الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 405 ] ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولا إلى جميع الثقلين جنهم وإنسهم ، عربهم وعجمهم ، وهو خاتم الأنبياء - لا نبي بعده - كان من نعمة الله على عباده ، ومن تمام حجته على خلقه أن تكون آيات نبوته وبراهين رسالته معلومة لكل الخلق الذين بعث إليهم ، وقد يكون عند هؤلاء من الآيات والبراهين على نبوته ، ما ليس عند هؤلاء .

وكان يظهر لكل قوم من الآيات النفسية والأفقية ما يبين به أن القرآن حق ، كما قال تعالى :

( قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) .

أخبر سبحانه أنه سيري عباده الآيات في أنفسهم ، وفي الآفاق حتى يتبين لهم أن القرآن حق ، فإن الضمير عائد إليه ; إذ هو [ ص: 406 ] الذي تقدم ذكره كما قال :

( قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ) .

والضمير في ( كان ) عائد إلى معلوم .

يقول : أرأيتم إن كان القرآن من عند الله ، ثم كفرتم به ، من أضل ممن هو في شقاق بعيد . فإنه على هذا التقدير يكون الكافر في شقاق بعيد قد شاق الله ورسوله ، ولا أحد أضل ممن هو في مثل هذا الشقاق ; حيث كان في شق ، والله ورسوله في شق ، كما قال تعالى :

( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) .

[ ص: 407 ] بين أن من تولى عن ذلك لم يكن متبعا للحق قاصدا له ، فإن هذا الذي قلتموه لا يتولى عنه من أهل الكتاب من قصده الحق ، وإنما يتولى عنه من قصده المشاقة والمعاداة ، لهوى نفسه ، وهذا يكفيك الله أمره .

والقرآن إن كان من عند الله ، ثم كفر به من كفر فلا أحد أضل ممن هو في مثل حاله ; إذ هو في شقاق بعيد ، وإن قدر أنه لم يعلم أنه حق فهو ضال . والشقاق قد يكون مع العناد ، وقد يكون مع الجهل ، فإن الآيات إذا ظهرت فأعرض عن النظر الموجب للعلم كان مشاقا ; ولهذا قال عقب ذلك :

( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) .

فأخبر أنه سيري عباده من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين أنه حق ، ثم قال :

( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) .

فإن شهادته وحده كافية بدون ما ينتظر من الآيات ، كما قال تعالى :

( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) .

وشهادته للقرآن ولمحمد ، تكون بأقواله التي أنزلها قبل ذلك على أنبيائه كما قال تعالى عن أهل الكتاب :

[ ص: 408 ] ( ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ) .

وتكون بأفعاله وهو ما يحدثه من الآيات والبراهين ، الدالة على صدق رسله ، فإنه صدقهم بها فيما أخبروا به عنه ، وشهد لهم بأنهم صادقون .

والقرآن - نفسه - هو قول الله ، وفيه شهادة الله بما أخبر به الرسول ، وإنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم وإتيان محمد به هو آية وبرهان ، وذلك من فعل الله ; إذ كان البشر لا يقدرون على مثله لا يقدر عليه أحد من الأنبياء ، ولا الأولياء ، ولا السحرة ، ولا غيرهم ، كما قال تعالى :

( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .

ومحمد أخبر بهذا في أول أمره إذ كانت هذه الآية في سورة ( سبحان ) وهي مكية .

، [ ص: 409 ] صدرها بذكر الإسراء الذي كان بمكة باتفاق الناس . وقد أخبر خبرا وأكده بالقسم عن جميع الثقلين - إنسهم وجنهم - أنهم إذا اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، بل يعجزون عن ذلك ، وهذا فيه آيات لنبوته .

منها إقدامه على هذا الخبر العظيم عن جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة بأنهم لا يفعلون هذا ، بل يعجزون عنه . هذا لا يقدم عليه من يطلب الناس أن يصدقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك ; إذ لو كان عنده شك في ذلك لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر فيفسد عليه ما قصده ، وهذا لا يقدم عليه عاقل مع اتفاق الأمم ؛ المؤمن بمحمد ، والكافر به ، على كمال عقله ومعرفته وخبرته ، إذ ساس العالم سياسة لم يسسهم أحد بمثلها .

، ثم جعله هذا في القرآن المتلو المحفوظ إلى يوم القيامة ، الذي يقرأ به في الصلوات ، ويسمعه العام والخاص ، والولي والعدو ، دليل على كمال ثقته بصدق هذا الخبر ، وإلا لو كان شاكا في ذلك لخاف أن يظهر كذبه عند خلق كثير ، بل عند أكثر من اتبعه ومن عاداه ، وهذا [ ص: 410 ] لا يفعله من يقصد أن يصدقه الناس ، فمن يقصد أن يصدقه الناس ، لا يقول مثل هذا ، ويظهره هذا الإظهار ، ويشيعه هذه الإشاعة ، ويخلده هذا التخليد ، إلا وهو جازم عند نفسه بصدقه .

ولا يتصور أن بشرا يجزم بهذا الخبر إلا أن يعلم أن هذا مما يعجز عنه الخلق ، إذ علم العالم بعجز جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة ، هو من أعظم دلائل كونه معجزا ، وكونه آية على نبوته ، فهذا من دلائل نبوته في أول الأمر عند من سمع هذا الكلام ، وعلم أنه من القرآن الذي أمر ببلاغه إلى جميع الخلق ، وهو وحده كاف في العلم بأن القرآن معجز .

دع ما سوى ذلك من الدلائل الكثيرة على أنه معجز ، مثل عجز جميع الأمم عن معارضته مع كمال الرغبة والحرص على معارضته ، وعدم الفعل مع كمال الداعي يستلزم عدم القدرة ، فلما كان دواعي العرب وغيرهم على المعارضة تامة ، علم عجز جميع الأمم عند معارضته ، وهذا برهان ثان يعلم به صدق هذا الخبر ، وصدق هذا الخبر آية لنبوته غير العلم بأن القرآن معجز ، فإن ذلك آية مستقلة لنبوته ، وهي آية ظاهرة باقية إلى آخر الدهر ، معلومة لكل أحد ، وهي من أعظم الآيات .

فإن كونه معجزا يعلم بأدلة متعددة ، والإعجاز فيه وجوه [ ص: 411 ] متعددة ، فتنوعت دلائل إعجازه ، وتنوعت وجوه إعجازه ، وكل وجه من الوجوه هو دال على إعجازه ، وهذه جمل لبسطها تفصيل طويل ; ولهذا قال تعالى :

( وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) .

فهو كاف في الدعوة والبيان ، وهو كاف في الحجة والبرهان .

التالي السابق


الخدمات العلمية