وأيضا ، فإنه ذكر لهم من الرسل ما لم يكونوا يعرفونه ، مثل هود وصالح وشعيب وغيرهم .
ومحمد صلى الله عليه وسلم صدق المسيح في أخباره ; بأنه أركون العالم فقال : . أنا سيد ولد آدم ولا فخر . آدم فمن دونه تحت لوائي ، أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا ، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا
وهو صاحب لواء الحمد ، وهو صاحب المقام المحمود ، الذي يغبطه به الأولون والآخرون يوم القيامة ، فهو سيد العالمين حقا ، وهذا [ ص: 307 ] مطابق لقول المسيح : ( إنه أركون العالم ) ، فهو أركون الآخرين في الدنيا والآخرة ، وهو أركون الأولين والآخرين في الآخرة .
وقول المسيح : ( إن أركون العالم سيأتي ، وليس لي شيء ) تضمن الأصلين : إثبات الرسول ، وإثبات التوحيد ، وأن الأمر كله لله ، وهو تحقيق شهادة : أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . وقول المسيح : ( ليس لي شيء ) تنزيه له مما نسب إليه من الربوبية ، وهذا النفي يشترك فيه جميع الخلق ، قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم :
( ليس لك من الأمر شيء ) .
وقال تعالى : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) .
وقال :
( قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ) ( أي ملجأ وملاذا ) ( إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) .
[ ص: 308 ] وقال تعالى : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ) .
وأيضا ، ففي نبوة أشعياء أنه وصف محمدا بأنه أركون السلم ، والسلم والسلام : الإسلام . فهو يبين أنه سيد دين الإسلام . ولا ريب أن الأنبياء كلهم بعثوا بدين الإسلام . لكن لم يظهر هذا الدين واسمه ، وانتشر ذكر دين الإسلام في الأرض كما ظهر لمحمد ، فمحمد أركون الإسلام الذي يجمع كل خير وبر ، كما أن إبليس أركون الشر ، قال تعالى عن نوح :
( ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ) .
[ ص: 309 ] فهذا نوح : ، يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين . أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض
وقالت السحرة - لما أسلموا ، وأراد فرعون قتلهم - :
( ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ) .
وقال :
( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) .
وقال :
( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ) .
[ ص: 310 ] فإن قيل : فقد سمى المسيح الفارقليط روح الحق ، وسماه روح القدس . وقال تعالى عن إبراهيم :
( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .
( وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) .
وقالت بلقيس :
( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) .
قيل : قد قال يوحنا في كتاب أخبار الحواريين ، المسمى ( إفراكسيس ) : " يا أحبابي ، إياكم أن تؤمنوا بكل روح . لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها ، واعلموا أن كل روح تؤمن بأن [ ص: 311 ] يسوع المسيح قد جاء ، فكان جسدانيا ، فهي من عند الله ، وكل روح لا تؤمن بأن المسيح جاء ، وكان جسدانيا ، فليست من عند الله ، بل من المسيح الكذاب الذي هو الآن في العالم " .
وإذا كان كذلك علم أن الروح - عندهم - يتناول النبي المرسل من البشر ، وجبريل الذي نزل بالوحي على محمد هو روح القدس ، وهو روح الحق ، كما قال تعالى :
( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ) .
وقال :
( نزل به الروح الأمين على قلبك ) .
وقال :
( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) .
وهذا الروح إنما جعله بمجيء محمد ، والكلام الذي نزل به هو [ ص: 312 ] الذي بلغه محمد ; ولهذا قال الله تعالى :
: ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) .
فاصطفى الله جبريل من الملائكة ، واصطفى محمدا من البشر ; ولهذا يضاف القول الذي هو القرآن إلى قول هذا تارة ، وإلى قول هذا تارة كما قال تعالى :
( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ) .
فهذا الرسول هنا جبريل ، وقال تعالى في الآية الأخرى :
( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ) .
فهذا الرسول هنا محمد ، وأضافه إلى كل منهما بلفظ الرسول ; لتضمنه أنه بلغه عن مرسله ، لم يقل : " إنه لقول ملك ، ولا نبي " ، بل كفر من قال : إنه قول البشر كما ذكر [ ص: 313 ] ذلك عن الوحيد ، وقد قال تعالى في القرآن :
( قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ) .
ومعلوم أن الرسول - نفسه - لم ينزل ، بل أبدل الرسول من الذكر ؛ لأن الرسول جاء بالذكر .
ولما كان الرسول الملكي ، والرسول البشري ، والذكر المنزل أمورا متلازمة يلزم من ثبوت واحد ثبوت الآخرين ، ومن الإيمان بواحد الإيمان بالآخرين ، فيلزم من كون القرآن حقا كون جبريل ومحمد حقا ، وكذلك يلزم من كون محمد حقا كون جبريل والقرآن حقا ، ويلزم من كون جبريل حقا كون القرآن ومحمد حقا .
ولهذا جمع الله بين الإيمان بالملائكة والكتب والرسل في مثل قوله :
( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) .
[ ص: 314 ] فتعليم محمد وتذكيره وشهادته هو تعليم روح القدس وروحه ، والأخبار بأن الملك ينطق على لسان البشر ، أو الجني ينطق على لسان البشر كثير كما في حديث : " كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان ابن عمر " ، ويقال : " ما ألقى هذا على لسانك إلا الشيطان " ، ويكون مع هذا البشر ينطق بقدرته واختياره ليس هو كالمصروع الذي يتكلم الجني على لسانه وهو يدري ما يقول ; فلهذا يقال : هذا قول الرسول البشري ، وهو قول الرسول الملكي . عمر
ويقال : الفارقليط روح الحق وروح القدس يشهد لي وهو [ ص: 315 ] يعلمكم ، وهو يذكركم ، ونحو ذلك ، فإن الفارقليط يتضمن ذكر جبريل ومحمد جميعا ، وقول أحدهما هو قول الآخر ، ومعروف في اللغة بدل الاشتمال ; كقوله :
( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه ) .
والشهر ليس هو نفس القتال ، لكن لما اشتمل على القتال أبدل أحدهما من الآخر ، وقوله :
( قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا ) .
ومن هذا النمط أبدل الرسول من الذكر لاشتماله عليه ، وهذا الثاني اشتمل على الأول ، والرسول البشري كان الرسول الملكي يتصل به في الباطن فيثقل عليه الوحي حين ينزله .
وفي الصحيحين عن رضي الله عنها عائشة قال : الحارث بن هشام قال : أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني ، وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول . قالت يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحي ؟ : [ ص: 316 ] " ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا " عائشة . أن
والفصم : الفك والفصل من الأمور اللينة ، كما قال : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) .
وبالقاف : هو الكسر الذي يكون في الأمور الصلبة .
فبين أن الملك حين ينزل الوحي عليه يتصل به ، ويلتبس به ، ثم بعد ذلك ينفصل عنه وينفك عنه ، وهذا الاشتمال والانفصال أبلغ من غيره ، فيحسن معه أن يكون إبدال أحدهما من الآخر أحسن من غيره . فيقال : هذا القرآن بلغه الرسول النبي ، وبلغه جبريل عن الله ، ونظائر هذا متعددة في جميع بشارات المسيح . يذكر أن الأب وهو في لغتهم : الله الذي يرسل الفارقليط . وفي بعضها قال : " أنا أطلب من الأب [ ص: 317 ] يعطيكم فارقليط آخر ، يثبت معكم إلى الأبد " ، وفي بعضها : " والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي ، هو يعلمكم كل شيء " ، فقد بين أن الله يرسله ، وأنه يطلب من الله أن يرسله .
وأما قوله في بعض الألفاظ : " فإذا انطلقت أرسلته إليكم " فيكون معناه : إني أرسله بدعاء أبي ، وطلبي منه أن يرسله ، كما يطلب الطالب من ولي الأمر أن يرسل رسولا ، أو يولي نائبا ، أو يعطي أحدا ، ويقول أنا أرسلت هذا ، ووليت هذا ، وأعطيت هذا ; أي كنت سببا في ذلك . ومما ينبغي أن يعلم أن الله إذا قضى ما يكون الشيء فإنه يقدر له أسبابا يكون بها ، ومن تلك الأسباب دعاء طائفة من عباده به . فيكون في ذلك من النعمة في إجابته دعاء هذا وهذا وهذا .
ومحمد دعا به الخليل عليه السلام فقال :
( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) .
مع أن الله قضى بإرساله ، وأعلن باسمه قبل ذلك كما قيل له : يا رسول الله ، متى كنت نبيا ؟ قال : " وآدم بين الروح والجسد " ، وقال : " إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته " .
[ ص: 318 ] وهذا كما أن الله قضى بنصره يوم بدر ، ومن أسباب ذلك استغاثته بالله ، وكذلك بما يقضيه من إنزال الغيث يكون من أسبابه دعاء عباده له ، ونظائره كثيرة ، فلا يمتنع أن يكون المسيح سأل ربه بعد صعوده أن يرسل محمدا ، ويكون هذا من أسباب إرساله ، لكن إبراهيم سأل في الدنيا فذكر الله ذلك ، بخلاف سؤال المسيح ، فإنه كان بعد صعوده إلى السماء .