الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 68 ] وقد ذكرنا بعض آياته التي في القرآن ؛ لأن من أهل الكتاب من يقول : لا نصدق إلا بما في القرآن كما في التوراة ، والإنجيل من آيات موسى ، والمسيح إذ كان نقل القرآن عنه متواترا لا يستريب فيه أحد ، فنبهنا على بعض ما في القرآن مع أن آياته التي ليست في القرآن كثيرة جدا . وليس من شرط المنقول المتواتر أن يكون في القرآن بل كما تواتر عنه في شريعته ما ليس في القرآن ، وهو من الحكمة التي أنزلها الله عليه كذلك ، وتواتر عنه من دلائل نبوته ما ليس في القرآن ، وهو من براهينه وآياته ، وقد قال تعالى : في غير موضع : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة فالحكمة نزلت عليه ، وهي منقولة في غير القرآن ، وقد تواتر عنه كون الصلوات خمسا ، والفجر ركعتين ، [ ص: 69 ] والمغرب ثلاثا ، والباقي أربعا أربعا ، والرباعية في السفر ركعتان ، وتواتر عنه سجود السهو ، كذلك متواتر عنه أنواع من المعجزات والأخبار المتواترة في أصناف آياته وبراهينه كثيرة جدا ، لا يمكن إحصاؤها ، وهي مشتملة على جنسي العلم ، والقدرة على أنواع من الإخبار بالغيوب المستقبلة مفصلة ، كأنما رآها بعينه ، لم يأت منها خبر إلا كما أخبر به ، وهذا أمر لم يكن قط إلا لنبي . أما الكاهن والمنجم ونحو هؤلاء فيكذبون كثيرا ، كما يصدقون أحيانا ، ويخبرون بجمل غير مفصلة . وأما أهل الولاية ، والصلاح فأعظمهم كشفا يخبر عن ذلك بأمور قليلة لا تبلغ عشر معشار ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يخبرون بها مفصلة كخبره ، وعلى أنواع من القدرة والتصرف الخارق للعادة ، والآيات إما من باب العلم والخبر والمكاشفة ، وإما من باب القدرة ، والتأثير ، والتصرف . [ ص: 70 ] وفي القرآن من الإخبار بالمستقبلات شيء كثير ، كقوله تعالى : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد فغلبت الروم فارس في بضع سنين ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك فيما مضى ، وكقوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ، وكان كما أخبر . وروى الدارمي ، [ ص: 71 ] عن أبي بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه المدينة ، وآواهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة ، وكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ، ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : ترون أنا نعيش حتى نبيت مطمئنين ، لا نخاف إلا الله عز وجل ، فنزلت : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات إلى آخر الآية . وكان كذلك ، استخلف الله المؤمنين في الأرض ، ومكن لهم دينهم في مشارق الأرض ومغاربها . وقال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا [ ص: 72 ] وكان كما أخبر ووعد ، وقال تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله . وكان كما أخبر . وقال تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله إلى قوله : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين فأخبر أنهم لن يفعلوا ، وكان كما أخبر . وأخبر أنه قال للمسيح : وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، وكان كما أخبر . وأنزل في مكة : [ ص: 73 ] سيهزم الجمع ويولون الدبر ، وقال : ، ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا فكان كما أخبر . وقال : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وكانوا كما أخبر . وقال : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله [ ص: 74 ] وكان كما أخبر . وقال : لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، وقال : ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار [ ص: 75 ] وقال : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم . وكان كذلك ، فلم يقاتلوهم بعد نزول الآية إلا انتصر عليهم المسلمون ، وما زال الإسلام في عز وظهور حتى ظهر على أهل المشرق والمغرب . وقال تعالى خطابا لليهود : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا . وقال : قل ياأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [ ص: 76 ] فأخبر عن اليهود أنهم لن يتمنوا الموت أبدا ، وكان كما أخبر ، فلا يتمنى اليهود الموت أبدا ، وهذا دليل من وجهين : من جهة إخباره بأنه لا يكون أبدا ، ومن جهة صرف الله لدواعي اليهود عن تمني الموت ، مع أن ذلك مقدور لهم ، وهذا من أعجب الأمور الخارقة للعادة ، وهم - مع حرصهم على تكذيبه - لم تنبعث دواعيهم لإظهار تكذيبه ، بإظهار تمني الموت . وقال في سورة المدثر : ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا إلى قوله سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر . وقال عن أبي لهب - عمه - : تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب ، وكان كما أخبر به ، مات الوليد كافرا ، ومات أبو لهب كافرا . [ ص: 77 ] وقال في سورة الفتح : وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين . وقال : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . وقال : قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما . وهذا كله وقع كما أخبر ، فحصلت لهم الغنائم الكثيرة ، ودخلوا المسجد الحرام آمنين ، ودعيت الأعراب إلى قتال الروم ، والفرس يقاتلونهم أو يسلمون ، فلا بد من القتال أو الإسلام ، ليس هناك هدنة بلا قتال ، كما كان يكون قبل نزول الآية . [ ص: 78 ] وقال تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . فدخل الناس في دين الله أفواجا بعد الفتح ، فما مات صلى الله عليه وسلم ، وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام . وقال تعالى عن المنافقين : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون . وكذلك كان ، فروى أهل التفسير والمغازي والسير أن هذه الآية نزلت في المنافقين ، كعبد الله بن أبي ، وعبد الله . . . . . . . . . . . . [ ص: 79 ] بن نبتل ، ورفاعة بن تابوت ، ونحوهم ، كانوا يقولون لبني النضير ، وهم اليهود حلفاؤهم : لئن أخرجتم لنخرجن معكم الآية . فأخبر الله عنهم أنهم لن يفعلوا ذلك ، وكذلك كان ، وضرب الله لهم مثلا بالشيطان : إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين . كذلك المنافقون ، وبنو النضير .

التالي السابق


الخدمات العلمية