الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 159 ] وآياته صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالقدرة والفعل والتأثير أنواع ، الأول منها : ما هو في العالم العلوي كانشقاق القمر ، وحراسة السماء بالشهب الحراسة التامة لما بعث ، كمعراجه إلى السماء ، فقد ذكر الله انشقاق القمر ، وبين أن الله فعله ، وأخبر به لحكمتين عظيمتين :

أحدهما : كونه من آيات النبوة ، لما سأله المشركون آية ، فأراهم انشقاق القمر .

والثانية : أنه دلالة على جواز انشقاق الفلك ، وأن ذلك دليل على ما أخبرت به الأنبياء من انشقاق السماوات ، ولهذا قال تعالى : [ ص: 160 ] اقتربت الساعة وانشق القمر ( 1 ) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ( 2 ) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ( 3 ) ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ( 4 ) حكمة بالغة فما تغن النذر ( 5 ) فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ( 6 ) خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ( 7 ) . فذكر اقتراب الساعة ، وانشقاق القمر ، وجعل الآية في انشقاق القمر دون الشمس وسائر الكواكب ؛ لأنه أقرب إلى الأرض من الشمس والنجوم ، وكان الانشقاق فيه دون سائر أجزاء الفلك ؛ إذ هو الجسم المستنير الذي يظهر فيه الانشقاق لكل من يراه ظهورا لا يتمارى فيه ، وأنه - نفسه - إذا قبل الانشاق فقبول محله أولى بذلك ، وقد عاينه الناس وشاهدوه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار مثل : صلاة الجمعة ، والعيدين ليسمع الناس ما فيها من آيات النبوة ، ودلائلها ، والاعتبار بما فيها . وكل الناس يقر بذلك ولا ينكره ، فعلم أن انشقاق القمر كان معلوما عند الناس عامة . وفي صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : [ ص: 161 ] ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى ، والفطر ؟ فقال : كان يقرأ فيهما بـ ( ق والقرآن المجيد ) ، و ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . ومعلوم بالضرورة في مطرد العادة ، أنه لو لم يكن انشق لأسرع المؤمنون به إلى تكذيب ذلك ، فضلا عن أعدائه الكفار ، والمنافقين ، ومعلوم أنه كان من أحرص الناس على تصديق الخلق له ، واتباعهم إياه ، فلو لم يكن انشق لما كان يخبر به ويقرؤه على جميع الناس ، ويستدل به ، ويجعله آية له . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال : إن أهل مكة سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين .

[ ص: 162 ] وعنه قال : إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فانشق القمر فرقتين . ورواه الترمذي ، وزاد فيه فنزلت : اقتربت الساعة وانشق القمر . إلى قوله تعالى : سحر مستمر . يقول : ذاهب . وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشهدوا [ ص: 163 ] وعن ابن مسعود أيضا قال : رأيت القمر منشقا شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، شقة على جبل أبي قبيس ، وشقة على السويداء فقال كفار قريش - أهل مكة - : هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة ، انظروا السفار فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق ، وإن لم يكونوا رأوا مثل ما رأيتم فهو سحر . قال : فسئل السفار ، وقدموا من كل وجه ، فقالوا : رأينا . رواه البخاري ، ومسلم . [ ص: 164 ] وروى البخاري ، عن ابن عباس أنه قال : انشق القمر على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى مسلم ، عن ابن عمر في قوله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر . قال : قد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق القمر فلقتين ، فلقة من دون الجبل ، وفلقة من خلف الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اشهد . وعن جبير بن مطعم قال : انشق القمر ونحن بمكة حتى صار فرقتين على هذا الجبل ، وعلى هذا الجبل ، فقال الناس : سحرنا محمد ! قال رجل : إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلهم . رواه [ ص: 165 ] الترمذي . وكذلك صعوده ليلة المعراج إلى ما فوق السماوات ، وهذا مما تواترت به الأحاديث ، وأخبر به القرآن ، أخبر بمسراه ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهو بيت المقدس ، وفي موضع آخر بصعوده إلى السماوات ، فقال تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير . فأخبر هنا بمسراه ليلا بين المسجدين ، وأخبر أنه فعل ذلك ليريه من آياته . ومعلوم أن الأرض قد رأى سائر الناس ما فيها من الآيات ، فعلم أن ذلك ليريه آيات لم يرها عموم الناس ، كما قال في السورة الأخرى : [ ص: 166 ] أفتمارونه على ما يرى ( 12 ) ولقد رآه نزلة أخرى ( 13 ) عند سدرة المنتهى ( 14 ) عندها جنة المأوى ( 15 ) إذ يغشى السدرة ما يغشى ( 16 ) ما زاغ البصر وما طغى ( 17 ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى . وفي الصحيحين عن ابن عباس في قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس . قال : هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به . فكان في إخباره بالمسرى - لنريه من آياتنا - بيان أنه رأى من آياته ما لم يره الناس ، وقد بين ذلك في السورة الأخرى فإنه رأى جبريل عند سدرة المنتهى : عندها جنة المأوى ( 15 ) إذ يغشى السدرة ما يغشى . [ ص: 167 ] وأنه رأى بالبصر آيات ربه الكبرى ، وذكر في تلك السورة المسرى ؛ لأنه أمكنه أن يقيم عليه برهانا . فإنه لما أخبرهم به فكذبه من كذبه ، وتعجبوا من ذلك ، سألوه عن نعته وصفته ، فنعته لهم لم يخرم من النعت شيئا ، وأخبر خبر عيرهم التي كانت في الطريق ، فظهر لهم صدقه ، وكان صدقه في هذا آية على صدقه فيما غاب عنهم ، وكان قطع المسافة البعيدة في الزمان اليسير لأجل ما أراه من الآيات التي تختص برؤيتها الأنبياء . وبهذا تميز عمن يقطع المسافة كرامة لولي أو بتسخير الجن ، كما في قصة بلقيس حيث : قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ( 39 ) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك [ ص: 168 ] فإن قطع الجسم للمسافة البعيدة إنما كان لما أوتيه سليمان من الملك ، كما كانت الريح : تجري بأمره رخاء حيث أصاب ( 36 ) والشياطين كل بناء وغواص ( 37 ) وآخرين مقرنين في الأصفاد ( 38 ) . وهذا تسخير ملكي . وقطع محمد صلى الله عليه وسلم كان لما أراه الله من الآيات التي ميزه بها على سائر النبيين ، وكان ذلك فتنة : أي محنة وابتلاء للناس ، ليتبين من يؤمن به ممن يكذبه . وأحاديث المعراج وصعوده إلى ما فوق السماوات ، وفرض الرب عليه الصلوات الخمس حينئذ ، ورؤيته لما رآه من الآيات ، والجنة والنار ، والملائكة والأنبياء ، في السماوات والبيت المعمور ، وسدرة المنتهى ، وغير ذلك ، معروف [ ص: 169 ] متواتر في الأحاديث ، وهذا النوع لم يكن لغيره من الأنبياء مثله ، يظهر به تحقيق قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . فالدرجات التي رفعها محمد ليلة المعراج ، وسيرفعها في الآخرة في المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، الذي ليس لغيره مثله ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة ، وأبي ذر ، ومن رواية ابن عباس ، وأبي حبة الأنصاري ، وغيرهم . [ ص: 170 ] فروى أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى بصره ، قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس . قال : فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ، قال : ثم دخلت المسجد ، فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر ، وإناء من لبن فاخترت اللبن ، فقال جبريل عليه السلام : اخترت الفطرة ، ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . قال : ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم . قيل : وبعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . قال : ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ، ويحيى بن زكريا عليهما السلام ، فرحبا بي ، ودعوا لي بخير ، ثم عرج بي إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه [ ص: 171 ] وسلم . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بيوسف عليه السلام ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن قال : فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل : من هذا ؟ قال : جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بإدريس صلى الله عليه وسلم فرحب ودعا لي بخير ، قال الله عز وجل : ورفعناه مكانا عليا ، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل عليه السلام ، فقيل من هذا ؟ قال : جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد [ ص: 172 ] صلى الله عليه وسلم . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم ، فرحب ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبريل عليه السلام ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم . قيل أوقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بموسى عليه السلام ، فرحب ودعا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل عليه السلام ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسند ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلي [ ص: 173 ] ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى عليه السلام ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم . قال : فرجعت إلى ربي فقلت : رب ، خفف عن أمتي ، فحط عني خمسا ، فرجعت إلى موسى عليه السلام ، فقلت : حط عني خمس ، قال : فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال لي : يا محمد ، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة . قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى عليه السلام ، فأخبرته ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه . وفي رواية قال : فأتيت فانطلق بي إلى زمزم فشرح عن [ ص: 174 ] صدري ، ثم غسل بماء زمزم ، ثم أنزلت طست من ذهب مملوءة حكما وإيمانا ، فحشي بها صدري . وفي رواية : فشق من النحر إلى مراق البطن . وقال عن البيت المعمور : فقلت : ما هذا ؟ قال : بناء بناه الله لملائكته يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك يقدسون الله ويسبحونه ، لا يعودون إليه . وفي حديث أبي ذر : فنزل جبريل ، ففرج صدري ، ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا ، فأفرغها في صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا ، فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل لخازن سماء الدنيا : افتح . قال : من هذا ؟ قال : جبريل . قال : هل معك أحد ؟ قال : نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم . فلما علونا السماء فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ، قال : فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر عن شماله بكى ، قال : مرحبا بالابن الصالح ، والنبي الصالح . قال : قلت : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا آدم ، وهذه الأسودة عن يمينه ، وعن شماله نسم بنيه ، فأهل اليمين أهل الجنة ، [ ص: 175 ] والأسودة التي عن شماله أهل النار . قال الزهري : وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس ، وأبا حبة الأنصاري يقولان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع منه صريف الأقلام . وفي صحيح مسلم ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السابعة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض ، فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها ، فيقبض منها ، قال : إذ يغشى السدرة ما يغشى [ ص: 176 ] قال : فراش من ذهب ، قال : فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات . وعنه في قوله عز وجل : فكان قاب قوسين أو أدنى . قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح . وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله [ ص: 177 ] عليه وسلم قال : لما كذبتني قريش قمت في الحجر ، فجلى الله لي بيت المقدس ، فطفقت أخبرهم عن آياته ، وأنا أنظر إليه . وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأيتني في الحجر ، وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط ، قال : فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به . وصعود الآدمي ببدنه إلى السماء قد ثبت في أمر المسيح [ ص: 178 ] عيسى بن مريم عليه السلام ، فإنه صعد إلى السماء ، وسوف ينزل إلى الأرض ، وهذا مما يوافق النصارى عليه المسلمين ، فإنهم يقولون : إن المسيح صعد إلى السماء ببدنه وروحه كما يقوله المسلمون ، ويقولون : إنه سوف ينزل إلى الأرض أيضا كما يقوله المسلمون ، وكما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة ، لكن كثيرا من النصارى يقولون : إنه صعد بعد أن صلب ، وأنه قام من القبر ، وكثير من اليهود يقولون : إنه صلب ولم يصعد ، ولم يقم من قبره . وأما المسلمون وكثير من النصارى فيقولون : إنه لم يصلب ولكن صعد إلى السماء بلا صلب . والمسلمون ، ومن وافقهم من النصارى يقولون : إنه ينزل إلى الأرض قبل القيامة ، وأن نزوله من أشراط الساعة كما دل على ذلك الكتاب والسنة . وكثير من النصارى يقولون : إن نزوله هو يوم القيامة ، وإنه هو الله الذي يحاسب الخلق ، وكذلك إدريس صعد إلى السماء ببدنه ، وكذلك عند أهل الكتاب أن إلياس صعد إلى السماء ببدنه . ومن أنكر صعود بدن إلى السماء من المتفلسفة فعمدته شيئان :

أحدهما : أن الجسم الثقيل لا يصعد ، وهذا في غاية الضعف ، [ ص: 179 ] فإن صعود الأجسام الثقيلة إلى الهواء مما تواترت به الأخبار في أمور متعددة ، مثل عرش بلقيس الذي حمل من اليمن إلى الشام في لحظة ، ولما قال سليمان : ياأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون . ومثل حمل الريح لسليمان عليه السلام وعسكره لما كان يحمل البساط في الهواء ، وهو جالس عليه بأصحابه ، ومثل حمل قرى قوم لوط ، ثم إلقائها في الهواء ، ومثل المسرى إلى بيت المقدس الذي ظهر صدق الرسول بخبره . وبهذا يظهر جوابهم عن إنكارهم انشقاق القمر ، فإن عمدتهم فيه [ ص: 180 ] أن الفلك لا يقبل الانشقاق ، وقد عرف فساد ذلك عقلا وسمعا ، وتواتر عن الأنبياء أنهم أخبروا بانشقاق السماوات ، وإيضاح الرد على هؤلاء أن ما يثبتونه من أن الحركة لا بد لها من جهة ومحدد يحدد الجهات ، إنما يدل على الافتقار إلى جنس المحدد ، لا يدل على الاحتياج إلى محدد معين . فإذا قدر أنه خلق وراء المحدد محددا آخر ، وخرق الأول حصل به المقصود ، وهكذا عامة أدلتهم ، إنما تدل على شيء مطلق ، لكن يعينونه بلا حجة فيغلطون في التعيين ، كدليلهم على دوام الفاعلية أو الحركة ، أو زمانها ، فإن ذلك لا يدل على الحركة الفلكية ، وأن الزمان هو مقدار الحركة ، بل إذا كان الله قد خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كما أخبرت به الرسل ، لم تكن تلك الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض هي مقدار حركة الشمس التي هي مما خلق في تلك الأيام . بل وقد أخبر الله تعالى أنه كان عرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض ، وأخبر أنه خلق السماوات من دخان ، وهو بخار الماء . فإذا كان قبل هذه الحركات المشهودة حركات أخر لأجسام غير هذه الأجسام المشهودة ، لم يكن هذا مناقضا لما دل عليه العقل . [ ص: 181 ] ورجال كثير في زماننا وغير زماننا يحملون من مكان إلى مكان في الهواء ، وهذا مما تواتر عندنا وعند من يعرف ذلك . وأيضا فمعلوم أن النار والهواء الخفيف تحرك حركة قسرية فيهبط ، والتراب والماء الثقيلان يحركان حركة قسرية فيصعد ، وهذا مما جرت به العادة .

والشبهة الثانية : ظن بعض المتفلسفة كأرسطو وشيعته ، أن الأفلاك لا تقبل الانشقاق ، وحجتهم على ذلك في غاية الضعف ، فإنهم قالوا : لو كانت تقبل الانشقاق لكان المحدد للأفلاك المحرك لها يتحرك حركة مستقيمة ، والحركة المستقيمة تحتاج إلى خلاء خارج العالم ، ولا خلاء هناك . وهذه الحجة فاسدة من وجوه : منها : أنها تدل على ذلك في الفلك الأعلى ، لا فيما دونه ، كفلك القمر وغيره ، وهذا مما أجابهم به الرازي وغيره . ومنها : أن وجود أجسام خارج الفلك كوجود الفلك في حيزه يحتاج إلى خلاء . وقوله بنفي الخلاء خارجه كقوله بنفي الخلاء عن [ ص: 182 ] حيزه ، فإن كان الخلاء عدما محضا فهو منتف في الجانبين . وإن قيل : إنه أمر وجودي لزم أن يحتاج إليه في الموضعين ، وحينئذ فيبطل القول بنفيه . وكذلك ما يذكرونه في قدم العالم ، فليس مع القوم دليل واحد عقلي صحيح يناقض ما أخبرت به الرسل ، ولكن قد تناقض ما يظنه بعض أهل الكلام من دين الرسل كما قد بسط في غير هذا الموضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية