[ ص: 285 ] وقال : يوحنا - التلميذ - أيضا - عن المسيح ، أنه قال لتلاميذه : " إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليط آخر ، يثبت معكم إلى الأبد ، روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقتلوه ؛ لأنهم لم يعرفوه ، ولست أدعكم أيتاما ؛ لأني سآتيكم عن قريب " .
وقال يوحنا : قال المسيح : " من يحبني يحفظ كلمتي ، وأبي يحبه ، وإليه يأتي ، وعنده يتخذ المنزل ، كلمتكم بهذا ؛ لأني عندكم مقيم ، والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي ، هو يعلمكم كل شيء ، وهو يذكركم كل ما قلت لكم استودعتكم سلامي ، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع ، فإني منطلق وعائد إليكم ، لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب ، فإن أنتم ثبتم في كلامي وثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدون ، وبهذا يمجد أبي " .
وقال - أيضا - : " إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله ، روح الحق الذي من أبي ، هو يشهد لي ، قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه " .
وقال - أيضا - : " إن خيرا لكم أن أنطلق ؛ لأني إن لم أذهب [ ص: 286 ] لم يأتكم الفارقليط ، فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فهو يوبخ العالم على الخطيئة ، وإن لي كلاما كثيرا ، أريد أن أقوله ، ولكنكم لا تستطيعون حمله . لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بكل ما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب " .
وقال يوحنا الحواري : قال المسيح : " إن أركون العالم سيأتي ، وليس لي شيء " .
وقال متى التلميذ : قال المسيح : " ألم يقرءوا أن الحجر الذي أرذله البناءون صار رأسا للزاوية من عند الله ، كان هذا - وهو عجيب في أعيننا - ومن أجل ذلك أقول لكم : إن ملكوت الله سيؤخذ منكم ، ويدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرها ، ومن سقط على هذا الحجر [ ص: 287 ] ينشرح ، وكل من سقط هو عليه يمحقه " .
وقال يوحنا التلميذ - في كتاب رسائل التلاميذ ، المسمى بفراكسيس - : " يا أحبابي ، إياكم أن تؤمنوا بكل روح . لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها ، واعلموا أن كل روح يؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء فكان جسدانيا ، فهي من عند الله ، وكل روح لا تؤمن بأن يسوع المسيح جاء ، وكان جسدانيا ، فليست من عند الله ، بل من المسيح الكذاب الذي سمعتم به ، وهو الآن في العالم " .
وقال شمعون الصفا ، رئيس الحواريين - في كتاب فراكسيس - : " إنه قد حان أن يبتدئ الحكم من بيت الله ابتداء " .
قلت : وهذا اللفظ ، لفظ الفارقليط ، في لغتهم ذكروا فيه أقوالا : قيل : إنه الحماد ، وقيل : إنه الحامد ، وقيل : إنه المعز ، وقيل : إنه الحمد ، ورجح هذا طائفة ; وقالوا : الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم أنه الحمد ، والدليل عليه قول يوشع : " من عمل حسنة تكون له فارقليط [ ص: 288 ] جيدا - أي حمدا جيدا - وقولهم المشهور في تخاطبهم : فارقليط ، وفارقليطان ، وما زاد على الجميع - أي حمد - ومنه كما نقول نحن : يد ومنة . ومن قال : معناه المخلص فيحتجون بأنها كلمة سريانية ، ومعناها المخلص ، وقالوا : هو مشتق من قولنا : " راوف " ، ويقال بالسريانية " فاروق " ، فجعل " فارق " . قالوا : ومعنى " ليط " كلمة تزاد ، والتقدير كما يقال في العربية : رجل هو ، وحجر هو ، وبدر هو ، وذكر هو . قالوا : وكذلك يزاد في السريانية " ليط " . والذين قالوا : هو المعز ، قالوا : هو في لسان اليونان المعز .
ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم تكن لغته سريانية ولا يونانية ، بل عبرانية . ويجاب عنه بأنه تكلم بالعبرانية ، وترجم عنه بلغة أخرى كما أملوا أحد الأناجيل باليونانية ، والآخر بالرومية .
[ ص: 289 ] وواحد بقي عبرانيا . وأكثر النصارى على أنه المخلص ، والمسيح - نفسه - يسمونه المخلص ، وفي الإنجيل الذي بأيديهم أنه قال : " إني لم آت لأزين العالم ، بل لأخلص العالم " ، والنصارى يقولون في صلاتهم : " لقد ولدت لنا مخلصا " .
وقد اختلف فيه ، فمن النصارى من قال : هو روح نزلت على الحواريين ، وقد يقولون : إنه ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ، ففعلت الآيات والعجائب ; ولهذا يقول من خبر أحوال النصارى : إنه لم ير أحدا منهم يحسن تحقيق مجيء هذا الفارقليط الموعود به .
منهم من يزعم أنه المسيح - نفسه - لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوما ، وكونه قام من قبره . وتفسيره بالروح باطل ، وأبطل منه [ ص: 290 ] تفسيره بالمسيح لوجوه :
منها : أن روح القدس ما زالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده ، وهذا مما اتفق عليه أهل الكتاب : أن روح القدس نزلت على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده ، وليست موصوفة بهذه الصفات ، وقد قال تعالى :
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) .
لما كان يهجو المشركين ، قال : " اللهم أيده بروح القدس " ، لحسان بن ثابت وقال : وقال : النبي صلى الله عليه وسلم . " إن روح القدس معك ما زلت تنافح عن نبيه "
وإذا كان كذلك ولم يسم أحد هذه الروح فارقليط دل على أن الفارقليط أمر غير هذا . وأيضا فمثل هذه ما زالت يؤيد بها الأنبياء [ ص: 291 ] والصالحون ، وما بشر به المسيح أمر عظيم ، يأتي بعده أعظم من هذا ، وأيضا فإنه وصف الفارقليط بصفات لا تناسب هذا ، وإنما تناسب رجلا يأتي بعده نظيرا له ، فإنه قال : ( إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليط آخر ، يثبت معكم إلى الأبد ) . فقوله : ( فارقليط آخر ) دل على أنه ثان لأول كان قبله ، ولم يكن معهم في حياة المسيح إلا هو ، لم تنزل عليهم روح ، فعلم أن الذي يأتي بعده نظيرا له ، ليس أمرا معتادا يأتي للناس .
وأيضا ، فإنه قال : ( يثبت معكم إلى الأبد ) ، وهذا إنما يكون لما يدوم ، ويبقى معهم إلى آخر الدهر . ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته ، فعلم أنه بقاء شرعه وأمره ، فعلم أن الفارقليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى الأبد ، وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بخلاف الأول ، وهذا إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم .
وأيضا ، فإنه أخبر أن هذا الفارقليط الذي أخبر به يشهد له ، ويعلمهم كل شيء ، وأنه يذكركم كل ما قال المسيح ، وأنه يوبخ العالم على خطيئته فقال : ( والفارقليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل [ ص: 292 ] شيء ، وهو يذكركم كل ما قلت لكم ) .
وقال : ( إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله ، هو يشهد لي ، قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ، ولا تشكوا فيه ) .
وقال : ( إن خيرا لكم أن أنطلق ؛ لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط ، فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فهو يوبخ العالم على الخطيئة ، وإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ، ولكنكم لا تستطيعون حمله . لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنه ليس ينطق من عند نفسه ، بل يتكلم بما يسمع ، ويخبر بكل ما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب ) .
فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح ، لا تنطبق على شيء في قلب بعض الناس ، لا يراه أحد ، ولا يسمع كلامه ، وإنما تنطبق على من يراه الناس ، ويسمعون كلامه ، فيشهد للمسيح ، ويعلمهم كل شيء ، ويذكرهم كل ما قال لهم المسيح ، ويوبخ العالم على الخطيئة ، ويرشد الناس إلى جميع الحق ، وهو لا ينطق من عنده ، بل يتكلم بما يسمع ، ويخبرهم بكل ما يأتي ، ويعرفهم جميع ما لرب العالمين .
وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد ، ولا يكون هدى ، ولا علما في قلب بعض الناس ، بل لا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب الناس [ ص: 293 ] بما أخبر به المسيح ، وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا ، بل يكون أعظم من المسيح ، بين أنه يقدر على ما لا يقدر عليه المسيح ، ويعلم ما لا يعلمه المسيح ، ويخبر بكل ما يأتي ، وبما يستحقه الرب حيث قال : ( إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ، ولكنكم لا تستطيعون حمله ، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب ) .
وهذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الإخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات ، وعن ملائكته ، وعن ملكوته ، وعن ما أعده الله في الجنة لأوليائه ، وفي النار لأعدائه ، أمر لا يحتمل عقول كثير من الناس معرفته على التفصيل ; ولهذا قال رضي الله عنه : " حدثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " . علي
وقال : " ما من رجل يحدث قوما بحديث لا يبلغه [ ص: 294 ] عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم " . وسأل رجل ابن مسعود عن قوله تعالى : ابن عباس
( خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن ) .
قال : " ما يؤمنك أن لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت ؟ وكفرك بها تكذيبك بها " . فقال لهم المسيح عليه السلام : ( إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ، ولكنكم لا تستطيعون حمله ) ، وهو الصادق المصدوق في هذا ; لهذا ، ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، مع أن ليس في الإنجيل من صفات الله ، وصفات ملكوته ، ومن صفات اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، وكذلك التوراة موسى كان قد مهد الأمر للمسيح ، ومع هذا فقد قال لهم المسيح : ( إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ، ولكنكم لا تستطيعون حمله ) ، ثم قال : ( ولكن إذا جاء روح الحق ذلك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ) ، وقال : ( إنه يخبركم بكل ما يأتي ، ويعرفكم بجميع ما للرب ) .
فدل هذا على أن هذا الفارقليط هو الذي يفعل هذا دون المسيح ، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى جميع الحق ، حتى أكمل الله له الدين ، وأتم به النعمة ; ولهذا كان خاتم الأنبياء ، فإنه لم يبق شيء يأتي به غيره ، وأخبر كان محمد صلى الله عليه [ ص: 295 ] وسلم بكل ما يأتي من أشراط الساعة ، والقيامة ، والحساب ، والصراط ، ووزن الأعمال ، والجنة وأنواع نعيمها ، والنار وأنواع عذابها ، ولهذا كان في القرآن من تفصيل أمر الآخرة ، وذكر الجنة والنار ، وما يأتي من ذلك أمور كثيرة توجد لا في التوراة ، ولا في الإنجيل ، وذلك تصديق قول المسيح : إنه يخبر بكل ما يأتي .
ومحمد بعثه الله بين يدي الساعة كما قال : . وكان إذا ذكر الساعة علا صوته ، واحمر وجهه ، واشتد غضبه كأنه منذر جيش ، وقال : بعثت أنا والساعة كهاتين ، وأشار بأصابعه السبابة ، والوسطى
[ ص: 296 ] ( إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) .
وقال : ( ) . أنا النذير العريان
فأخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء ، كما نعته به المسيح حيث قال : ( إنه يخبركم بكل ما يأتي ) ، ولا يوجد مثل هذا قط عن أحد من الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 297 ] فضلا عن أن يوجد شيء نزل على قلب بعض الحواريين .
وأيضا ، فقال : ( ويعرفكم جميع ما للرب ) ، فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله ، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات ، وما له من الحقوق ، وما يجب من الإيمان به ، وبملائكته وكتبه ورسله ، بحيث يكون ما يأتي به جامعا لكل ما يستحقه الرب .
وهذا لم يأت به أحد غير محمد حيث يتضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة ، هذا كله . ومعلوم أن ما نزل على الحواريين لم يكن فيه هذا كله ولا نصفه ولا ثلثه ، بل ما جاء به المسيح أعظم مما جاء به الحواريون ، وهذا الفارقليط الثاني جاء بأعظم مما جاء به المسيح .
وأيضا ، فالمسيح قال : ( إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أبي هو يشهد لي ، قلت لكم هذا ، حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا .
[ ص: 298 ] فيه ) . فبين أنه أخبرهم به ; ليؤمنوا به إذا جاء ، ولا يشكوا فيه ، وأنه يشهد له ، وهذه صفة من بشر به المسيح ، ويشهد للمسيح كما قال تعالى :
( وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) .
وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة ، ولم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس ، ووبخهم على الخطيئة : من الكفر والفسوق والعصيان ، وبخ جميع المشركين من العرب والهند والترك وغيرهم ، ووبخ المجوس ، وكانت مملكتهم أعظم الممالك ، ووبخ أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وقال في الحديث الصحيح عنه : أهل [ ص: 299 ] الكتاب . لم يقتصر على مجرد الأمر والنهي ، بل وبخهم وقرعهم وتهددهم . إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من
وأيضا ، فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بكل ما يسمع . وهذا إخبار بأن كل ما يتكلم به فهو وحي يسمعه ، ليس هو شيئا تعلمه من الناس ، أو عرفه باستنباطه ، وهذه خاصة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن المسيح ومن قبله من الأنبياء كانوا يتعلمون من غيرهم ، مع ما كان يوحى إليهم ، فعندهم علم غير ما يسمعونه من الوحي .
ومحمد صلى الله عليه وسلم لم ينطق إلا بما يسمعه من الوحي ، فهو مبلغ لما أرسل به ، وقد قيل له :
( بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) .
فضمن الله له العصمة إذا بلغ رسالاته ، فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق ، وألقى إلى الناس ما لم يمكن غيره من الأنبياء إلقاءه ; خوفا أن يقتلوه كما يذكرون عن المسيح ، وغيره .
وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده ، وأنهم لا يطيقون حمله ، وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم [ ص: 300 ] بحقائق الأمور . ومحمد أيده الله تأييدا لم يؤيده لغيره ، فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله ، وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره . فالكتاب الذي بعث به فيه من بيان حقائق الغيب ما ليس في كتاب غيره .
وأيد أمته تأييدا أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم ، فلم يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ، ثم لم يحملوها ، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح : ( إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ، ولكن لا تستطيعون حمله ) ، ولا ريب أن محمد أكمل عقولا ، وأعظم إيمانا ، وأتم تصديقا وجهادا ; ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم . أمة
وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم ، قال تعالى :
( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله [ ص: 301 ] قال : قد فعلت .
وأيضا ، فإنه أخبر عن الفارقليط أنه يشهد له ، وأنه يعلمهم كل شيء ، وأنه يذكرهم كل ما قاله المسيح ، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا شهد له شهادة يسمعها الناس ، لا يكون هذا شيئا في قلب طائفة قليلة ، ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه أظهر أمر المسيح ، وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض ، وعلموا أنه صدق المسيح ، ونزهه عما افترته عليه اليهود ، وعما غلت فيه النصارى ، فهو الذي شهد له بالحق ; ولهذا لما سمع من الصحابة ما شهد به النجاشي محمد للمسيح قال لهم : ( ما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود ) .
وجعل الله محمد شهداء على الناس ، يشهدون عليهم بما علموه من الحق ، إذ كانوا وسطا [ ص: 302 ] عدلا ، لا يشهدون بباطل ، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا بخلاف من جار في شهادته ، فزاد على الحق أو نقص منه ، كشهادة أمة اليهود والنصارى في المسيح .
وأيضا ، فإن معنى الفارقليط ، إن كان هو الحامد أو الحماد أو الحمد ، أو المعز ، فهذا الوصف ظاهر في محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال ، وهو صاحب لواء الحمد ، والحمد مفتاح خطبته ، ومفتاح صلاته ، ولما كان حمادا جوزي بوصفه ; فإن الجزاء من جنس العمل . فكان اسمهمحمدا ، وأحمد . وأما محمد فهو على وزن مكرم ومعظم ومقدس ، وهو الذي يحمد حمدا كثيرا مبالغا فيه ، ويستحق ذلك ، فلما كان حمادا لله كان محمدا ، وفي شعر : حسان بن ثابت
[ ص: 303 ]
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
.وأما أحمد ، فهو أفعل التفضيل : أي أحق بأن يكون محمودا أكثر من غيره ، يقال : هذا أحمد من هذا ; أي هذا أحق بأن يحمد من هذا ، فيكون فيه تفضيل له على غيره في كونه محمودا . فلفظ ( محمد ) يقتضي فضله في الكمية ، ولفظ ( أحمد ) يقتضي فضله في الكيفية . ومن الناس من يقول أحمد ; أي أكثر حمدا من غيره . فعلى هذا يكون بمعنى الحامد والحماد .
وقال : من رجح أن معنى الفارقليط في لغتهم هو الحمد - كما تقدم - : فإذا كان كذلك فهو ما جاء في القرآن :
( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) .
[ ص: 304 ] قالوا : ولا شك عندهم أنه اسم مشتق من الحمد ، مثل ما نقول في لغتنا : ضارب ومضروب . وأما من فسره بالمعز محمد ، فهو أحق باسم المعز من كل إنسان . فلم يعرف قط نبي أعز أهل التوحيد لله والإيمان كما أعزهم
وأما معنى المخلص ، فهو - أيضا - ظاهر فيه ، فإن المسيح هو المخلص الأول كما ذكر في الإنجيل ، وهو معروف عند النصارى أن المسيح - صلوات الله عليه - سمي مخلصا ، فيكون المسيح هو الفارقليط الأول ، وقد بشر بفارقليط آخر ، فإنه قال : ( وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليط آخر ، يثبت معكم إلى الأبد ) ، فهذه بشارة بمخلص ثان يثبت معهم إلى الأبد ، والمسيح هو المخلص الأول . وأما ما ينزل في القلوب فلم يسمه أحد مخلصا ، ولا فارقليط ، فلا يجوز أن يفسر كلام المسيح إلا بلغته ، ومعانيه المعروفة التي خاطب بها ، وكذلك سائر الأنبياء ، بل وسائر الناطقين .
وقد وصف هذا المخلص الثاني بأنه يثبت معهم إلى الأبد ، ومحمد هو المخلص الذي جاء بشرع باق إلى الأبد ، لا ينسخ .
وأيضا ، فإن في الإنجيل ; إنجيل يوحنا ، أن المسيح قال : ( أركون العالم سيأتي [ ص: 305 ] وليس لي شيء ) .
وقد ذكروا أن الأركون بلغتهم العظيم القدر ، والأراكنة العظماء ، وقد كانوا يقولون : عن المسيح : ( إن أركون الشياطين يعينه ) أي عظيم الشياطين . وهو من اليهود على المسيح ، فقول المسيح عليه السلام : أركون العالم ، إنما ينطبق على عظيم العالم وسيد العالم وكبير العالم . وقد أخبر أنه سيأتي ، فامتنع أن يكون هذا الأركون المسيح ، أو أحدا مثله ، ولم يأت بعد المسيح من ساد العالم ، وأطاعه العالم غير افتراء محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا من بشارة المسيح به .
وقد إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام . سئل صلى الله عليه وسلم ما كان أول أمرك ؟ قال : دعوة أبي
وبالجملة ، فمعلوم باتفاق أهل الأرض أنه لم يأت بعد المسيح من ساد العالم باطنا وظاهرا ، وانقادت له القلوب والأجساد ، وأطيع في [ ص: 306 ] السر والعلانية ، في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار ، وأفضل الأقاليم شرقا وغربا ، غير محمد ، فإن الملوك يطاعون ظاهرا لا باطنا ، ولا يطاعون بعد موتهم ، ولا يطيعهم أهل الدين طاعة يرجون بها ثواب الله في الدار الآخرة ، ويخافون عقاب الله في الدار الآخرة ، بخلاف الأنبياء .
ومحمد أظهر دين الرسل قبله ، وصدقهم ، ونوه بذكرهم وتعظيمهم ، فبه آمن بالأنبياء والرسل قبل موسى والمسيح وغيرهما أمم عظيمة ، لولا محمد لم يؤمنوا بهم . ومن كان يعرف هؤلاء من أهل الكتاب كانوا مختلفين فيهم كاختلاف أهل الكتاب في المسيح ، وكانوا يقدحون في داود وسليمان وغيرهما بما هو معروف عندهم .