الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 160 ] فصل

ثم العلم بأن الأنبياء قبله بشروا به يعلم من وجوه . : .

أحدها : ما في الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب من ذكره .

الثاني : إخبار من وقف على تلك الكتب وغيرها من كتب أهل الكتاب - ممن أسلم ومن لم يسلم - بما وجدوه من ذكره فيها .

وهذا مثل ما تواتر عن الأنصار أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه ، وأنه رسول الله ، وأنه موجود عندهم ، وكان هذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به لما دعاهم إلى الإسلام ، حتى آمن الأنصار به وبايعوه من غير رهبة ولا رغبة .

ولهذا قيل : إن المدينة فتحت بالقرآن ، لم تفتح بالسيف كما فتح غيرها .

[ ص: 161 ]

ومثل ما تواتر عن إخبار النصارى بوجوده في كتبهم مثل إخبار هرقل ملك الروم والمقوقس ملك مصر صاحب الإسكندرية والنجاشي ملك الحبشة والذين جاءوه بمكة وقد ذكر الله ذلك في القرآن في قوله عن اليهود . : .

وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .

وقال عن النصارى :

[ ص: 162 ]

وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .

وقوله :

الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا .

وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا [ ص: 163 ] ما كانوا يقولون فيه " ، فقال معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء بن معرور ، وداود بن سلمة : " يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ونحن أهل شرك وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته " ، فقال سلام بن مشكم ، أخو بني النضير ، " ما جاءنا شيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم " .

. [ ص: 164 ]

فأنزل الله - تعالى - : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
.

وقال أبو العالية وغيره : " كانوا - يعني اليهود - إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون : اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا ، حتى نعذب المشركين ونقتلهم " فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا [ ص: 165 ] للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه الآيات .

فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .

وروى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري ، عن رجال من قومه قالوا : " ومما دعانا إلى الإسلام - مع رحمة الله وهداه - أنا كنا نسمع من رجال يهود ، كنا أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل الكتاب عندهم علم ليس عندنا ، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا : قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم ، فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - رسولا من عند الله ، أجبنا حين دعانا إلى الله ، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه ، فآمنا به وكفروا به ففينا وفيهم نزلت هؤلاء الآيات [ ص: 166 ] التي في البقرة . : .

ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .

قال : ابن إسحاق : " وحدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصاري ، قال : حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت الأنصاري ، قال : والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان سنين ، أعقل كل ما سمعت ، إذ سمعت يهوديا يقول على أطم [ ص: 167 ] يثرب ، يصرخ : " يا معشر اليهود " فلما اجتمعوا عليه قالوا : " ما لك ويلك " قال : " طلع نجم أحمد الذي يبعث الليلة " .

وروى أبو زرعة ، بإسناد صحيح ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه زيد بن حارثة ، قال : " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مردفي ثم أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار من أيام مكة ، حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقيه زيد بن عمرو بن نفيل ، فقال له رسول الله : " يا ابن عمرو ، ما لي أرى قومك قد شنفوك ؟ " .

[ ص: 168 ]

قال : " أما والله ، إن ذلك لغير ثائرة كانت مني فيهم لكن أراهم على ضلال " فخرجت أبتغي هذا الدين ، فأتيت إلى أحبار يثرب ، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به ، فقلت : ما هذا بالدين الذي أبتغي . فخرجت حتى آتي أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به ، فقلت : ما هذا بالدين الذي أبتغي ، فقال لي حبر من أحبار الشام : " إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخ بالجزيرة " . فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له ، فقال : " إن كل من رأيت في ضلالة فمن أنت " ، قلت : " أنا من أهل بيت الله ، ومن أهل الشوك والقرظ " .

فقال : " إنه قد خرج في بلدك نبي - أو : خارج - قد خرج نجمه ، فارجع فصدقه واتبعه وآمن به ، فرجعت فلم أحس شيئا بعد ، قال : [ ص: 169 ] " فأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيره ، فقدمنا إليه السفرة " قال زيد : " ما آكل شيئا ذبح لغير الله " فتفرقا ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت . قال زيد : وأنا معه ، وكان صنمان من نحاس يقال لهما : ( إساف ) و ( نائلة ) مستقبل الكعبة ، يتمسح بهما الناس إذا طافوا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تمسهما ولا تمسح بهما " .

قال زيد : فقلت في نفسي - وقد طفنا - لأمسنهما حتى أنظر ما يقول ، فمسستهما ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ألم تنهه ؟ " فلا والذي أكرمه ، ما مسستهما حتى أنزل الله عليه الكتاب
.

ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل الإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه يبعث أمة وحده .

وروى البخاري حديث خروج زيد بن عمرو قريبا من هذا [ ص: 170 ] اللفظ .

وقال : ابن إسحاق : حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمود بن لبيد ، عن سلمة بن سلامة بن وقش ، قال :

[ ص: 171 ] كان بين أبياتنا يهودي ، فخرج على نادي قومه بني عبد الأشهل ذات غداة ، فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، فقال ذلك لأصحاب وثن ، لا يرون أن بعثا كائن بعد موت ، وذلك قبل مبعث رسول الله ، فقالوا : " ويحك يا فلان - أو : ويلك - وهذا كائن ، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون من أعمالهم " ، قال : " نعم ، والذي يحلف به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه ثم تطينون علي وأني أنجو من تلك النار غدا . فقيل : يا فلان ، فما علامة ذلك ؟ قال : " نبي يبعث من ناحية هذه البلاد " وأشار إلى مكة واليمن بيده ، قالوا : " فمتى تراه ؟ " فرمى بطرفه فرآني وأنا [ ص: 172 ] مضطجع بفناء باب أهلي وأنا أحدث القوم ، فقال : " إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه " فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله ، وإنه لحي بين أظهرهم ، فآمنا به وصدقناه ، وكفر به بغيا وحسدا ، فقلنا له : يا فلان ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا ؟ قال : ليس به .

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي ، فمرض فأتاه رسول الله يعوده ، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة ، فقال له رسول الله يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة صفتي ومخرجي ؟ قال : لا ، قال الفتى : " بلى والله يا رسول الله إنا نجد في التوراة نعتك ومخرجك ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم - أقيموا هذا من عند [ ص: 173 ] رأسه ، ولوا أخاكم رواه البيهقي بإسناد صحيح . وقال : ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن شيخ من بني قريظة ، قال : هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابني [ ص: 174 ] سعية ، وأسد بن عبيد ، نفر من هدل ، لم يكونوا من بني قريظة وبني النضير ، كانوا فوق ذلك ، فقلت : لا ، قال : فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود ، يقال له : ابن الهيبان ، فأقام عندنا ، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه ، فقدم علينا قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنين ، وكنا إذا أقحطنا وقل علينا المطر ، نقول : يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا ، فيقول : لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة ، فنقول كم ؟ فيقول صاعا من تمر أو مدين من شعير ، فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه [ ص: 175 ] فنستقي ، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب . قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة ، فحضرته الوفاة واجتمعوا إليه ، فقال : يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ قالوا : أنت أعلم ، قال : " فإنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه ، هذه البلاد مهاجره ، فاتبعوه ولا تستبقن إليه إذا خرج ، يا معشر يهود ، فإنه يبعث بسفك الدماء ، وبسبي الذراري والنساء ممن يخالفه ، ولا يمنعنكم ذلك منه " ثم مات ، فلما كان الليلة التي فتحت فيها قريظة ، قال أولئك الثلاثة الفتية - وكانوا شبانا أحداثا - : يا معشر يهود والله إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان ، فقالوا : ما هو به ، قالوا : " بلى والله إنه لصفته " ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأولادهم [ ص: 176 ] وأهاليهم . قال ابن إسحاق : فلما فتح الحصن رد ذلك عليهم .

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب ، لما حدثه عن هرقل - وقد تقدم حديثه في أول الكتاب - وذكر فيه أن هرقل لما سأله عن صفات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن يكن ما تقول حقا ، إنه نبي ، قد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه .

وزاد البخاري في حديثه ، وقال ابن الناطور : وكان هرقل . [ ص: 177 ] حزاء ينظر في النجوم ، فنظر فقال : إن ملك الختان قد ظهر ، فمن يختتن من هذه الأمة ؟ قال : تختتن اليهود ، فلا يهمنك شأنهم ، وابعث إلى من في مملكتك من اليهود فيقتلوهم . ثم وجد إنسانا من العرب فقال : انظروا أمختتن هو ؟ فنظروا فإذا هو مختتن ، وسأله عن العرب ، فقال : يختتنون . وقال فيه : وكان برومية صاحب له كان هرقل نظيره في العلم ، فأرسل إليه ، وصار إلى حمص ، فلم يرم من حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأيه على خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي .

وكذلك النجاشي ملك الحبشة ، لما هاجر الصحابة إليه ، لما آذاهم المشركون وخافوا أن يفتنوهم عن دينهم ، وقرءوا عليه القرآن ، قال : فأخذ عودا بين أصبعيه ، فقال : ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود ، فتناخرت بطارقته ، فقال : وإن نخرتم . اذهبوا [ ص: 178 ] فأنتم سيوم بأرضي . يعني أنتم آمنون . وقال هذا لأن قريشا أرسلوا هدايا إليه وطلبوا منه أن يرد هؤلاء المسلمين وقالوا : " هؤلاء فارقوا ديننا وخالفوا دينك " .

وفي الصحيح ، حديث ورقة بن نوفل الذي ترويه عائشة - رضي الله عنها - في بدء الوحي ، قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة من النوم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد - إلى أن قالت - فأتت به خديجة ورقة بن نوفل ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، فقالت : اسمع من ابن أخيك فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، ليتني [ ص: 179 ] كنت جذعا أنصرك إذ يخرجك قومك ، قال : أومخرجي هم ؟ قال : لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا " ثم لم ينشب ورقة أن توفي .

[ ص: 180 ] وقال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرون رجلا - أو قريب من ذلك - وهو بمكة من النصارى حين ظهر خبره بالحبشة ، فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم . فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أرادوا ، دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله - عز وجل - وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلما قاموا من عنده اعترضهمأبو جهل في نفر من قريش ، فقالوا : خيبكم الله من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لترتادوا لهم فتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ؟ ! ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قالوا لهم - فقالوا : " سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " . ويقال : فيهم نزل قوله تعالى :

الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين
.

[ ص: 181 ] وعن محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن جبير : حدثتني جدتي أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير ، عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : سمعت أبي جبيرا يقول : لما بعث الله نبيه وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام ، فلما [ ص: 182 ] كنت ببصرى ، أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي : أمن الحرم أنت ؟ قلت : نعم ، قالوا : فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم ؟ قلت : نعم ، قال : فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور ، فقالوا لي : انظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم ؟ فنظرت فلم أر صورته ، قلت : لا أرى صورته .

فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فيه صور أكثر مما في ذلك الدير ، فقالوا لي : انظر ، هل ترى صورته ؟ فنظرت ، فإذا أنا بصفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصورته ، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته ، وهو آخذ بعقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لي : انظر هل ترى صفته ؟ قلت : نعم ، قالوا : هو هذا ؟ وأشاروا إلى [ ص: 183 ] صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : اللهم نعم . أشهد أنه هو . قالوا : أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه ؟ قلت : نعم .

قالوا : نشهد أن هذا صاحبكم ، وأن هذا الخليفة من بعده
رواه البخاري في تاريخه ، وقال فيه : قال الذي أراه الصور : لم يكن نبي إلا كان بعده نبي ، إلا هذا النبي . ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة .

وروى موسى بن عقبة أن هشام بن العاص ، ونعيم بن [ ص: 184 ] عبد الله ، ورجلا آخر ، قد سماه ، بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر ، قال : فدخلنا على جبلة بن الأيهم وهو بالغوطة فذكر الحديث .

[ ص: 185 ] وأنه انطلق بهم إلى الملك وأنهم وجدوا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة ، وإذا فيها أبواب صغار ففتح فيها بابا ، فاستخرج منه خرقة حرير سوداء ، فيها صورة بيضاء ، وذكر صفة آدم ثم فتح بابا آخر ، فاستخرج منه حريرة ، وفيها صورة نوح ثم إبراهيم ثم أراهم حريرة فيها صورة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال : هذا آخر الأبواب لكني عجلته ؛ لأنظر ما عندكم ثم فتح أبوابا أخر ، وأراهم صورة بقية الأنبياء ؛ موسى ، وهارون ، وداود ، وسليمان ، وعيسى ابن مريم - عليهم السلام - وصفة لوط ، وصفة إسحاق ، وذكر أن هذا عندهم قديما من عهد آدم ، وأن دانيال صورها بأعيانها .

وروي مثل هذا عن المغيرة بن شعبة ، أنه لما دخل على المقوقس ملك مصر والإسكندرية ملك النصارى ، أخرج له صور الأنبياء وأخرج له صورة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فعرفها .

والوجه الثالث : نفس إخباره بذلك في القرآن مرة بعد مرة ، واستشهاده بأهل الكتاب وإخباره بأنه مذكور في كتبهم ، مما يدل العاقل [ ص: 186 ] على أنه كان موجودا في كتبهم ، فإنه لا ريب عند كل من عرف حال محمد من مؤمن وكافر ، أنه كان من أعقل أهل الأرض ، فإن المكذبين له لا يشكون في أنه كان عنده من الخبرة والمعرفة والحذق ، ما أوجب أن يقيم مثل هذا الأمر العظيم ، الذي لم يحصل لأحد مثله ، لا قبله ولا بعده ، فعلم ضرورة أنه لا يفعله ولا يخبر به ، وهو من أحرص الناس على تصديقه ، وأخبرهم بالطرق التي يصدق بها ، وأبعدهم عن أن يفعل ما يعلم أنه يكذب به .

فلو لم يعلم أنه مكتوب عندهم - بل علم انتفاء ذلك - لامتنع أن يخبر بذلك مرة بعد مرة ، ويستشهد به ويظهر ذلك لموافقيه ومخالفيه ، وأوليائه وأعدائه ، فإن هذا لا يفعله إلا من هو أقل الناس عقلا ؛ لأن فيه إظهار كذبه عند من آمن به منهم ، عند من يخبرونه وهو ضد مقصوده وهو بمنزلة من يريد إقامة شهود على حقه فيأتي إلى من يعلم أنه لا يكذب ، ويعلم أنه ليس بشاهد ولا حضر قضيته ، ويقول : هذا يشهد لي ، وهذا يشهد لي فإنهم كانوا حاضرين هذه القضية ، فيقول أولئك : لسنا نشهد له ولا حضرنا هذه القضية ، فهذا لا يفعله عاقل يعلم أنهم لم يكونوا حاضرين ، وأنهم يكذبونه ، ولا يشهدون له .

الرابع : أن يقال : لما قامت الأعلام على صدقه ، فقد أخبر أنه مكتوب في الكتب المتقدمة ، وأن الأنبياء بشروا به علم أن الأمر كذلك . لكن هذا لا يذكر إلا بعد أن يقام دليل منفصل على نبوته .

[ ص: 187 ]

والطريق الأول ، هو من أظهر الحجج على أهل الكتاب ، وأظهر الأعلام على نبوته .

وقد استخرج غير واحد من العلماء من الكتب الموجودة الآن في أيدي أهل الكتاب من البشارات بنبوته مواضع متعددة ، وصنفوا في ذلك مصنفات ، وهذه البشارات في هذه الكتب من جنس البشارات بالمسيح - صلى الله عليه وسلم - .

واليهود يقرون باللفظ ، لكن يدعون أن المبشر به ليس هو المسيح عيسى ابن مريم ، وإنما هو آخر ينتظر ، وهم - في الحقيقة - لا ينتظرون إلا المسيح الدجال ، وينتظرون - أيضا - مجيء المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء ، كما بسط في موضع آخر ويحرفون دلالة اللفظ ، ويقولون : إنها لا تدل على نبي منتظر ، كما [ ص: 188 ] قالوا في قوله : " سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك يا موسى ، أنزل عليه مثل توراة موسى ، أجعل كلامي على فيه " .

قال بعضهم : ليس هذا إخبارا ، بل هذا استفهام إنكار وقدروا ألف استفهام ، وليس في النص شيء من ذلك .

فاليهود يحرفون الدلالات المبشرة بالمسيح ، وذلك عند المسلمين والنصارى لا يقدح في البشارة بالمسيح ، بل تبين دلالة النصوص عليه ، وبطلان تحريف اليهود .

وكذلك البشارات بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة ، لا يقدح فيها تحريف أهل الكتاب ، اليهود والنصارى ، بل تبين دلالة تلك النصوص على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبطلان تحريف أهل الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية