، وافتتحها بالإيمان بالكتب والرسل ، ووسطها بالإيمان بالكتب والرسل ، وختمها بالإيمان بالكتب والرسل . فإن الإيمان بالكتب والرسل هو عمود الإيمان وقاعدته وجماعه .

وأمر فيها الخلق عموما وخصوصا ، وذكر فيها الإيمان بالخالق وآيات ربوبيته ، والإيمان بالمعاد والدار الآخرة ، والأعمال الصالحة التي أمر بها ، وأن من كان من أتباع الرسل من المؤمنين واليهود والنصارى .

[ ص: 65 ] والصابئين قائما بهذه الأصول : وهو الإيمان بالله واليوم الآخر ، والعمل الصالح فهو السعيد في الآخرة الذي له أجره عند ربه ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

بخلاف من بدل منهم الكتاب ، أو كذب بكتاب فإن هؤلاء من الكفار . فمن كان متبعا لشرع التوراة قبل مبعث المسيح ، غير مبدل له فهو من السعداء . وكذلك من كان متبعا لشرع الإنجيل قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - غير مبدل له فهو من السعداء . ومن بدل شرع التوراة أو كذب بالمسيح فهو كافر ، كاليهود بعد مبعث المسيح - عليه السلام - وكذلك من بدل شرع الإنجيل أو كذب محمدا - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر كالنصارى بعد مبعث محمد ، صلى الله عليه وسلم .

فقدماء اليهود والنصارى الذين اتبعوا الدين قبل النسخ والتبديل سعدوا ، وأما اليهود والنصارى الذين تمسكوا بشرع مبدل منسوخ وتركوا اتباع الكتب والرسول الذي أرسل إليهم وإلى غيرهم وعدلوا عن الشرع المنزل المحكم ، فهم كفار .

[ ص: 66 ] ورد دعاوى اليهود والنصارى الكاذبة ، مثل قول هؤلاء :

لن يدخل الجنة إلا من كان هودا .

وقول هؤلاء : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فقال : .

بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

وبين من كفر اليهود والنصارى ، مما عرف بهم حالهم .

لكن أكثر ما ذكر في هذه السورة : اليهود ، كما أن أكثر ما ذكر في سورة آل عمران النصارى ، فإن هذه نزلت أول مقدمه المدينة ، وكان اليهود جيرانه . وآل عمران تأخر نزولها إلى آخر الأمر ، لما قدم عليه نصارى نجران ، وفيها فرض الحج ، لما طهر الله مكة من المشركين ، فكان أكثر دعائه في أول الأمر للمشركين ؛ لأنهم جيرانه

[ ص: 67 ] بمكة ، ثم لليهود ؛ لأنهم جيرانه بالمدينة ، ثم للنصارى ؛ لأنهم كانوا أبعد عنه من ناحية الشام واليمن ، والمجوس - أيضا - لأنهم كانوا أبعد عنه بأرض العراق وخراسان .

وهذا هو الترتيب المناسب ، يدعو الأقرب إليه فالأقرب ، ثم يرسل رسله إلى الأبعد . وهو - صلى الله عليه وسلم - كان - أولا - مشغولا بجهاد المشركين واليهود . فلما صالح المشركين صلح

[ ص: 68 ] الحديبية ، وحارب يهود خيبر عقيب ذلك ، ففتحها الله عليه ، وقسمها بين الذين بايعوه تحت الشجرة : الذين شهدوا صلح الحديبية ، تفرغ لمن بعد عنه ، فأرسل رسله إلى جميع من حواليه من الأمم .

أرسل إلى ملوك النصارى بمصر والشام والحبشة ، فإنه كان [ ص: 69 ] قد مات ملك الحبشة النجاشي الذي أسلم ، وأخبر الناس بموته يوم مات ، وخرج بأصحابه إلى ظاهر المدينة فصلى عليه بهم صلاة الجنازة كما كان يصلي على سائر موتى المسلمين . وتولى بعد النجاشي آخر فأرسل إليه كما ذكره مسلم في صحيحه ، وأرسل إلى ملوك اليمن من المشركين واليهود ، وإلى ملوك العرب . وكان في العرب خلق كثير يهود ، وخلق كثير نصارى ، وخلق كثير مجوس فدعا جميع الخلق من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين ، عربهم وعجمهم .

[ ص: 70 ] الوجه الثاني : أن يقال لهم : الناس لهم في أمر الله ونهيه قولان مشهوران :

أحدهما : أنه يرجع إلى محض المشيئة ، لا يعتبر فيه أن يكون المأمور به مصلحة للخلق ، وإن اتفق أن يكون مصلحة ، وإن كان الواقع كونه مصلحة ، وهذا قول من يقول : لا يفعل ولا يحكم بسبب ولا لحكمة ولا لغرض .

والقول الثاني : - وهو قول جمهور الناس - إن الله إنما أرسل الرسل ليأمروا الناس بما يصلحهم وينفعهم إذا فعلوه ، كما قال - تعالى - :

وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

وقال - تعالى - :

فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى .

فإن قيل بالأول : لم يسأل عن حكمة إرسال الرسل ، وإن قيل بالثاني : ففي إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - من الحكم [ ص: 71 ] والمصالح أعظم مما كان في إرسال موسى والمسيح ، والذي حصل به من صلاح العباد في المعاش والمعاد أضعاف ما حصل بإرسال موسى والمسيح من جهة الأمر والخلق . فإن في شريعته من الهدى ودين الحق أكمل مما في الشريعتين المتقدمتين . وتيسير الله من اتباع الخلق له واهتدائهم به ما لم يتيسر مثله لمن قبله ، فحصل فضيلة شريعته من جهة فضلها في نفسها ، ومن جهة كثرة من قبلها وكمال قبولهم لها ، بخلاف شريعة من قبله ، فإن موسى - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى بني إسرائيل ، وكان فيهم من الرد والعناد في حياة موسى وبعد موته ما هو معروف ، وقد ذكر النصارى في كتابهم هذا من ذلك ما تقدم .

ولم تكن شريعة التوراة في الكمال مثل شريعة القرآن ، فإن القرآن [ ص: 72 ] فيه ذكر المعاد وإقامة الحجج عليه وتفصيله ، ووصف الجنة والنار ، ما لم يذكر مثله في التوراة . وفيه من ذكر قصة هود وصالح وشعيب وغيرهم من الأنبياء ، ما لم يذكر في التوراة ، وفيه من ذكر أسماء الله الحسنى وصفاته ووصف ملائكته وأصنافهم وخلق الإنس والجن ما لم يفصل مثله في التوراة ، وفيه من تقرير التوحيد بأنواع الأدلة ما لم يذكر مثله في التوراة ، وفيه من ذكر أديان أهل الأرض ما لم يذكر مثله في التوراة ، وفيه من مناظرة المخالفين وإقامة البراهين على أصول الدين ما لم يذكر مثله في التوراة ، مع أنه لم ينزل كتاب من السماء أهدى من القرآن والتوراة . وفي شريعة القرآن تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ، وشريعة التوراة فيها تحريم كثير من الطيبات عليهم ، حرمت عليهم عقوبة لهم ، وفي شريعة القرآن من قبول الدية في الدماء ما لم يشرع في التوراة ، وفيها من وضع الآصار والأغلال التي في التوراة ما يظهر به أن نعمة الله على أهل القرآن أكمل .

وأما الإنجيل ؛ فليس فيه شريعة مستقلة ، ولا فيه الكلام على التوحيد وخلق العالم وقصص الأنبياء وأممهم ، بل أحالهم على التوراة في أكثر الأمر . ولكن أحل المسيح بعض ما حرم عليهم ، وأمرهم [ ص: 73 ] بالإحسان والعفو عن الظالم واحتمال الأذى ، والزهد في الدنيا ، وضرب الأمثال لذلك .

فعامة ما امتاز به الإنجيل عن التوراة بمكارم الأخلاق المستحسنة ، والزهد المستحب ، وتحليل بعض المحرمات وهذا كله في القرآن ، وهو في القرآن أكمل ، فليس في التوراة والإنجيل والنبوات ما هو من العلوم النافعة والأعمال الصالحة إلا وهو في القرآن أو ما هو أفضل منه . وفي القرآن من العلوم النافعة والأعمال الصالحة من الهدى ودين الحق ما ليس في الكتابين . لكن النصارى لم يتبعوا لا التوراة ولا الإنجيل ، بل أحدثوا شريعة لم يبعث بها نبي من الأنبياء ، كما وضعوا لقسطنطين ( الأمانة ) ووضعوا له أربعين كتابا فيها القوانين ، فيها بعض ما جاءت به الأنبياء ، وفيها شيء كثير مخالف لشرع الأنبياء وصاروا إلى كثير من دين المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى ، وكذبوا رسله فصار في دينهم من الشرك وتغيير دين الرسل ما غيروا به شريعة الإنجيل ؛ ولهذا التبست عند عامتهم شريعة الإنجيل بغيرها ، فلا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره ولا ما شرعه مما أحدث بعده .

فالمسيح لم يأمرهم بتصوير الصور وتعظيمها ، ولا دعاء من صورت تلك التماثيل على صورته ، ولا أمر بهذا أحد من الأنبياء .

[ ص: 74 ] لا يوجد قط عن نبي أنه أمر بدعاء الملائكة والاستشفاع بهم ، ولا بدعاء الموتى من الأنبياء والصالحين والاستشفاع بهم ، فضلا عن دعاء تماثيلهم والاستشفاع بها ، فإن هذا من أصول الشرك الذي نبهت عليه الرسل ، وهذا كان أصل الشرك في بني آدم من عهد نوح - عليه السلام - .

قال الله - تعالى - عن قوم نوح :

لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا .

قال كثير من العلماء ، منهم ابن عباس وغيره : وهؤلاء كانوا قوما [ ص: 75 ] صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم عبدوهم وقد ذكر ذلك المسيح وعلماء النصارى .

والمسيح - عليه السلام - لم يأمرهم بعبادته ولا قال : إنه الله ، ولا بما ابتدعوه من التثليث والاتحاد . والمسيح لم يأمرهم باستحلال كل ما حرمه الله في التوراة من الخبائث ؛ كالخنزير وغيره ، فاستحلوا الخبائث المحرمة وغيروا شريعة التوراة والإنجيل . والمسيح لم يأمرهم بأن يصلوا إلى المشرق ولم يأمرهم أن يعظموا الصليب ، ولم [ ص: 76 ] يأمرهم بترك الختان ولا بالرهبانية ولا بسائر ما ابتدعوه بعده .

ولهذا لما ظهر فساد دين النصارى ، صار بعض الناس ، كأبي عبد الله الرازي يقول : " لم يظهر الانتفاع بدين المسيح ، إلا في طائفة قليلة كانوا قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الدين الذي كان عليه جمهور النصارى ، ليس هو دين المسيح .

وتبين هذا :

بالوجه الثالث : وهو أن يقال : هب إن شريعة الكتاب كانت كافية ، فإنما ذاك إذا كانت محفوظة معمولا بها ، ولم يكن الأمر كذلك ، بل كانت قد درس كثير من معالمها .

وقد اختلف أهل الكتاب في المسيح وغيره اختلافا عظيما كما قال تعالى :

[ ص: 77 ] ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .

وقد قال - تعالى - : كان الناس أمة واحدة .

أي فاختلفوا .

فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه .

والوقت الذي بعث الله فيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد بقي أحد مظهرا لما بعث الله به الرسل قبله .

فبعثه على حين فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، أحوج ما كان الناس إلى رسول ، كما في صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب " .

[ ص: 78 ] وكان الناس حين مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - إما أميين ، لا كتاب لهم ، يشركون بالرحمن ، ويعبدون الأوثان ، وإما أهل كتاب قد بدلوا معانيه وأحكامه وحرفوا حلاله وحرامه ولبسوا حقه بباطله ، كما هو الموجود . فلو أراد الرجل أن يميز له أهل الكتاب ما جاءت به الأنبياء مما هم عليه مما أحدثوه بعدهم ، لم يعرف جمهورهم ذلك ، بل قد صار الجميع عندهم دينا واحدا .

فبعث الله - تبارك وتعالى - محمدا بالكتاب الذي أنزله عليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا ، فميز به الحق من الباطل والهدى من الضلال والغي من الرشاد . قال - تعالى - :

ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير .

[ ص: 79 ] إلى قوله .

ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير .

الوجه الرابع : إن شريعة التوراة تغلب عليها الشدة ، وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين ، وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وهذا ، كما قال - تعالى - : وكذلك جعلناكم أمة وسطا .

وقال في وصف أمته :

محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم .

وقال - أيضا - :

فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين .

[ ص: 80 ] فوصفهم بالرحمة للمؤمنين ، والذلة لهم ، والشدة على الكفار والعزة عليهم .

وكذلك كان صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيهم ، أكمل النبيين وأفضل الرسل ؛ بحيث قال : " أنا محمد وأنا أحمد ، وأنا نبي الرحمة ، وأنا نبي الملحمة ، وأنا نبي التوبة ، وأنا الضحوك القتال " .

[ ص: 81 ] فوصف نفسه بأنه نبي الرحمة والتوبة ، وأنه نبي الملحمة ، وأنه الضحوك القتال ، وهذا أكمل ممن نعت بالشدة والبأس غالبا ، أو باللين غالبا ، وقد قيل بسبب ذلك : أن بني إسرائيل كانت نفوسهم قد ذلت لقهر فرعون لهم واستعباد فرعون لهم ، فشرعت لهم الشدة لتقوى أنفسهم ويزول عنهم ذلك الذل .

التالي السابق


الخدمات العلمية