الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 197 ] فصل

ومما ينبغي أن يعرف ما قد نبهنا عليه غير مرة ، أن شهادة الكتب المتقدمة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إما شهادتها بنبوته ، وإما شهادتها بمثل ما أخبر به هو من الآيات البينات على نبوته ونبوة من قبله ، وهو حجة على أهل الكتاب وعلى غير أهل الكتاب من أصناف المشركين الملحدين ، كما قد ذكر الله هذا النوع من الآيات في غير موضع من كتابه .

كما في قوله تعالى :

أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل .

.

[ ص: 198 ] وقوله :

فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك .

وقوله : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب .

وقوله :

الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .

وقوله :

وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين .

وقوله :

إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .

[ ص: 199 ] وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية : " جاء الله من طور سينا " وبعضهم يقول : " تجلى الله من طور سينا ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران " .

قال كثير من العلماء - واللفظ لأبي محمد بن قتيبة - ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض ؛ لأن مجيء الله من طور سينا : إنزاله التوراة على موسى من طور سينا ، كالذي هو عند أهل الكتاب ، وعندنا وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على [ ص: 200 ] المسيح ، وكان المسيح من ساعير - أرض الخليل بقرية تدعى ( ناصرة ) - وباسمها يسمى من اتبعه نصارى .

وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح ، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران : إنزاله القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - وجبال فاران هي جبال مكة . قال : وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة ، فإن ادعوا أنها غير مكة ، فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم .

قلنا : أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن ( هاجر ) و ( إسماعيل ) فاران ؟ .

وقلنا : دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران ، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح أوليس ( استعلن ) و ( علن ) [ ص: 201 ] وهما بمعنى واحد ؟ وهو ما ظهر وانكشف .

فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه ؟ .

وقال ابن ظفر : ( ساعير ) جبل بالشام ، منه ظهرت نبوة المسيح . قلت : وبجانب بيت لحم ، القرية التي ولد فيها المسيح قرية تسمى إلى اليوم ساعير ولها جبل يسمى ساعير .

وفي التوراة : أن نسل العيص كانوا سكانا بساعير ، وأمر الله [ ص: 202 ] موسى أن لا يؤذيهم .

وعلى هذا ، فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقا ، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه ، ومنه كان نزول أول الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحوله من الجبال جبال كثيرة ، حتى قد قيل : إن بمكة اثني عشر ألف جبل . وذلك المكان يسمى فاران ، إلى هذا اليوم ، وفيه كان ابتداء نزول القرآن .

والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران ، ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه - بعد المسيح - نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي . فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو - سبحانه - ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني . فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن ، وهذه الكتب نور الله وهداه .

وقال في الأول : جاء ، أو : ظهر ، وفي الثاني : أشرق ، وفي الثالث : استعلن . وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر ، أو ما هو أظهر من ذلك ، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس ، زاد به النور والهدى .

[ ص: 203 ] وأما نزول القرآن ، فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء ؛ ولهذا قال : واستعلن من جبال فاران ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها ، أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين ، كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها ؛ ولهذا سماه الله سراجا منيرا ، وسمى الشمس سراجا وهاجا .

والخلق يحتاجون إلى السراج المنير ، أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج ؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت ، وكما قيل : قد ينضرون به بعض الأوقات ، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان ليلا ونهارا ، سرا وعلانية .

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها .

[ ص: 204 ]

وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله تعالى :

والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين .

فأقسم بالتين والزيتون ، وهو الأرض المقدسة الذي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث المسيح ، وأنزل عليه فيها الإنجيل ، وأقسم بطور سينين ، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة ، وأقسم بالبلد الأمين ، وهي مكة وهو البلد الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه ، وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم خلقا وأمرا قدرا وشرعا ، فإن إبراهيم حرمه ودعا لأهله فقال :

ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون .

[ ص: 205 ] وقال تعالى - :

وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير .

فأخبر الله - تعالى - أن إبراهيم دعا الله بأن يجعل مكة بلدا آمنا ، واستجاب الله دعاء إبراهيم ، وذكر ذلك في غير موضع ، وبها بنى إبراهيم البيت ، كما قال - تعالى - :

وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم .

[ ص: 206 ] وقال - تعالى - :

إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين .

وقال - تعالى - :

لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .

وقال - تعالى - :

وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون .

وقال - تعالى - :

أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون .

[ ص: 207 ] فقوله - تعالى :

والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين .

إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة ، التي ظهر فيها نوره وهداه ، وأنزل فيها الثلاثة : التوراة والإنجيل والقرآن . كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله : " جاء الله من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران " .

ولما كان ما في التوراة خبرا عنها ، أخبر بها على ترتيبها الزماني ، فقدم الأسبق فالأسبق . وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها ، وذلك تعظيم لقدرته - سبحانه - وآياته ، وكتبه ، ورسله . فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة ، فختمها بأعلى الدرجات . فأقسم أولا بالتين والزيتون ثم بطور سينا ثم بمكة لأن أشرف الكتب [ ص: 208 ] الثلاثة : القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل ، وكذلك الأنبياء ، فأقسم بها على وجه التدريج ، كما في قوله . : .

والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا .

فأقسم بطبقات المخلوقات ، طبقة بعد طبقة ، فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ثم بالجاريات يسرا ، وقد قيل : إنها السفن . ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله :

فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس .

فسماها جواري ، كما سمى الفلك جواري في قوله :

ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام .

والكواكب فوق السحاب .

[ ص: 209 ] ثم قال :

فالمقسمات أمرا .

وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله .

وما ذكر ابن قتيبة وغيره من علماء المسلمين ، من تربية إسماعيل في برية " فاران " فهكذا هو في التوراة قال فيها : ( وغدا إبراهيم ، فأخذ الغلام وأخذ خبزا وسقاء من ماء ودفعه إلى هاجر وحمله عليها ، وقال لها : اذهبي ، فانطلقت هاجر ، فضلت في برية سبع ، ونفد الماء الذي كان معها ، فطرحت الغلام تحت شجرة ، وجلست في مقابلته على مقدار رمية بسهم ؛ لئلا تبصر الغلام حين يموت ، ورفعت صوتها بالبكاء ، وسمع الله صوت الغلام فدعا ملك الله هاجر ، وقال لها : ما لك يا هاجر لا تخشي ؛ فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو ، فقومي فاحملي الغلام وشدي يدك به ، فإني جاعله لأمة عظيمة ، وفتح الله عينيها فبصرت بئر ماء فسقت الغلام وملأت سقاءها ، وكان الله مع الغلام ، فربى وسكن في برية " فاران " ) .

[ ص: 210 ] فهذا خبر الله في التوراة : أن إسماعيل ربى وسكن في برية فاران بعد أن كاد يموت من العطش ، وأن الله سقاه من بئر ماء . وقد علم بالتواتر ، واتفاق الأمم أن إسماعيل إنما ربى بمكة ، وهو وأبوه إبراهيم بنيا البيت ، فعلم أن أرض مكة ، فاران .

[ ص: 211 ] وهذه البشارة في التوراة لهاجر بإسماعيل ، وقول الله : " إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جدا جدا ، وإن هاجر فتحت عينيها فرأت بئر ماء فدنت منها " إلى آخر الكلام .

وفي موضع آخر قال عن إسماعيل : " إنه يجعل يده فوق يدي الجميع " .

ومعلوم باتفاق الأمم ، والنقل ، أن إسماعيل تربى بأرض مكة . ،

[ ص: 212 ] فعلم أنها " فاران " ، وأنه هو وإبراهيم بنيا البيت الذي ما زال محجوجا من عهد إبراهيم ، تحجه العرب وغير العرب من الأنبياء وغيرهم ، كما حج إليه موسى بن عمران ويونس بن متى ، كما في الصحيح من رواية ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بوادي الأزرق ، فقال : أي واد هذا ؟ فقالوا : هذا وادي الأزرق ، فقال : كأني أنظر إلى موسى - صلى الله عليه وسلم - هابطا من الثنية واضعا إصبعيه في أذنيه ، له جؤار إلى الله - عز وجل - بالتلبية مارا بهذا الوادي . قال : ثم سرنا حتى أتينا على ثنية ، فقال : أي ثنية هذه ؟ قالوا : هرشى ، فقال : كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته ليف خلبة ، مارا بهذا الوادي ملبيا .

[ ص: 213 ] وفي رواية أما موسى فرجل آدم ، جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة .

ولما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أوجب حجه على كل أحد ، فحجت إليه الأمم من مشارق الأرض ومغاربها . والبئر [ ص: 214 ] الذي شرب منها إسماعيل وأمه ، هي بئر زمزم ، وحديثها مذكور في صحيح البخاري ، عن ابن عباس ، قال : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا ليعفي أثرها على سارة .

ثم جاء بها إبراهيم ، وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت ، عند دوحة فوق زمزم ، في أعلى المسجد وليس بمكة .

[ ص: 215 ] يومئذ أحد وليس بها ماء ، ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفا إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل ، فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذا لا يضيعنا ، . ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات فقال : .

ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم حتى بلغ " يشكرون " .

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء وعطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ، انطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها [ ص: 216 ] ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة ، فقامت عليها ونظرت هل ترى من أحد ؟ فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات .

قال ابن عباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فلذلك سعى الناس بينهما ، فلما أشرفت المروة سمعت صوتا ، فقالت صه - تريد نفسها - فسمعت - أيضا - فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه - أو قال : بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا ، تغرف من الماء في سقائها ، وهو يفور بعدما تغرف . قال ابن عباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يرحم الله أم [ ص: 217 ] إسماعيل ، لو تركت زمزم لم تغرف من الماء لكان عينا معينا .

قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة ؛ فإن هاهنا بيت الله ، يبني هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول ، فتأخذه عن يمينه وشماله
، وذكر تمام الحديث .

[ ص: 218 ]

وكانت بئر زمزم قد عميت ثم أحياها عبد المطلب ، جد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصارت السقاية في ولده : في [ ص: 219 ] العباس ، وأولاده يسقون منها ، ويسقون - أيضا - الشراب الحلو ، والشرب من ذلك سنة .

والله - تعالى - قال في إسماعيل : " إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جدا جدا " . وهذا التعظيم المؤكد ب - ( جدا جدا ) يقتضي أن يكون تعظيما مبالغا فيه . فلو قدر أن البيت الذي بناه لا يحج إليه أحد ، وأن ذريته ليس منهم نبي ، كما يقوله كثير من أهل الكتاب ، لم يكن هناك تعظيم مبالغا فيه جدا جدا ؛ إذ أكثر ما في ذلك أن يكون له ذرية . ومجرد كون الرجل له نسل وعقب ، لا يعظم به إلا إذا كان في الذرية مؤمنون مطيعون لله .

وكذلك قوله : " أجعله لأمة عظيمة " إن كانت تلك الأمة كافرة ، لم تكن عظيمة ، بل كان يكون أبا لأمة كافرة ، فعلم أن هذه الأمة [ ص: 220 ] العظيمة كانوا مؤمنين ، وهؤلاء يحجون البيت ، فعلم أن حج البيت مما يحبه الله ويأمر به . وليس في أهل الكتاب من يحج إليه إلا المسلمون ، فعلم أنهم الذين فعلوا ما يحبه الله ويرضاه ، وأنهم وسلفهم الذين كانوا يحجون البيت أمة أثنى الله عليها وشرفها ، وأن إسماعيل عظمه الله جدا جدا ، بما جعل في ذريته من الإيمان والنبوة ، وهذا هو كما امتن الله على نوح وإبراهيم بقوله :

ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب .

وقال في الخليل :

وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب .

فعلم بذلك أن إسماعيل وذريته معظمون عند الله ممدوحون ، وأن إسماعيل معظم جدا جدا ، كما عظم الله نوحا وإبراهيم ، وإن كان إبراهيم أفضل من إسماعيل لكن المقصود أن هذا التعظيم له ولذريته إنما يكون إذا كانت ذريته على دين حق ، وهؤلاء يحجون إلى هذا البيت ، ولا يحج إليه بعد مجيء محمد غيرهم .

[ ص: 221 ]

ولهذا لما قال الله تعالى :

ولله على الناس حج البيت .

فقالوا : لا نحج ، فقال :

ومن كفر فإن الله غني عن العالمين .

و - أيضا - فهذا التعظيم المبالغ فيه ، الذي صار به ولد إسماعيل فوق الناس ، لم يظهر إلا بنبوة محمد ، فدل ذلك على أنها حق ومبشر به .

فهذا نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - لا نعت المسيح ، فهو الذي بعث بشريعة قوية ، ودق ملوك الأرض وأممها ، حتى امتلأت الأرض منه ومن أمته من مشارق الأرض ومغاربها ، وسلطانه دائم لم يقدر أحد أن يزيله ، كما زال ملك اليهود وزال ملك النصارى عن خيار الأرض وأوسطها .

ومثل هذا بشارة أخرى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من كلام " شمعون " بما رضوه من ترجمتهم ، وهو : " جاء الله بالبينات من جبال فاران ، وامتلأت السماء والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته " .

[ ص: 222 ] فهذا تصريح بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء بالنبوة من جبال " فاران " وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته .

ولم يخرج أحد قط ، وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته ، مما يسمى " فاران " سوى محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسيح لم يكن في أرض فاران ألبتة . وموسى إنما كلم من الطور ، والطور ليس من أرض فاران ، وإن كانت البرية التي بين الطور وأرض الحجاز من فاران ، فلم ينزل الله فيها التوراة ، وبشارات التوراة قد تقدمت بجبل الطور ، وبشارة الإنجيل بجبل ( ساعير ) .

ومثل هذا كما نقل في نبوة ( حبقوق ) أنه قال : جاء الله من التيمن ، وظهر القدس على جبال ( فاران ) وامتلأت الأرض من [ ص: 223 ] تحميد ( أحمد ) وملك بيمينه رقاب الأمم ، وأنارت الأرض لنوره وحملت خيله في البحر .

ومن ذلك ما في التوراة التي بأيديهم ، في السفر الأول منها ، وهي خمسة أسفار في الفصل التاسع في قصة هاجر ، لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال : " يا هاجر من أين أقبلت ؟ وإلى أين تريدين ؟ " فلما شرحت له الحال قال : ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون وها أنت تحبلين وتلدين ابنا نسميه إسماعيل ؛ لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك ، وولدك يكون وحشي الناس ، ويكون يده فوق الجميع ، ويد الكل به ، ويكون على تخوم جميع إخوته .

[ ص: 224 ] قال : المستخرجون لهذه البشارة : معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تكن فوق أيدي بني إسحاق ، بل كان في بني إسحاق النبوة والكتاب ، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب ، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد ثم خرجوا منها لما بعث موسى ، وكانوا مع موسى أعز أهل الأرض لم يكن لأحد عليهم يد ثم مع ( يوشع ) بعده إلى زمن داود ، وملك سليمان الذي لم يؤت أحد مثله وسلط عليهم بعد ذلك ( بختنصر ) فلم يكن لبني إسماعيل عليهم يد ثم بعث المسيح وخرب بيت المقدس الخراب الثاني ، حيث أفسدوا في الأرض مرتين ، ومن حينئذ زال ملكهم وقطعهم الله في الأرض أمما ، وكانوا تحت حكم الروم والفرس ، لم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم ، فلم يكن لولد إسماعيل سلطان على أحد من الأمم - لا أهل الكتاب ، ولا الأميين - فلم يكن يد ولد إسماعيل فوق الجميع ، حتى بعث الله محمدا ؛ الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل حيث قالا :

ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم .

[ ص: 225 ] فلما بعث ، صار يد ولد إسماعيل فوق الجميع ، فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم ، وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم ، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين . فظهر بذلك تحقيق قوله في التوراة " وتكون يده فوق الجميع ويد الكل به " وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر .

فإن قيل : هذه بشارة بملكه وظهوره ؟ قيل : الملك ملكان ؛ ملك ليس فيه دعوى نبوة ، وهذا لم يكن لبني إسماعيل على الجميع ، وملك صدر عن دعوى نبوة ، فإن كان مدعي النبوة كاذبا :

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء .

وهذا من شر الناس وأكذبهم وأظلمهم وأفجرهم ، وملكه شر من ملك الظالم الذي لم يدع نبوة ك - ( بختنصر ) و ( سنجاريب ) .

ومعلوم أن الإخبار بهذه لا يكون بشارة ، ولا تفرح سارة وإبراهيم بهذا ، كما لو قيل : يكون جبارا طاغيا يقهر الناس على طاعته ، ويقتلهم ويسبي حريمهم ، ويأخذ أموالهم بالباطل ، " فإن الإخبار بهذا لا يكون بشارة ولا يسر المخبر بذلك ، وإنما يكون بشارة تسره ، إذا كان ذلك يعدل ، وكان علوه محمودا لا إثم فيه ، وذلك في مدعي النبوة لا يكون إلا وهو صادق لا كاذب " .

التالي السابق


الخدمات العلمية