الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 422 ] والقرآن كلام الله ، وفيه الدعوة والحجة ،  فله به اختصاص على غيره كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة .

والقرآن يظهر كونه آية وبرهانا له من وجوه   : جملة وتفصيلا . أما الجملة ، فإنه قد علمت الخاصة والعامة من عامة الأمم ، علما متواترا أنه هو الذي أتى بهذا القرآن ، وتواترت بذلك الأخبار أعظم من تواترها بخبر كل أحد من الأنبياء والملوك والفلاسفة ، وغيرهم .

والقرآن نفسه فيه تحدي الأمم بالمعارضة  ، والتحدي هو أن يحدوهم : أي يدعوهم فيبعثهم إلى أن يعارضوه ، فيقال فيه : حداني على هذا الأمر : أي بعثني عليه ، ومنه سمي حادي العيس ؛ لأنه بحداه يبعثها على السير .

[ ص: 423 ] وقد يريد بعض الناس بالتحدي دعوى النبوة ، ولكنه أصله الأول ، قال تعالى : في سورة الطور :

( أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) .

فهنا قال :

( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) .

في أنه تقوله ، فإنه إذا كان محمد قادرا على أن يتقوله كما يقدر الإنسان على أن يتكلم بما يتكلم به من نظم ونثر ، كان هذا ممكنا للناس ، الذين هم من جنسه ، فأمكن الناس أن يأتوا بمثله .

ثم إنه تحداهم بعشر سور مثله فقال تعالى :

( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .

ثم تحداهم بسورة واحدة منه فقال تعالى :

( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .

[ ص: 424 ] فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات هم وكل من استطاعوا من دون الله ، ثم تحداهم بسورة واحدة هم ومن استطاعوا ، قال :

( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو ) .

وهذا أصل دعوته ، وهو الشهادة بأنه لا إله إلا الله ، والشهادة بأن محمدا رسول الله .

وقال تعالى : ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) .

كما قال :

( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ) .

أي : هو يعلم أنه منزل ، لا يعلم أنه مفترى ، كما قال :

( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ) .

[ ص: 425 ] أي : ما كان لأن يفترى ، يقول : ما كان ليفعل هذا . فلم ينف مجرد فعله ، بل نفى احتمال فعله ، وأخبر بأن مثل هذا لا يقع ، بل يمتنع وقوعه فيكون المعنى : ما يمكن ، ولا يحتمل ، ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله ، فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق ، والمخلوق لا يقدر على ذلك . وهذا التحدي كان بمكة ، فإن هذه السور مكية ؛ سورة يونس ، وهود ، والطور .

ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة ، فقال في ( البقرة ) وهي سورة مدنية :

( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) .

ثم قال :

( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ) .

فذكر أمرين :

أحدهما قوله :

( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار ) .

[ ص: 426 ] يقول : إذا لم تفعلوا فقد علمتم أنه حق ، فخافوا الله أن تكذبوه ، فيحيق بكم العذاب ، الذي وعد به المكذبين ، وهذا دعاء إلى سبيل ربه بالموعظة الحسنة ، بعد أن دعاهم بالحكمة ، وهو جدالهم بالتي هي أحسن .

والثاني قوله :

( ولن تفعلوا ) .

و ( لن ) لنفي المستقبل ، فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان ، لا يأتون بسورة من مثله كما أخبر قبل ذلك ، وأمره أن يقول في سورة ( سبحان ) ، وهي سورة مكية ، افتتحها بذكر الإسراء ، وهو كان بمكة بنص القرآن والخبر المتواتر ، وذكر فيها من مخاطبته للكفار بمكة ما يبين بذلك بقوله :

( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .

فعم بالخبر جميع الخلق معجزا لهم ، قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم ، لا يأتون بمثل هذا القرآن ، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك ، وهذا التحدي والدعاء هو لجميع الخلق ، وهذا قد سمعه كل من سمع القرآن وعرفه الخاص والعام ، وعلم - مع ذلك - أنهم لم يعارضوه ، ولا أتوا بسورة مثله ، ومن حين بعث ، وإلى اليوم ، الأمر على ذلك ، مع ما علم [ ص: 427 ] من أن الخلق كلهم كانوا كفارا قبل أن يبعث ، ولما بعث إنما تبعه قليل .

وكان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله ، مجتهدين بكل طريق يمكن ، تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسألونهم عن أمور من الغيب ، حتى يسألوه عنها ، كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين كما تقدم . وتارة يجتمعون في مجمع بعد مجمع على ما يقولونه فيه ، وصاروا يضربون له الأمثال ، فيشبهونه بمن ليس مثله لمجرد شبه ما مع ظهور الفرق . فتارة يقولون : مجنون . وتارة يقولون : ساحر . وتارة يقولون : كاهن . وتارة يقولون : شاعر . . . إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون - هم وكل عاقل سمعها - أنها افتراء عليه .

فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة - مرة بعد مرة - وهي تبطل دعوته ، فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها لفعلوها ، فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد إذا كانت القدرة حاصلة ، وجب وجود المقدور ، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض .

فهذا القدر يوجب علما بينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض ، عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة ، وبغير حيلة . وهذا أبلغ من الآيات التي يكرر جنسها كإحياء الموتى ، فإن هذا لم يأت أحد [ ص: 428 ] بنظيره ، وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط ، أو نظمه وأسلوبه فقط ، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط ، ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط ، ولا من جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط ، بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة   : من جهة اللفظ ، ومن جهة النظم ، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى ، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته ، وغير ذلك .

ومن جهة معانيه ، التي أخبر بها عن الغيب الماضي ، وعن الغيب المستقبل ، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية ، والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة ، كما قال تعالى :

( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) .

وقال تعالى : ( ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) .

وقال :

( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ) .

[ ص: 429 ] وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن ، هو حجة على إعجازه ، ولا تناقض في ذلك ، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له .

ومن أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام : إنه معجز بصرف الدواعي   - مع تمام الموجب لها - أو بسلب القدرة التامة ، أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبا عاما ، مثل قوله تعالى لزكريا :

( آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) .

وهو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام . فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل ، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله ، فامتناعهم - جميعهم - عن هذه المعارضة ، مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة ، من أبلغ الآيات الخارقة للعادات ، بمنزلة من يقول : إني آخذ أموال جميع أهل [ ص: 430 ] هذا البلد العظيم ، وأضربهم جميعهم ، وأجوعهم ، وهم قادرون على أن يشكوا إلى الله ، أو إلى ولي الأمر ، وليس فيهم - مع ذلك - من يشتكي ، فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة .

ولو قدر أن واحدا صنف كتابا يقدر أمثاله على تصنيف مثله ، أو قال شعرا ، يقدر أمثاله أن يقولوا مثله ، وتحداهم كلهم ، فقال : عارضوني ، وإن لم تعارضوني فأنتم كفار ، مأواكم النار ، ودماؤكم لي حلال ، امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد . فإذا لم يعارضوه كان هذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة .

والذي جاء بالقرآن قال للخلق كلهم : أنا رسول الله إليكم جميعا ، ومن آمن بي دخل الجنة  ، ومن لم يؤمن بي دخل النار ، وقد أبيح لي قتل رجالهم ، وسبي ذراريهم ، وغنيمة أموالهم ، ووجب عليهم كلهم طاعتي ، ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق ، ومن آياتي هذا القرآن ، فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله ، وأنا أخبركم أن أحدا لا يأتي بمثله .

فيقال : لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين .

فإن كانوا قادرين ، ولم يعارضوه ، بل صرف الله دواعي قلوبهم ، ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم ، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه ، فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل :

[ ص: 431 ] معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب ، فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد - فهذا من أبلغ الخوارق .

وإن كانوا عاجزين ، ثبت أنه خارق للعادة ، فثبت كونه خارقا على تقدير النقيضين ; النفي والإثبات . فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر .

فهذا غاية التنزل ، وإلا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته ، لا يقدرون على ذلك ، ولا يقدر محمد صلى الله عليه وسلم - نفسه - من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن ، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر ، كما قد أخبر الله به في قوله .

( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .

وأيضا فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة ، لكنهم يحسون من أنفسهم العجز عن المعارضة ، ولو كانوا قادرين لعارضوه .

[ ص: 432 ] وقد انتدب غير واحد لمعارضته ، لكن جاء بكلام فضح به نفسه ، وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله ، مثل قرآن مسيلمة الكذاب ، كقوله : ( يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي كم تنقين ، لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين ، رأسك في الماء ، وذنبك في الطين ) .

وكذلك - أيضا - يعرفون أنه لم يختلف حال قدرتهم قبل سماعه وبعد سماعه ، فلا يجدون أنفسهم عاجزين عما كانوا قادرين عليه كما وجد زكريا عجزه عن الكلام بعد قدرته عليه .

وأيضا فلا نزاع بين العقلاء المؤمنين بمحمد والمكذبين له ، إنه كان قصده أن يصدقه الناس ولا يكذبوه ، وكان - مع ذلك - من أعقل الناس وأخبرهم وأعرفهم بما جاء به ، ينال مقصوده ، سواء قيل : إنه صادق أو كاذب . فإن من دعا الناس إلى مثل هذا الأمر العظيم ، ولم يزل حتى استجابوا له طوعا وكرها ، وظهرت دعوته وانتشرت ملته هذا الانتشار ، هو من عظماء الرجال على أي حال كان . فإقدامه - مع هذا القصد - في أول الأمر وهو بمكة ، وأتباعه قليل ، على أن يقول خبرا ، يقطع به أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، لا في ذلك العصر ، ولا في سائر الأعصار [ ص: 433 ] المتأخرة ، لا يكون إلا مع جزمه بذلك ، وتيقنه له ، وإلا فمع الشك والظن لا يقول ذلك من يخاف أن يظهر كذبه فيفتضح فيرجع الناس عن تصديقه .

وإذا كان جازما بذلك - متيقنا له - لم يكن ذلك إلا عن إعلام الله له بذلك . وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة البشر . والعلم بهذا يستلزم كونه معجزا ، فإنا نعلم ذلك وإن لم يكن علمنا بذلك خارقا للعادة ، ولكن يلزم من العلم ثبوت المعلوم ، وإلا كان العلم جهلا ، فثبت أنه على كل تقدير يستلزم كونه خارقا للعادة .

وأما التفصيل ، فيقال : نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ، ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب  ، فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الخطابة ولا الرسائل ، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم ، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة ، ليس له نظير في كلام جميع الخلق ، وبسط هذا وتفصيله طويل ، يعرفه من له نظر وتدبر .

[ ص: 434 ] ونفس ما أخبر به القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته ، أمر عجيب خارق للعادة ، لم يوجد مثل ذلك في كلام بشر ، لا نبي ولا غير نبي .

وكذلك ما أخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والجن وخلق آدم ، وغير ذلك ، ونفس ما أمر به القرآن من الدين ، والشرائع كذلك ، ونفس ما أخبر به من الأمثال ، وبينه من الدلائل هو - أيضا - كذلك .

ومن تدبر ما صنفه جميع العقلاء في العلوم الإلهية والخلقية والسياسية وجد بينه وبين ما جاء في الكتب الإلهية - التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء - وجد بين ذلك وبين القرآن من التفاوت أعظم مما بين لفظه ونظمه ، وبين سائر ألفاظ العرب ونظمهم   .

فالإعجاز في معناه أعظم وأكثر من الإعجاز في لفظه ، وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه . وما في التوراة والإنجيل : ولو قدر أنه مثل القرآن ، لا يقدح في المقصود ، فإن تلك كتب الله - أيضا - ولا يمتنع أن يأتي نبي بنظير آية نبي ، كما أتى المسيح بإحياء الموتى ، وقد وقع إحياء الموتى على يد غيره ؛ فكيف وليس ما في التوراة والإنجيل مماثلا [ ص: 435 ] لمعاني القرآن ؛ لا في الحقيقة ولا في الكيفية ولا الكمية ، بل يظهر التفاوت لكل من تدبر القرآن وتدبر الكتب .

وهذه الأمور من ظهرت له من أهل العلم والمعرفة ، ظهر له إعجازه من هذا الوجه ، ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله كعجز جميع الخلق عن الإتيان بمثله مع تحدي النبي ، وإخباره بعجزهم ، فإن هذا أمر ظاهر لكل أحد .

ودلائل النبوة من جنس دلائل الربوبية  ، فيها الظاهر البين لكل أحد ; كالحوادث المشهودة ; مثل خلق الحيوان والنبات والسحاب وإنزال المطر ، وغير ذلك ، وفيها ما يختص به من عرفه مثل دقائق التشريح ومقادير الكواكب وحركاتها ، وغير ذلك ، فإن الخلق كلهم محتاجون إلى الإقرار بالخالق والإقرار برسله ، وما اشتدت الحاجة إليه في الدين والدنيا فإن الله يجود به على عباده جودا عاما ميسرا .

فلما كانت حاجتهم إلى النفس أكثر من حاجتهم إلى الماء ، وحاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى الأكل ، كان سبحانه قد جاء بالهواء جودا عاما في كل مكان وزمان لضرورة الحيوان إليه ، ثم [ ص: 436 ] الماء دونه ، ولكنه يوجد أكثر مما يوجد القوت وأيسر ؛ لأن الحاجة إليه أشد .

فكذلك دلائل الربوبية ، حاجة الخلق إليها في دينهم أشد الحاجات ، ثم دلائل النبوة ; فلهذا يسرها الله وسهلها أكثر مما لا يحتاج إليه العامة ، مثل تماثل الأجسام واختلافها ، وبقاء الأعراض أو فنائها ، وثبوت الجوهر الفرد أو انتفائه ، ومثل مسائل المستحاضة ، وفوات الحج وفساده ، ونحو ذلك مما يتكلم فيه بعض العلماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية