الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وكان الناس قد تنازعوا في زمانهم : هل تعاد الأرواح دون الأبدان .

وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقصتهم من غير أن يعلمه بشر آية على نبوته ، فكانت قصتهم آية على أصول الإيمان الثلاثة ; الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، والإيمان برسوله . ومع هذا فليسوا من آيات الله بعجب ، بل من آيات الله ما هو أعجب من ذلك .

[ ص: 385 ] وقد ذكر الله تعالى سؤالهم عن الآيات التي كانوا يسألونه عنها ليعلموا : هل هو نبي صادق أم كاذب ؟ فقال تعالى :

( ويسألونك عن ذي القرنين ) .

وقال :

( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ) .

إلى قوله :

( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) .

إلى قوله :

( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) .

إلى قوله :

( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) .

[ ص: 386 ]

وقال تعالى لما ذكر قصة أهل الكهف التي سألوه عنها :

( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ) .

أي يسألونك عن ذاك ، ويسألونك عن هذا .

والقرآن مملوء من إخباره عن الغيب الماضي ، الذي لا يعلمه أحد من البشر ، إلا من جهة الأنبياء الذين أخبرهم الله بذلك ، ليس هو الشيء الذي تزعمه ملاحدة المتفلسفة ، فإن هذه الأمور الغيبية المعينة المفصلة لا يؤخذ خبرها قط إلا عن نبي ، كموسى ، ومحمد ، وليس أحد ممن يدعي المكاشفات ؛ لا من أولياء الله ، ولا من غير أولياء الله يخبر بشيء من ذلك ; ولهذا كان هذا من أعلام الأنبياء وخصائصهم التي لا يشركهم فيها غيرهم .

وأهل الملل متفقون على ما دل عليه العقل الصريح من أن هذا [ ص: 387 ] لا يعلم إلا بخبر نبي . فإذا كان محمد قد أخبر من ذلك بما أخبر به موسى وغيره من الأنبياء ، وأخبر بما يعلمونه مما لا يعلمه أحد إلا بالتعلم منهم ، وقد عرف أن محمدا لم يتعلم هذا من بشر ، كان هذا آية وبرهانا قاطعا على نبوته ، . ثم العلم بأن محمدا لم يتعلم هذا من بشر يحصل في حياته ، أما قومه المباشرون له ، الخبيرون بحاله ، فكانوا يعلمون أنه لم يتعلم هذا من بشر ، فقامت عليهم الحجة بذلك ، وأما من لم يعرف حاله إلا بالسماع فيعلم ذلك بطرق :

منها : تواتر أخباره ، وكيف كان ؟ من حين ولد إلى أن مات كما هي مستفيضة مشهورة متواترة ، يعلمها من كان له خبرة بذلك ، أعظم مما يعلم به حال موسى وعيسى ، فإن محمدا ظهر أمره ، وانتشرت أخباره ، وتواترت أحواله ، أعظم من جميع بني آدم . فما بقي ما دون هذا من أحواله يخفى على الناس فكيف مثل هذا ؟ !

ومنها : أنه أخبر في القرآن بما لا يوجد عند أهل الكتاب ، مثل :

[ ص: 388 ] قصة هود وصالح وشعيب ، وبعض التفاصيل في قصة إبراهيم وموسى وعيسى ؛ مثل تكليم المسيح في المهد ، ومثل نزول المائدة ، فإن هذا لا يعرفه أهل الكتاب ، ومثل إيمان امرأة فرعون ، وغير ذلك . فيمتنع أن يقال : إن هذا تعلمه من أهل الكتاب ، وقومه لم يكونوا يعلمون ذلك ، بل قد أراهم وغيرهم آثار المنذرين الذين عاقبهم الله لما كذبوا الرسل ، كقوم عاد وثمود ، وغيرهم .

فيستدل الناس بالآثار الموجودة على صدق الرسل ، وعقوبة الله لمن يكذبهم . ويستدل قومه وغيرهم على صدقه فيما أخبر به من هذه الأمور التي لم يتعلمها من أهل الكتاب بتصديق أهل الكتاب له فيما وافقهم فيه ، مع علمهم أنه لم يتعلم ذلك منهم ، ويكون هذا مما يدل على أنه لم يتعلم من أهل الكتاب شيئا كما قد يظنه بعضهم ، وذلك من الوجهين كما تقدم .

ومنها : أن أكثر قومه كانوا من أعظم الناس عداوة له ، وحرصا على تكذيبه والطعن فيه ، وبحثا عما به يقدحون فيه . فلو كان قد تعلم هذه الأخبار من بشر لكانوا يعلمون ذلك ، ويقدحون به فيه ويظهرونه ، ولكان هذا مما يظهر أعظم مما ظهر غيره . فلما لم يقع ذلك دل على أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك ، ولم يتمكنوا من القدح به فيه مع [ ص: 389 ] علمهم بحاله ، ورغبتهم في القدح به . ومع كمال الداعي والقدرة ، يجب وجود المقدور ، فلما كان داعيهم تاما ، ولم يقدحوا ، علم أن ذلك لعجزهم . وعجزهم عن القدح مع علمهم بحاله دليل على أنهم علموا أنه لم يتعلمه من بشر .

ومنها : أن يقال : مثل هذا لو وقع لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، بل كان المتبعون له المؤمنون به إذا اطلعوا على ذلك فلا بد أن يشيعوه ويعلنوه ، فكيف المخالفون له ، المكذبون له ؟ فإن القوم المتفرقين الذين لم يتواطئوا ، كما لا يجتمعون على تعمد الكذب ، فلا يجتمعون على كتمان مثل ذلك ، بل يجتهد الملوك والرؤساء في إخفاء ما يبطنونه من أمر ملكهم الذي بنوه عليه ، ويحلفون أولياءهم على كتمان ذلك ، ويبذلون لهم الرغبة والرهبة في ذلك ، ثم يظهر ذلك كما فعل القرامطة الباطنية ، من أهل [ ص: 390 ] البحرين بني عبيد الله بن ميمون القداح ، وكما عرف الناس أن النصيرية لهم خطاب يسرونه إلى أوليائهم ، وإن لم يعلم أكثر الناس ما ذلك الخطاب الذي يسرونه .

لا سيما والذين آمنوا بحمده واتبعوه - أولا - من المهاجرين كانوا مؤمنين به باطنا وظاهرا ، هجروا لأجله الأوطان والأهل والمال ، وصبروا على أنواع المكاره والأذى : طائفة كبيرة ذهبت إلى الحبشة ، [ ص: 391 ] مهاجرة بدينها لما عذبها المخالفون له حتى يرجعوا عن دينه ، وطائفة كانوا بمكة يعذبون ; هذا يقتل ، وهذا يخرج به إلى بطحاء مكة في الحر وتوضع الصخرة على بطنه حتى يكفر ، وهذا يمنع رزقه ويترك جائعا عريانا .

ثم إنهم هجروا أحب البلاد إليهم ، وأفضلها عندهم : مكة - أم القرى - إلى مدينة كانوا فيها محتاجين إلى أهلها ، وتركوا أموالهم بمكة ، قال تعالى :

( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ) .

وقال تعالى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) .

[ ص: 392 ] وقال تعالى : ( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) .

وقوله :

( يخرجون الرسول وإياكم ) .

وجميع المهاجرين والأنصار آمنوا به طوعا واختيارا ، قبل أن يؤمر أحد بقتال .

فإنه مكث بمكة بضع عشرة سنة لا يقاتل أحدا ، ولم يؤمر بقتال ، بل كان لا يكره أحدا على الدين كما قال تعالى :

( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) .

وكانوا خلقا كثيرا ، ومعلوم أن الخلق الكثير الذين اتبعوا شخصا قد جاء بدين لا يوافقه عليه أحد ، وطلب منهم أن يؤمنوا به ويتبعوه ، ويفارقوا دين آبائهم ، ويصبروا على عداوة الناس وأذاهم ، ويهجروا لأجله ما ترغب النفوس فيه من الأهل والمال والوطن ، وهو - مع [ ص: 393 ] ذلك - لم يعط أحدا منهم مالا ، ولا كان له مال يعطيهم إياه ، ولا ولى أحدا ولاية ، ولم يكن عنده ولاية يوليهم إياها ، ولا أكره أحدا ، ولا بقرصة في جلده ، فضلا عن سوط أو عصا أو سيف ، وهو - مع ذلك - يقول عما يخبرهم به من الغيب : " الله أخبرني به ، لم يخبرني بذلك بشر " .

فلو كانوا - مع ذلك - يعلمون أن تعلمه من بشر لكان هذا مما يقوله بعضهم لبعض . ويمتنع في جبلة بني آدم وفطرهم أن يعلموا أنه كاذب وأنه قد تعلم هذا من بشر ، وليس فيهم من يخبر بذلك ، مع أنهم كانوا كثيرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب والكتمان ، بل ولا داعي لهم يدعوهم إلى ذلك . ويمتنع أن لا يعلموا ذلك ، وهم بطانته المطلعون على أحواله ، وهم يسمعون كلام أعدائه المطلعين على حاله .

والقرآن كان ينزل شيئا فشيئا ، لم ينزل جملة ، بل كانوا يسألونه عن الشيء بعد الشيء من الغيب بين الذين آمنوا به وباطنوه واطلعوا على أسراره ، وهو لا يعلم شيئا من ذلك ، ثم يخبرهم به ، وهم مطلعون على أمره خبرا بعد خبر ، وسؤالا بعد سؤال ، وهذا كان [ ص: 394 ] بمكة ، وليس بها أحد من علماء أهل الكتاب ، لا اليهود ولا النصارى ، ثم هاجر إلى المدينة ، وبها خلق كثير من اليهود ; قينقاع والنضير وقريظة ، ولعلهم كانوا بقدر نصف أهلها ، أو أقل أو أكثر ، وهم - أيضا - يسألونه عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي فيخبرهم بها ، ويتلو عليهم ما سأله عنه المشركون من الغيب ، وما أخبرهم به ، ويتلو عليهم هذا الغيب الذي أوحاه الله إليه ، ويبين أن الله أعلمه ذلك ، لم يعلمه إياه بشر ، فآمن به طائفة من أهل الكتاب وكفرت به طائفة أخرى ، والطائفتان ليس فيهم من يقول : إن هذا تعلمه منا أو من إخواننا أو نظرائنا ، ولا إنك قرأته في كتبنا . مع أنه لو كان قد تعلم ذلك منهم لكان شيوخه منهم ، وشيوخهم إذا علموا أنه كاذب تعلمه منهم ، يمتنع أن يصدقوه باطنا وظاهرا ، بل تصديقهم الكتاب الأول ، وعلمهم بكذب من ادعى نزول كتاب ثان وقد تعلم منهم يدعوهم إلى أن يبينوا أمره ، ويظهروا كذبه ، ويقولوا للناس تعلم منا ، نحن أخبرناه بذلك ، لا سيما مع ما فعله باليهود من القتل والحصار والجلاء والسبي ، وغير ذلك .

وهذا لو وقع ، لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، ينقله الموافق والمخالف ، فلما لم يقل ذلك أحد ، ولم ينقله أحد مع ما أظهره من الأخبار المتواترة التي علمها الخاص والعام ، [ ص: 395 ] بأن هذا مما أنبأني الله ، لم يخبرني به بشر ، كان هذا دليلا قاطعا بينا في أن هذه الأخبار الغيبية التي لا يعلمها إلا نبي أعلمه الله بها ، أو من تعلمها من نبي : هي مما أنبأه الله به ، ولم يعلمه ذلك بشر ، وهذا من الغيب الذي قال الله فيه - في السورة التي فيها استماع الجن للقرآن ، وإنذار قومهم به حيث قال - :

( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) .

إلى قوله :

( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ) .

[ ص: 396 ] فقوله تعالى :

( فلا يظهر على غيبه ) .

يبين أنه غيب يضاف إليه يختص به ، لا يعلمه أحد إلا من جهته ، بخلاف ما يغيب عن بعض الناس ويعلمه بعضهم ، فإن هذا قد يتعلمه بعضهم من بعض .

فمما سأله عنه أهل الكتاب في المدينة مسائل ، وهي غير المسائل التي كان يسأل عنها وهو بمكة ، كما كان مشركو قريش يرسلون إلى اليهود بالمدينة ، يسألونهم عن محمد ، فيرسل اليهود بمسائل يمتحنون بها نبوته ، وذلك مثل ما في صحيح البخاري عن أنس قال : " جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه [ ص: 397 ] المدينة فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، والولد ينزع إلى أمه تارة ، وإلى أبيه " . قال : " أخبرني جبريل آنفا " . قال عبد الله : ذاك عدو اليهود من الملائكة . " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الولد ، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه " ، فقال : " أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله " ، قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت ، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك ، فجاءت اليهود ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أي رجل عبد الله فيكم ، قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وعالمنا وابن عالمنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله ، قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله فقال : " أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد [ ص: 398 ] أن محمدا رسول الله " ، فقالوا : " شرنا وابن شرنا " ، وتنقصوه . قال : فهذا ما كنت أخاف وأحذر .

وروى مسلم - في صحيحه - عن ثوبان قال : " كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود ، وقال : " السلام عليك يا محمد " ، فدفعته دفعة كاد يصرع منها ، فقال : لم تدفعني ؟ قال : قلت : ألا تقول يا رسول الله ؟ قال : إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد ، فقال : اليهودي جئت أسألك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينفعك شيء إن حدثتك . قال : أسمع بأذني ، فنكت بعود معه ، فقال له : سل ، فقال اليهودي : " أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ؟ " فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : في الظلمة دون الجسر ، قال : فمن أول الناس إجازة ؟ قال : فقراء المهاجرين ، فقال اليهودي : فما تحفتهم حين يدخلون ؟ قال : زيادة كبد نون ، قال : وما غذاؤهم [ ص: 399 ] على أثره ؟ قال : ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال : فما شرابهم عليه ؟ قال : من عين فيها تسمى سلسبيلا قال : صدقت . قال : وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان ، قال : ينفعك إذا حدثتك قال : أسمع بأذني ، قال : جئت أسألك عن الولد ، قال : ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله فقال : اليهودي صدقت ، وإنك لنبي ، ثم انصرف . فقال : النبي صلى الله عليه وسلم : إنه سألني هذا الذي سألني عنه ، وما أعلم شيئا منه حتى أتاني به الله تعالى .

وروى أبو داود الطيالسي حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، عن [ ص: 400 ] شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قال : حضرت عصابة من اليهود يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي ، فقال : سلوني عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة الله ، وما أخذ يعقوب على بنيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتتابعوني على الإسلام قالوا : لك ذلك ، قال : فسلوني عما شئتم ، قالوا : أخبرنا عن أربع خلال ; أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا ، وكيف يكون الأنثى حتى يكون أنثى ، وأخبرنا كيف هذا النبي في النوم ، ومن وليك من الملائكة ؟ قال : فعليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا حدثتكم لتتابعوني ، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق ، قال : أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ; هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه ، وأحب الطعام إليه ، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل ، وأحب الطعام إليه لحوم الإبل قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اشهد عليهم ، قال : فأنشدكم [ ص: 401 ] بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى ; هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض ، وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الولد ، والشبه له بإذن الله ، قالوا : اللهم نعم ، فقال : اللهم اشهد ، قال : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وأنزل التوراة على موسى ; هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ، ولا ينام قلبه ، قالوا : اللهم نعم ، قال : اللهم اشهد ، قالوا : أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : وليي جبريل عليه السلام ، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه ، قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان غيره لاتبعناك وصدقناك ، قال : فما يمنعكم أن تصدقوا قالوا : إنه عدونا من الملائكة . فأنزل الله عز وجل :

( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا ) .

إلى قوله :

( فإن الله عدو للكافرين )
.

[ ص: 402 ] ففي هذه الأحاديث أن علماء اليهود كعبد الله بن سلام ، وغيره كانوا يسألونه عن مسائل ، يقولون فيها : لا يعلمها إلا نبي : أي ومن تعلمها من الأنبياء ، فإن السائلين كانوا يعلمونها ، كما جاء - أيضا - : " لا يعلمها إلا نبي أو رجل أو رجلان " . فكانوا يمتحنونه بهذه المسائل ليتبين هل يعلمها ، وإذا كان يعلم ما لا يعلمه إلا نبي ، كان نبيا ، ومعلوم أن مقصودهم بذلك إنما يتم إذا علموا أنه لم يعلم هذه المسائل من أهل الكتاب ، ومن تعلم منهم ، وإلا فمعلوم أن هذه المسائل كان تعلمها بعض الناس ، لكن تعلمها هؤلاء من الأنبياء .

وهذا يبين أن هؤلاء السائلين له من أهل الكتاب كانوا يعلمون أن أحدا من البشر لم يعلمه ما عند أهل الكتاب من العلم ; إذ لو جوزوا ذلك عليه لم يحصل مقصودهم من امتحانه ; هل هو نبي أم لا ؟ فإنهم إذا جوزوا أن يكون تعلم ما لا يعلمه إلا نبي من أهل الكتاب ، كان من جنسهم ، فلم يكن في علمه بها وإجابتهم عنها دليل على نبوته .

فلا بد أن يكون هؤلاء السائلون يقطعون بأنه لم يتعلم من أهل [ ص: 403 ] الكتاب . وهذا كان بالمدينة بعد أن أقام بمكة بضعة عشرة سنة ، وانتشر أمره ، وكذبه قومه ، وحرصوا على إبطال دعوته بكل طريق يقدرون عليه ، فلو كان بمكة أو بالمدينة أحد من أهل الكتاب يتعلم منه ، أو لقي أحدا من أهل الكتاب في طريق فتعلم منه ، لكان ذلك يقدح في مقصود هؤلاء السائلين .

فتبين أنه كان معلوما عند أهل الكتاب أنه لم يتعلم شيئا من الغيب من بشر ، لا سيما ولو كان قد تعلمه من أهل الكتاب وقد كذبهم وحاربهم ، لأظهروا ذلك ، ولشاع في أهل الكتاب ، فكان إذا أجابهم قالوا : هذا تعلمته من فلان ، وفلان منا ، أو هذا علمكه بعض أهل ديننا . وهذا كما كانوا يرسلون إلى قومه من قريش ليسألوه عن مسائل ، ويقولون : إن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإلا فهو متقول ، ويقولون : سلوه عن مسائل لا يعلمها إلا نبي .

فهذا من أهل المدينة ومن قريش قومه ، يبين أن قومه المشركين وأهل الكتاب كانوا متفقين على أنه لم يتعلم شيئا من ذلك البشر ، إذ لو جوزوا ذلك لم يحصل مقصودهم بذلك ، ولم يجز أن يقولوا لا يعلمها إلا نبي ، فإنهم كانوا جميعا يعلمون أن من أهل الكتاب من يعلم هذه المسائل ، وبذلك يعرف هل يجيب فيها بما قالته الأنبياء ، أو بخلاف ذلك ، ويعلمون أن من كان تعلمها من أهل الكتاب ، ومن تعلم منهم لا يدل جوابه عنها على نبوته كما لو أجاب عن تلك [ ص: 404 ] المسائل بعض أهل الكتاب ، وكما لو سأل في زماننا بعض الناس لبعض المسلمين عن تلك المسائل أو غيرها من أنباء الغيب ، التي لا يعلمها إلا نبي ، فإن ذلك لا يدل على نبوته ؛ لأنه قد تعلم ذلك من الأنبياء .

فدل على أن مرادهم بقولهم : لا يعلمها إلا نبي : أي لا يعلمها ابتداء بدون تعليم من بشر إلا نبي ، ويدل على أن المشركين وأهل الكتاب كانوا جميعا متفقين على أنه لم يتعلم من بشر مع انتشار أخباره ، ومع اطلاع قومه على أسراره ، ومع ظهور ذلك - لو وجد - ومع أنهم لو جوزوا تجويزا أن يكون قد تعلمها من بشر في الباطن ، لم يجز أن يستدل بها على نبوته ، فدل على أنهم كانوا قاطعين بأنه لم يتعلم ذلك من بشر ؛ لا في الباطن ، ولا في الظاهر ، وهذا طريق بين يدل على أنه لم يتعلم ذلك من بشر سوى الطرق المذكورة هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية