الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 358 ] وقد ذكرنا أن قومه المعادين له غاية العداوة ما زالوا معترفين بصدقه صلى الله عليه وسلم  ، وأنهم لم يجربوا عليه كذبا ، بل ومعترفين بأن ما يقوله ليس بشعر ولا كهانة ، وأنه ليس بساحر ، وكانوا في أول أمره يرسلون إلى البلاد التي فيها علماء أهل الكتاب يسألونهم عنه ؛ لأن مكة لم يكن بها ذلك .

ففي الصحيحين عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب حدثه ، قال : " انطلقت إلى الشام في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل  ، قال : وكان دحية الكلبي جاء به ، فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ، فقال هرقل : : هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قالوا : نعم ، قال : فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه ، فقال : أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، قال أبو سفيان : فقلت أنا . فأجلسوني بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي . فدعا بترجمانه ، فقال : قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذبني فكذبوه . [ ص: 359 ] قال : فقال : وايم الله ! لولا مخافة أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه . ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قال : قلت : هو فينا ذو حسب . قال : فهل كان في آبائه من ملك ، قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا " ، وذكر باقي الحديث :

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود ، حديث سعد بن معاذ ، لما قال لأمية : إنهم قاتلوك ( يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ) ، وفزع منه لذلك ، وقال لامرأته ذلك ، فقالت : والله ما يكذب محمد ، وقال هو - في رواية أخرى - : والله ما يكذب محمد ، وعزم أن لا يخرج خوفا من هذا ، وقال : والله لا أخرج من مكة . وأراد التخلف عن بدر ، حتى قال له أبو جهل : إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد هذا الوادي تخلفوا معك . فقال : أما إذ غلبتني فلأشترين أجود بعير بمكة ، وذكرته امرأته بقول سعد ، فقال : ما أريد أن [ ص: 360 ] أكون معهم إلا قريبا .

وكذلك ما ذكره أهل المغازي وغيرهم أن أبي بن خلف لما [ ص: 361 ] بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنا أقتله ، ثم طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخدشه ، وجعل أصحابه يجزعونه ويقولون : إنما هو خدش وليس بشيء ، فقال : والله لو كان بمضر لقتلهم ، أليس قال : " لأقتلنك " . وعن مجاهد : قال مولاي السائب بن أبي السائب : كنت فيمن بنى البيت ، وأن قريشا اختلفوا في الحجر حين أرادوا أن يضعوه ، حتى كادوا يقع بينهم قتال بالسيوف ، فقال : اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين .

[ ص: 362 ] فقالوا : يا محمد ، قد رضينا بك .

وعن عقيل بن أبي طالب قال : " جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا له : إن ابن أخيك يأتينا في كعبتنا ونادينا ويسمعنا [ ص: 363 ] ما يؤذينا ، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل . قال : فقال لي : يا عقيل التمس ابن عمك . قال : فأخرجته من كبس من أكباس شعب أبي طالب ، فأقبل يمشي حتى انتهى إلى أبي طالب ، فقال له : يا ابن أخي ، والله ما علمت إن كنت لي مطيعا ، وقد جاءني قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وناديهم فتسمعهم ما يؤذيهم ، فإن رأيت أن تكف عنهم ؟ قال : فحلق ببصره إلى السماء ، فقال : والله ما أنا بأقدر على أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من النار فقال أبو طالب : إنه - والله - ما كذب قط فارجعوا راشدين . رواه البخاري في تاريخه ، وأبو زرعة في الدلائل ، ورواه ابن إسحاق قريبا من هذا اللفظ ، وقال : " فأخرجته من حفش - وهو بيت صغير - وقال فيه : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه ، وأنه خاذله ومسلمه ، وضعف عن القيام معه ، فقال : يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه .

وفي الصحيحين عن عبد الله بن الصامت قال : " قال أبو ذر : [ ص: 364 ] خرجنا من قومنا غفار ، وكانوا يحلون الشهر الحرام ، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا ، فنزلنا على خال لنا فأكرمنا ، وأحسن إلينا فحسدنا قومه ، فقالوا : إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس . فجاء خالنا فثنا علينا الذي قيل له ، فقلت له : أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ، ولا جماع لك فيما بعد . فقربنا صرمتنا ، فاحتملنا عليها ، وتغطى خالنا بثوبه يبكي ، وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة .

فنافر أنيس رجلا عن صرمتنا وعن مثلها فأتينا الكاهن فخير [ ص: 365 ] أنيسا فأتى بصرمتنا ومثلها معها . قال : وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين ، قلت : لمن ؟ قال : لله ، قلت : فأين توجه ؟ قال : أتوجه حيث يوجهني ربي ، أصلي عشاء ، حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء ، حتى تعلوني الشمس ، فقال أنيس : إن لي حاجة بمكة فاكفني . فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ، ثم جاء فقلت : ما صنعت ؟ قال : لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله ، قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر ، كاهن ، ساحر . وكان أنيس أحد الشعراء ، قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة ، فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فما يلتئم على لسان أحد يقري بعدي أنه شعر ، والله إنه لصادق ، وإنهم لكاذبون . قال : قلت : فاكفني حتى أذهب فأنظر ، قال : فأتيت مكة فضعفت رجلا منهم ، فقلت : أين هذا الذي [ ص: 366 ] تدعونه الصابئ ؟ فأشار إلي فقال : الصابئ ، فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي . . . " ، وذكر الحديث وصفة إسلامه رضي الله عنه بلفظ مسلم .

وفي حديث البخاري عن ابن عباس : " أن أبا ذر أرسل أخاه ، وقال : اعلم لي علم هذا الرجل ، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء ، فاسمع من قوله ، ثم ائتني ، فانطلق الآخر حتى قدم مكة ، وسمع من قوله ، ثم رجع إلى أبي ذر فقال : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ، وكلاما ما هو بالشعر .

فقال : ما شفيتني فيما أردت ، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد . . . " وذكر تمام الحديث .

وعن جابر بن عبد الله " قال الملأ وأبو جهل : لقد غلبنا أمر [ ص: 367 ] محمد ، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر ، فأتاه فكلمه ، وأتانا ببيان من أمره .

قال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر ، وعلمت من ذلك علما ، فما يخفى علي إن كان كذلك . فأتاه ، فلما خرج إليه قال : أنت - يا محمد - خير أم هاشم ؟ وأنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فيم تشتم آلهتنا ، وتضلل آباءنا ؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك الرياسة ، فكنت رأسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباه زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت ، وإن كان بك المال ، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم ، فلما [ ص: 368 ] فرغ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) .

إلى قوله :

( فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) .

فأمسك عتبة على فيه ، وناشد بالرحم أن يكف ، ورجع إلى أهله ، فلم يخرج إلى قريش ، فاحتبس عنهم عتبة ، فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد ، وأعجبه طعامه ، وما ذاك إلا من حاجة أصابته ، فانطلقوا بنا إليه ، فأتاه أبو جهل فقال : يا عتبة ، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد ، وأعجبك أمره ، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب وأقسم أن لا يكلم محمدا ا أبدا ، وقال : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة ، فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر :

( حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) .

[ ص: 369 ] إلى قوله :

( فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) .

فأمسكت بفيه ، وناشدته الرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب " . رواه أبو بكر أحمد بن مردويه ، في كتاب التفسير عن محمد بن فضيل عن الأجلح عن الذيال بن حرملة عنه ، [ ص: 370 ] ورواه يحيى بن معين عن محمد بن فضيل ، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده ، ورواه عبد بن حميد عن شيخ أبي يعلى ابن أبي شيبة .

وفي بعض الطرق : " إن كنت تزعم أن هؤلاء خيرا منك فقد عبدوا الآلهة ، وإن كنت تزعم أنك خيرا منهم فتكلم حتى نسمع " ، ورواه ابن إسحاق قال : حدثني يزيد بن زياد مولى لبني هاشم عن [ ص: 371 ] محمد بن كعب ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما . . وذكر الحديث إلى أن قال : " لما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ، قال : ورائي أني - والله - قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني ، واجعلوها بي ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، واعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، فقالوا : سحرك - والله - يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم ، . ثم ذكر شعر أبي طالب يمدح عتبة فيما قال .

[ ص: 372 ] وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة ، وكان يرقي من هذه الريح ، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون : إن محمدا مجنون ، فقال : لو أني رأيت هذا الرجل ، لعل الله أن يشفيه على يدي ، قال : فلقيت محمدا ، فقلت : إني أرقي من هذه الريح ، وإن الله يشفي على يدي من شاء ، فهلم ، فقال محمد : " إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد " قال : فقال : أعد علي كلماتك هؤلاء . فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال : والله لقد سمعت قول الكهنة ، وقول السحرة ، وقول الشعراء ، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء ، ولقد بلغن ناعوس البحر .

[ ص: 373 ] فقال : هات يدك أبايعك على الإسلام ، قال : فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " وعلى قومك " ، فقال : وعلى قومي
. الحديث .

وعن ابن عباس : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ، فقرأ عليه من القرآن :

( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) .

قال : أعد ، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله .

[ ص: 374 ] لمغدق ، وما يقول هذا البشر " .

وفي لفظ : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا . قال : ولم ؟ قال : ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا لتعوض مما قبله ، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له ، قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم [ ص: 375 ] ما تحته . قال : لا ترضى عنك قومك حتى تقول فيه . قال : فدعني حتى أفكر فيه . فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره . فنزلت :

( ذرني ومن خلقت وحيدا )
.

رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة عنه .

وفي رواية أخرى : " أن الوليد بن المغيرة اجتمع ، ونفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال : إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد بعضكم قول بعض ، فقالوا :

[ ص: 376 ] فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقوم به . فقال : بل أنتم فقولوا وأنا أسمع ، فقالوا : نقول كاهن ، فقال : ما هو بكاهن ، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان . فقالوا : نقول مجنون ، فقال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر ، فقال : ما هو بشاعر ، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريظه ومقبوضه ومبسوطه فما هو [ ص: 377 ] بالشعر . قالوا : فنقول ساحر ، قال : فما هو بساحر ، قد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا عقده . فقالوا : ما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله حلاوة ، وإن أصله لغدق ، وإن فرعه لجنى ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا : ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه ، وبين المرء وبين أخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه ، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره ; فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة ، وذلك من قوله :

( ذرني ومن خلقت وحيدا ) .

إلى قوله :

( سأصليه سقر ) .

وأنزل في النفر الذين كانوا معه :

( الذين جعلوا القرآن عضين ) .

أي أصنافا .

[ ص: 378 ] وروى ابن إسحاق ، عن شيخ من أهل مصر ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : قام النضر بن الحارث فقال : " يا معشر قريش ، والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله ، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر ، لا - والله - ما هو بسحر ، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ، وقلتم : كاهن ، لا - والله - ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وسمعنا سجعهم ، وقلتم : شاعر ، لا - والله - ما هو بشاعر ، لقد روينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها ؛ هزجه ورجزه وقريظه ، وقلتم : مجنون ، ولا - والله - ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون فما هو بخنقه ، ولا تخليطه ، يا معشر قريش انظروا في [ ص: 379 ] شأنكم فإنه - والله - لقد نزل بكم أمر عظيم " . وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينصب له العداوة .

قال : وحدثني الزهري قال : " حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان ، والأخنس بن شريق ، خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي بالليل في بيته ، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا ، وطلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في - نفسه شيئا ، ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا ، فلما كانت الليلة [ ص: 380 ] الثالثة ، فعلوا كذلك ، ثم جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا ، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم أتى أبا سفيان في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ، فقال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ، فقال الأخنس : وأنا ، والذي حلفت به ، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ، فقال : ماذا سمعت ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، ثم إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به ولا نصدقه أبدا " .

وكذلك روي عن المغيرة بن شعبة ، أن أبا جهل قال له مثل ذلك ، وقال : إني لأعلم أن ما يقول حق ، ولكن بني قصي قالوا : فينا الندوة .

[ ص: 381 ] فقلنا : نعم ، فينا الحجابة ، فقلنا : نعم ، فينا السقاية ، فقلنا : نعم . وذكر نحوه .

وقد كانوا يرسلون إلى أهل الكتاب ليسألوهم عن أمره صلى الله عليه وسلم .

قال محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : " بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : اسألوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله [ ص: 382 ] وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال : فقالت لهم أحبار يهود : " سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه . وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه ، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم .

فأقبل النضر وعقبة ، حتى قدما مكة على قريش ، فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور ، فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، خبرنا فسألوه عما أمروهم به . فقال : لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبركم ، وجاءه جبريل من الله بسورة الكهف ، فيها خبر ما سألوه عنه ، من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، وقول الله :

( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .

[ ص: 383 ] قال ابن إسحاق : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال :

( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) .

يعني محمدا ، إنك رسولي في تحقيق ما سألوه عنه من نبوته .

( ولم يجعل له عوجا قيما ) .

أي أنزله قيما ؛ أي معتدلا لا اختلاف فيه ، وذكر تفسير السورة إلى قوله :

( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) .

أي وما قدروا من قدري ، وفيما صنعت من أمر الخلائق ، وما وضعت على العباد من حجتي ، ما هو أعظم من ذلك .

قال مجاهد : " ليس بأعجب من آياتنا من هو أعجب من ذلك " .

[ ص: 384 ] وفي تفسير العوفي عن ابن عباس : " الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب ، أفضل من شأن أصحاب الكهف " .

قلت : والأمر على ما ذكره السلف ، فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله ، فإن مكثهم نياما لا يموتون ثلاثمائة سنة ، آية دالة على قدرة الله ومشيئته ، وأنه يخلق ما يشاء ، ليس كما يقوله أهل الإلحاد . وهي آية على معاد الأبدان كما قال تعالى :

( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية