الوجه العاشر : إن الله - سبحانه وتعالى - كانت سنته قبل إنزال [ ص: 101 ] التوراة ، إذا كذب نبي من الأنبياء ينتقم الله من أعدائه بعذاب من عنده ، كما أهلك قوم نوح بالغرق ، وقوم هود بالريح الصرصر ، وقوم صالح بالصيحة ، وقوم شعيب بالظلة ، وقوم لوط بالحاصب ، وقوم فرعون بالغرق قال تعالى :
ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون .
فلما أنزل التوراة ، أمر أهل الكتاب بالجهاد ، فمنهم من نكل ومنهم من أطاع .
وصار المقصود بالرسالة لا يحصل إلا بالعلم والقدرة كما قال تعالى :
[ ص: 102 ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .
، بل كانا متبعين علما وعملا ، وكان أهلهما مع ذلك منصورين مؤيدين على من خالفهم ، فكيف وكل منهما قد بدل كثير مما فيه ، وأهلهما غير منصورين على سائر الكفار ، بل الكفار ظاهرون عليهم في أكثر الأرض ؛ كأرض فقول هؤلاء : " إن التوراة جاءت بالعدل ، والإنجيل بالفضل فلا حاجة إلى غيرهما ، لو قدر أنه حق . إنما يستقيم إذا كان الكتابان لم يبدلا اليمن والحجاز وسائر جزيرة العرب وأرض العراق وخراسان والمغرب وأرض الهند والسند والترك ، وكان بأيدي أهل الكتاب الشام ومصر وغير ذلك ، ومع هذا فكانت الفرس قد غلبتهم على ذلك ، ، ثم إن الله أظهر النصارى عليهم ، فكان ظهورهم توطئة وتمهيدا لإظهار دين الإسلام .
فإن الفرس المجوس لما غلبوا الروم ساء ذلك النبي [ ص: 103 ] - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به ، وفرح بذلك مشركو العرب وكانوا أكثر من المؤمنين ؛ لأن أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من المجوس ، والمجوس أقرب إلى المشركين منهم إلى أهل الكتاب ، ووعد الله المؤمنين أن تغلب الروم بعد ذلك ، وأنه يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
فأضاف النصرة إلى اسم الله ، ولم يقل بنصر الله إياهم . وذلك أنه حين ظهرت الروم على فارس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد ظهروا على المشركين واليهود .
وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك يدعو ملوك النصارى بالشام ومصر إلى الإيمان به ، فعرفوه وعرفوا أنه النبي المبشر به ، وكان ذلك أول ظهور دينه ، ثم أرسل طائفة من أصحابه إلى غيرهم ، ثم خرج بالمسلمين بنفسه معهم عام تبوك إلى الشام ، ثم فتح هذه البلاد أصحابه ، فكان تأييد دين الله وظهوره وإذلال المشركين [ ص: 104 ] والمجوس وغيرهم من الكفار على يديه ويدي أمته ، لا على يد اليهود والنصارى .
فلو قدر أن شرع أولئك كامل لا تبديل فيه ، لكان مغلوبا مقهورا ، وكان الله قد أرسل من يؤيد دينه ويظهره ، فكيف وهو مبدل ؟ ولو لم يبدل فدين أحمد أكمل وأفضل منه ، فذاك مفضول مبدل ، وهذا فاضل لم يبدل ، وذلك مغلوب مقهور ، وهذا مؤيد منصور . وببعض هذا تحصل الفائدة في إرساله .
فكان من أجل الفوائد إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف يقال : إنه لا فائدة في إرساله .
الوجه الحادي عشر : قولهم : " لما كان الباري عدلا جوادا أوجب أن يظهر عدله وجوده " فيقال لهم : جود الجواد غير إلزام الناس بترك حقوقهم ، فإن الجواد هو الذي يحسن إلى الناس ليس هو الذي يلزم الناس بترك حقوقهم ، وهؤلاء يزعمون أن شريعة الإنجيل ألزمت الناس بترك حقوقهم ، وأنه لا ينصف مظلوم من ظالمه ، ولهذا ليس عندهم حكم عدل يحكمون به بين الناس ، بل الحكم عندهم حكمان : حكم الكنيسة ، وليس فيه إنصاف المظلوم من الظالم . والثاني : حكم الملوك ، وليس هو شرعا منزلا ، بل هو بحسب آراء الملوك .
ولهذا تجدهم يردون الناس إلى حكم شرع الإسلام في الدماء [ ص: 105 ] والأموال ونحو ذلك ، حتى في بعض بلادهم يكون الملك والعسكر كلهم نصارى ، وفيهم طائفة قليلة مسلمون لهم حاكم ، فيردون الناس في الدماء والأموال إلى حكم شرع المسلمين ، وذلك أن الدماء والأموال وإن كان يستحب للمظلوم أن يعفو فيها عن ظالمه ، فالحاكم الذي يحكم بين الناس ، متى حكم على المظلوم بترك حقه كان حاكما بالظلم لا بالعدل .
ولو أمرنا كل ولي مقتول أن لا يقتص من القاتل ، وكل صاحب دين أن لا يطالب غريمه ، بل يدعه على اختياره ، وكل مشتوم ومضروب أن لا ينتصف من ظالمه ، لم يكن للظالمين زاجر يزجرهم ، وظلم الأقوياء الضعفاء ، وفسدت الأرض . قال تعالى :
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض .
فلا بد من شرع يتضمن الحكم بالعدل ولا بد - مع ذلك - من ندب الناس إلى العفو والأخذ بالفضل .
وهذه شريعة الإسلام كما تقدم ما ذكرنا من الآيات مثل قوله :
والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له .
[ ص: 106 ] وقوله :
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم . : .
وقوله :
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله .
وقوله :
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .
وقوله :
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين .
وقوله :
ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا .
[ ص: 107 ] وقوله :
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .
وقال أنس : " " فكان يأمر بالعفو ، ولا يلزم الناس به ؛ ولهذا لما عتقت ( ما رفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر فيه القصاص ، إلا أمر فيه بالعفو بريرة ) ، وكان لها أن تفسخ النكاح ، وطلب زوجها أن لا تفارقه ، شفع إليها أن لا تفارقه ، فقالت : أتأمرني ؟ قال : لا إنما أنا شافع فلم يوجب عليها قبول شفاعته - صلى الله عليه وسلم - .
الوجه الثاني عشر : قولهم : " ولما كان الكمال الذي هو الفضل [ ص: 108 ] لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال " فيقال لهم : العدل والفضل لا يشرعه إلا الله ، فشريعة التوراة لم يشرعها إلا الله ، وشريعة الإنجيل لم يشرعها إلا الله - عز وجل - .
يبين ذلك موسى من الشجرة تكليما ، وهم غاية ما قرروا به إلهية أن الله كلم المسيح أن زعموا أن الله كلم الناس من ناسوت المسيح ، كما كلم موسى من الشجرة ، ومعلوم عند كل عاقل ، لو كان هذا حقا ، أن تكليمه لموسى من الشجرة أعظم تكليم كلمه الله لعباده فكيف يقال : إن شريعة العدل لم يشرعها الله عز وجل ؟ .
ثم يقال لهم : بل شريعة العدل أحق بأن تضاف إلى الله من شريعة الفضل ، فإن الأمر بالإحسان والعفو يحسنه كل أحد ، وأما معرفة العدل والحكم بين الناس به ، فلا يقدر عليه إلا آحاد الناس ؛ ولهذا يوجد الذي يصلح بين الناس بالإحسان خلق كثير ، وأما الذي يحسن أن يفصل بينهم بالعدل فناس قليل ، فكيف يقال : إن الذي يأمر بشرع الفضل هو الله ، دون الذي يأمر بشرع العدل ؟ .
والله - تعالى - أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ؛ ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى :
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز .
[ ص: 109 ] وأمر المسيح - عليه السلام - للمظلوم بالعفو عن الظالم : ليس فيه ما يدل على أنه من الواجب الذي من تركه استحق الذم والعقاب ، بل هو من المرغب فيه الذي من فعله استحق المدح والثواب . وموسى - عليه السلام - أوجب العدل الذي من تركه استحق الذم والعقاب . وحينئذ فلا منافاة بين إيجاب العدل ، وبين استحباب الفضل .
لكن إيجاب العدل يقترن به الترهيب والتخويف في تركه ، واستحباب الفضل يقترن به الترغيب والتشويق إلى فعله ، فذاك فيه رهبة مع ما فيه من الرغبة . وهذا فيه رغبة بلا رهبة ؛ ولهذا قال المسيح - عليه السلام - : .
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
ولهذا قيل : إن المسيح - عليه السلام - بعث لتكميل التوراة ، فإن النوافل تكون بعد الفرائض كما في صحيح عن البخاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبي هريرة . يقول الله - تعالى - : " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل [ ص: 110 ] حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه "
وإلا فلو قيل : إن المسيح - عليه السلام - أوجب على المظلوم العفو عن الظالم ؛ بمعنى أنه يستحق الوعيد والذم والعقاب إن [ ص: 111 ] لم يعف عنه لزم من هذا أن يكون كل من انتصف من الظالم ، ظالما مستحقا للذم والعقاب ، وهذا ظلم ثان للمظلوم الذي انتصف ؛ فإن الظالم ظلمه أولا فلما انتصف منه ظلم ظلما ثانيا ، فهو ظلم العادل انتصف من ظالمه .
وما أحسن كلام الله حيث يقول : .
فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .
وقال :
ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور .
فهذا من أحسن الكلام وأعدله وأفضله حيث شرع العدل فقال :
[ ص: 112 ] وجزاء سيئة سيئة مثلها .
ثم ندب إلى الفضل ، فقال :
فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين .
ولما ندب إلى العفو ، ذكر أنه لا لوم على المنتصف ، لئلا يظن أن العفو فرض فقال :
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل .
ثم بين أن السبيل إنما يكون على الظالمين فقال :
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم .
ثم لما رفع عنهم السبيل ندبهم مع ذلك إلى الصبر والعفو فقال : .
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .
فهذا أحسن شرع وأحكمه يرغب في الصبر والغفر والعفو والإصلاح بغاية الترغيب ، ويذكر ما فيه من الفضائل والمحاسن وحميد [ ص: 113 ] العاقبة ، ويرفع عن المنتصف ممن ظلمه الملام والعذل ، ويبين أنه لا حرج عليه ولا سبيل إذا انتصر بعدما ظلم .
فهل يمكن أن تأتي شريعة بأن تجعل على المنتصف سبيلا مع عدله وهي لا تجعل على الظالم سبيلا مع ظلمه ؟ .
فعلم أن ما أمر به المسيح من العفو لم يكن لأن تاركه مستحق للذم والعقاب ، بل لأنه محروم مما يحصل للعافي المحسن من الأجر والثواب ، وهذا حق لا يناقض شرع التوراة ، فعلم أن شرع الإنجيل لم يناقض شرع التوراة ؛ إذ كان فرعا عليها ومكملا لها ، وحينئذ فزعمهم أن شرع الإنجيل شرعه الله دون شرع التوراة كلام من هو من أجهل الناس وأضلهم ولهذا كان فرعا على قولهم بالاتحاد ، وأن المسيح هو الله .
فذاك الضلال مما أوجب هذا القول المحال .