الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 324 ] في الطرق التي تبين بها أن هذه الأخبار تفيد العلم .

وهذه الأخبار منها ما هو في القرآن ، ومنها ما هو متواتر يعلمه العامة والخاصة ، كنبع الماء من بين أصابعه ، وتكثير الطعام ، وحنين الجذع ، ونحو ذلك ، فإن كلا من ذلك تواترت به الأخبار واستفاضت ، ونقلته الأمة جيلا بعد جيل ، وخلفا عن سلف ، فما من طبقة من طبقات الأمة إلا وهذه الآيات منقولة مشهورة مستفيضة فيها ، ينقلها أكثر ممن ينقل كثيرا من القرآن ، وقد نقلها وسمعها من الأمة أكثر ممن سمع ونقل كثيرا من آيات القرآن ، وأكثر ممن سمع ونقل أنه كان يسجد في الصلاة سجدتي السهو ، وممن سمع ونقل نصب الزكاة وفرائضها ، بل مواقيت الصلاة وأعدادها ، إنما شاع نقلها للعمل الدائم بها

وأما هذه الآيات فنقلها أكثر ممن نقل مواقيت الصلاة من جهة الأخبار المعينة ، وذلك أن آيات الرسول كان كثيرا منها يكون بمشهد من الخلق العظيم فيشاهدون تلك الآيات كما شاهد أهل الحديبية ، وهم ألف وخمسمائة ، نبع الماء من بين أصابعه ، وظهور الماء [ ص: 325 ] الكثير من بئر الحديبية لما نزحوها ، ولم يتركوا فيها قطرة فكثر حتى روى العسكر ، وكما شاهد العسكر في غزوة ذات الرقاع الماء اليسير لما صبه جابر في الجفنة وامتلأت ، وملأ منها جميع العسكر ، وكما شاهد الجيش في رجوعهم من غزوة خيبر المزادتين مع المرأة ، وقد ملأوا كل وعاء معهم وشربوا ، وهي ملأى كما هي .

وكما شاهد أهل خيبر ، وهم ألف وخمسمائة الطعام الذي كان كربضة الشاة فأشبع الجيش كلهم ، وكما شاهد الجيش العظيم ، وهم نحو ثلاثين ألفا في تبوك العين لما كانت قليلة الماء فكثر ماؤها حتى كفاهم ، وشاهدوا الطعام الذي جمعوه على نطع فأخذوا منه حتى كفاهم ، وكما شاهد أهل الخندق ، وهم أكثر من ألف كثرة الطعام في بيت جابر بعد أن كان صاعا من شعير وعناقا ، فأكلوا كلهم بعد الجوع حتى شبعوا ، وفضلت فضلة

وكما شاهد الثمانون نفسا كثرة الطعام لما أكلوا في بيت أبي طلحة ، وكما شاهد الثلاثمائة كثرة الماء لما توضأوا من قدح ، والماء ينبع من بين أصابعه ، حتى كفاهم للوضوء ، وكذلك وليمة زينب كانوا ثلاثمائة فأكلوا من طعام في تور من حجارة ، وهو [ ص: 326 ] باق فظن أنس أنه أزيد مما كان ، وكانوا يتداولون قصعة من غدوة إلى الليل ، يقوم عشرة ويقعد عشرة ، كما في حديث سمرة بن جندب ، وأهل الصفة لما شربوا كلهم من اللبن القليل وكفاهم وفضل ، وكانوا ينقلون ذلك بينهم ، وهو مشهور ينقله بعض من شاهده إلى من غاب عنه ، فكان استفاضة آياته وشهرتها وتواترها في الأمة أعظم من تواتر سجود السهو في الصلاة ، فإن هذا إنما كان مرات قليلة ، ولم يحضره إلا المصلون خلفه لتلك الصلاة ، وكذلك نقلهم لنصب الزكاة وفرائضها ، فإن هذا إنما سمعه منه طائفة قليلة ، ونقلوه .

وكذلك حكمه بالشفعة فيما لا يقسم ، وقضاؤه بأن دية الخطأ على العاقلة ، وقضاؤه بأن الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ونهيه عن نكاح الشغار ، وتحريمه لطلاق الحائض وطلاق الموطوءة قبل أن يتبين حملها ، وأن المعتقة تحت عبد يثبت لها الخيار ، وتوريث [ ص: 327 ] الجدة السدس ، ونهيه أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها ، وقوله " فيما سقت السماء العشر ، وما سقي بالدوالي والنواضح نصف العشر " وأمثال ذلك إنما سمعها طائفة من الأمة هم أقل بكثير ممن شاهدوا آياته ، ثم إن الأمة متفقة على نقل ذلك ، وهذه الأحكام متواترة عنه معلومة بالاضطرار من دينه .

فإذا كان مثل هذه الأمور تواتر في الأمة ، واتفقت على نقله ، فكيف بما كان أشهر وأظهر عند من عاينه ، وكان علم الذين رأوه به أظهر من علمهم بهذه الأحكام ، وقد نقلوا ذلك إلى من غاب عنهم ، فإنه قطعا يجب أن يكون تواتر هذه الآيات في الأمة أعظم وأظهر ، ولهذا لا يكاد يوجد مسلم إلا وقد عرف كثيرا من هذه الآيات وسمعها ونقلها إلى غيره ، بخلاف كثير من الأحكام المتواترة عنه المتفق على نقلها عند العلماء ، فإن كثيرا من الناس لا يعرفها ، ولا سمعها .

وإذا قال القائل : هذه مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها ، فلو كانت موجودة لتوفرت الهمم والدواعي على نقلها ، ولو كان كذلك لتواترت . قلنا : وكذلك هو ولله الحمد ، توفرت الهمم والدواعي [ ص: 328 ] على نقلها أكثر مما توفرت الهمم والدواعي على نقل أكثر آيات الأنبياء قبله ، وأكثر مما توفرت الهمم والدواعي على نقل الأخبار العجيبة من سير الملوك والخلفاء ، فإن من تدبر نقل هذه الآيات وجد شهرتها في كل زمان ، وظهور الأخبار بها أعظم من شهرة ما نقل من أخبار الأنبياء وسير الملوك والدول التي جرت العادة بتوفر الهمم والدواعي على نقلها ، فإن مثل هذا لا يجب في كونه متواترا أن يتواتر عند كل أحد من الناس .

فإن أكثر ما تواتر عند كل أمة من أحوال متقدميها قد لا يسمعه كثير من الأمم من غيرهم فضلا عن تواتره عندهم حتى إن كثيرا من الأمم الذين لا يعرفون الأنبياء قد لا يكونوا قد سمعوا بأسماء الأنبياء ولا بأخبارهم فضلا عن تواترها عندهم ، وأكثر أتباع الأنبياء لم يتواتر عندهم من أخبار الملوك وسيرهم ما تواتر عند غيرهم حتى إن أكثر المسلمين لم يسمعوا بأسماء خلفاء بني أمية ، وبني العباس ، وأسماء وزرائهم ونوابهم وقوادهم . [ ص: 329 ] وبالحروب التي جرت بينهم ، ولا يعرفون الوقائع العظيمة من الحروب التي كانت بين المسلمين وأعدائهم مثل يوم أجنادين ، ويوم مرج الصفر ، ويوم فحل ، ومثل يوم الحرة ، ويوم مرج راهط ، وفتنة [ ص: 330 ] ابن المهلب ، وفتنة ابن الأشعث والقراء مع الحجاج ، وحرب مصعب بن الزبير مع المختار بن أبي عبيد ، وفتنة [ ص: 331 ] المنصور مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بالمدينة ، ومع أخيه إبراهيم بالبصرة ، ومثل جسر أبي عبيد ، ويوم اليرموك ، ويوم [ ص: 332 ] القادسية ، ولا يعرفون أن المسلمين فتحوا قبرص ، ولا غزوا القسطنطينية مرتين ، مرة في زمن معاوية ، ومرة في زمن بني مروان .

وكذلك الفتن التي كانت بين المسلمين . لا بل أكثر العامة لم يسمعوا بأبي مسلم صاحب الدعوة ، وبعبد الله بن علي بن [ ص: 333 ] عبد الله بن عباس ، وما جرى لهما من الحروب مع عساكر مروان آخر خلفاء بني أمية ، ولم يسمعوا أيضا بدخول عبد الرحمن بن هشام إلى الأندلس ، وما جرى له فيها ، ولا بالفتنة التي بين ابني الرشيد الأمين [ ص: 334 ] والمأمون مع أن هذه الأمور هي متواترة عند أهل العلم بالسير وأخبار الناس والتواريخ ، وظهور هذه الآيات التي هي دلائل النبوة وأعلامها مشهورة بين الأمة عامتها وخاصتها في كل زمان أعظم من ظهور هذه الأخبار المتواترة فهي أحق أن تجعل متواترة من هذه ، ونقلة هذه الآيات من الخاصة : أهل العلم ، وكتب الحديث والتفسير والمغازي والسير وكتب الأصول والفقه التي توجد فيها هذه الأخبار أصح نقلا باتفاق أهل العقل والعلم من كتب التواريخ المرسلة ، فإن تلك كثير من أخبارها منقطع الإسناد ، وفيها من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله ، وإن كان أصل القصة قد يكون متواترا ، وهذه الآيات المشهورة في الأمة كثير من أجناسها متواتر عند أهل العلم ، وكثير من آحادها متواتر عند الخاصة .

[ ص: 335 ] بل وكثير من الفقهاء والمتكلمين أو أكثرهم لا يعرفون عدد مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها أعداءه ، وهي وقائع مشهورة كل منها متواتر تواترا ظاهرا عند أهل العلم مثل يوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الخندق ، وغزوة بني المصطلق ، وغزوة خيبر ، وفتح مكة ، ويوم حنين ، وحصار الطائف .

فكثير من أهل العلم فضلا عن العامة ، وإن كانوا سمعوا بهذه الأسماء أو بعضها فلا يعرفون أيها كان قبل الآخر ، ولا يعرفون بأي بقعة كانت تلك الغزاة ، بل ولا يعرفون من كان العدو فيها ، ولا كيف كانت ، بل أكثر العامة لا يميزون بين بدر وحنين بل يقول قائلهم : يوم بدر وحنين ، ويظنون أن ذلك يوم واحد ، وأنها غزاة واحدة ، ولا يعرفون أنهما غزاتان بينهما نحو ست سنين . كانت بدر في السنة الثانية من [ ص: 336 ] الهجرة ، وكانت حنين في السنة الثامنة بعد فتح مكة ، وأن بدرا مكان بين مكة ، والمدينة شامي مكة ، ويماني المدينة ، وحنين ، واد قريب من الطائف شرقي مكة ، وإنما قرن بينهما في الاسم لأن الله أنزل فيهما الملائكة ، وأيد بها نبيه والمؤمنين حتى غلبوا عدوهم مع قوة العدو في بدر ، ومع هزيمة أكثر المسلمين أولا بحنين ، وامتن الله بذلك في كتابه في قوله :

ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون

وفي قوله :

ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ( 25 ) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها . . .

حتى بعض أكابر أئمة الفتيا المشهورين قال له صاحبه لما أنكر عليه طلب السير : تسكت وإلا سألتك قدام الناس : أيهما كانت قبل ، بدر أو أحد فإني أعلم أنك لا تعلمه . مع أنه من المتواتر الذي لا يستريب فيه من له أدنى معرفة بالأخبار أن أحدا [ ص: 337 ] كانت بعد بدر ، وفي بدر انتصر المسلمون على الكفار ، ويوم أحد استظهر الكفار . بل وكثير من علماء المسلمين الأكابر لا يعلمون ما هو متواتر عند أهل الكتاب ، بل وعند غيرهم من علماء المسلمين مثل خراب بيت المقدس مرتين ، ومجيء بخت نصر إلى بيت المقدس ، والله سبحانه قد ذكر في القرآن المرتين فقال :

وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 4 ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( 6 ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا [ ص: 338 ] وكانت الأولى بعد سليمان ، وكانت الثانية بعد زكريا ويحيى والمسيح لما قتلوا يحيى بن زكريا الذي يسميه أهل الكتاب يوحنا المعمداني .

وكثير من المذكورين بالعلم يظن أن ( بخت نصر ) هو الذي قدم الشام لما قتل يحيى بن زكريا ، وهذا عند أهل العلم من أهل الكتاب ، وعند من له خبرة من علماء المسلمين باطل ، والمتواتر أن ( بخت نصر ) هو الذي قدم في المرة الأولى ، وكذلك كون شعيب النبي كان حمو موسى عليه السلام كما تقوله طائفة من الجهال ، والمتواتر عند أهل الكتاب ، وعند المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم خلاف ذلك ، وعند النصارى من أخبارهم وأخبار علمائهم وملوكهم المتواترة ما لا يعرفه المسلمون واليهود ، وعند [ ص: 339 ] المسلمين من أخبار علمائهم وملوكهم المتواترة ما لا يعرفه أكثر الأمم .

بل عند كل طائفة من المسلمين من أخبار شيوخهم وأمرائهم وبلادهم المتواترة ما لم تسمع من غيرهم ، وليس هذا بمنزلة من ادعى خبرا لم يكن يعرف في الذين شاهدوا تلك القضية ، كما لو ادعى مدع أن النبي صلى الله عليه وسلم حج بعد الهجرة أكثر من حجة ، وأنه كان يصوم شهر رمضان بمكة ، وأنه كان بمكة أذان أو أنه كان في عساكره ، وعساكر خلفائه دبادب وبوقات ، أو أنه كان يؤذن للعيدين أو كان يخطب للعيدين قبل الصلاة ، أو أنه كان يصلي بالمدينة أكثر من عيد أو أنه كان يصلي في السفر أربعا ، أو أنه صلى بمنى صلاة عيد النحر ، أو أنه نص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو غيره بالخلافة نصا ظاهرا مشهورا ، أو أنه عزل أبا بكر عن الإمارة في الحجة وولى عليا ، أو أنه صلى في مرض موته غير أبي بكر ، ونحو ذلك من الأخبار التي يعرف أنها كذب باطل لتواتر [ ص: 340 ] نقيضها ، ولأنها لو كانت صحيحة لكانت مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله واشتهاره ، ومع أنه لم يكن له ذكر في الزمن المتقدم .

وكذلك ما ينقله كثير من أهل الجهل مثل ما يجعلونه من معجزات الرسول أو غيره ، ولا يوجد منقولا عند أهل العلم بأحواله ، بل يكذبون ناقله مثل قول كثير من العامة : إن الغمام كان يظله دائما ، فهذا لا يوجد في شيء من كتب المسلمين المعروفة عند علمائهم ، ولا نقله عالم من علمائهم ، بل هو كذب عندهم ، وإن كان كثير من الناس ينقله ، وإنما نقل أن الغمامة أظلته لما كان صغيرا فقدم مع عمه إلى الشام تاجرا ، ورآه بحيرا الراهب ، ومع هذا فهذا لا يجزم بصحته ، وكذلك ما ينقله بعضهم من أنه كان إذا وطئ أثر قدمه في الحجر وفي الرمل لم يكن يؤثر ، فهذا لم ينقله أهل العلم بأحواله ، ولا واحد منهم بل هو كذب عليه .

وكذلك ما ينقله طائفة من الناس من كثرة القتل بحروبه ، أو المغازي الكثيرة الذي يذكر مثلها صاحب الكتاب الذي سماه [ ص: 341 ] بـ " نقلات الأنوار " ويقال له البكري ، فهذه لما كان أكثرها لا يوجد في كتب المسلمين المعروفة ، ولا نقلها علماؤهم ، بل قد تواتر ما يخالفها كانت كذبا ظاهرا عند أهل العلم بأحواله ، وإن كان كثير من الناس الجهال بأحواله قد يصدق بها .

ومثل ما ينقله طائفة أنه كان في غزوة خيبر نصب علي بن أبي طالب يده ليمر الجيش عليها ، وأن البغلة مرت عليها فقال : قطع الله نسلك ، فانقطع نسلها ، فهذا ليس في شيء من كتب أهل العلم بأحواله ، ولا نقل ذلك واحد منهم ، وإنما ينقل ذلك من هو معروف بالكذب أو جاهل ، ولهذا كان هذا من الكذب الذي يقطع بكذبه علماء المسلمين ، ويعلمون أنه تواتر نقيضه ، وأنه لم يكن في غزوة خيبر بغلة واحدة ، ولم يكن بالمدينة ولا بمكة بغلة إلا بغلته التي أهداها له المقوقس النصراني ملك مصر والإسكندرية ، وإنما أهداها له بعد فتح خيبر لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى [ ص: 342 ] ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام ، وهو إنما أرسل إلى ملوك الطوائف بعد الحديبية وخيبر لما رجع من خيبر ، ويعلمون أن البغلة لم تزل مقطوعة النسل لم يكن لها نسل قط .

وكذلك ما ينقله بعض الكذابين من أن طائفة من أهل البيت سبوا فأركبوا جمالا فنبت لها سنامان ، وأنها البخاتي ، فهذا مما اتفق أهل المعرفة بالأخبار على أنه كذب ، لم يسب المسلمون قط في وقت من الأوقات أحدا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لا في خلافة بني أمية ، ولا في خلافة بني العباس ، والجمال البخاتي ما زالت هكذا لم يتجدد لها السنام في الإسلام ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ما يحدث النساء بعده ، قال : " على رءوسهن كأسنمة البخت "

وكذلك ما نقله طائفة من أهل العلم من أن الشمس ردت لما فاتت عليا صلاة العصر لكون النبي صلى الله عليه وسلم نام في حجره ، وجعل بعضهم هذا من المعجزات ، وليس هذا الحديث في شيء من كتب المسلمين التي يعتمدون على ما فيها من المنقولات ، [ ص: 343 ] لا الصحاح ، ولا المساند ، ولا المغازي والسير ، ولا غير ذلك ، بل بين أهل العلم بالحديث أن هذا كذب ، وليس له إسناد واحد صحيح متصل ، بل غايته أن يروى عمن لا يعرف صدقه ، ولم يروه إلا هو مع توفر الهمم والدواعي على نقله ، فعلموا أنه كذب ، وهذا باب واسع يبين أن علماء المسلمين يميزون المنقولات بين الصدق والكذب ، فيردون الكذب وإن كان فيه من فضائل نبيهم وأعلامه وفضائل أصحابه وأمته ما هو عظيم ، ويقبلون الصدق وإن كان فيه شبهة إشكال ، وقد يحتج به المنازعون لهم .

وكان عبد الرحمن بن مهدي يقول : أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم ، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم . ومن ذلك مغازي حمزة الشائعة بين كثير من جهال الترك وغيرهم ، لا يوجد في شيء من كتب العلم ، بل قد تواتر عند أهل العلم أن حمزة لم يشهد غزوة إلا [ ص: 344 ] غزوة بدر ثم غزوة أحد ، وقتل يوم أحد شهيدا ، قتله وحشي بن حرب ، وهذا متواتر عند أهل العلم ، وما كان من هذه الآيات في الصحاح بل وكثير مما لم يخرجه البخاري ومسلم ، فهذه عامتها مما يقطع أهل العلم بالحديث بصحتها ، ويتيقنون ذلك ، وهذا عندهم مستفيض متواتر ، وإن كان بعض ذلك قد لا يتواتر ويستفيض عند غيرهم ، فإن الأخبار قد تتواتر وتستفيض عند قوم دون قوم بحسب عنايتهم بها وطلبهم لها ، وعلمهم بمن أخبر بها ، وصفاتهم ، ومقاديرهم ، وما دل من الدلائل على صدقهم ، وأهل العلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وسيرته وأسباب نزول القرآن ومعانيه وغير ذلك ، لهم بهذا من العلم وعندهم به من اليقين ما لا يوجد مثله لغيرهم ، كما أن أصحاب مالك والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبي حنيفة ، وداود وغيرهم عند كل طائفة من أقوال متبوعهم ونصوصه وأخباره ما يقطعون به ، وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك ، والأطباء عندهم من كلام أبقراط وجالينوس ومحمد بن [ ص: 345 ] زكريا وأمثالهم ما يقطعون به ، وغيرهم لا يعلم ذلك ، وأهل الهيئة عندهم من كلام بطليموس ، والرصد الممتحن المأموني ، وثابت بن قرة ، وأبي الحسين الصوفي ما يعلمونه هم ، وغيرهم لا يعلم ذلك بحيث يجزم هؤلاء وهؤلاء بكثير من مذاهب أهل الطب والحساب وتجارب الأطباء وأرصاد أهل الحساب ، وغيرهم لا يعلم ذلك .

وعند أهل الكتاب كاليهود من أخبار هلال ، وسمابي ، وغيرهما [ ص: 346 ] من شيوخهم ما لا يعلمه غيرهم ، وعند النصارى من أخبار الحواريين ، ومن أخبار قسطنطين ، والمجمع الأول بنيقية ، والمجمع الثاني ، والثالث ، والرابع ، والخامس ، وغير ذلك من مجامعهم ، وأخبارهم ما يقطع به علماؤهم ، وإن كان غيرهم لا يعلمون ذلك .

وأهل العلم بأيام الإسلام يعلمون من سيرة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومغازيهم كوقعة أجنادين ، ومرج الصفر ، وغيرهما في خلافة أبي بكر ، وكوقعة اليرموك ، وخبر أبي عبيدة [ ص: 347 ] وهزيمة الفرس ، وفتح مصر ، وغير ذلك مما كان في زمن عمر بن الخطاب ما يقطعون به ، وإن كان غيرهم لا يعرفون ذلك .

وكذلك ما كان بعد هؤلاء من سير الملوك وحوادث الوجود ، بل أهل العلم بالرجال يعلمون من حال آحاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عمر ، وابن عباس ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن مسعود ، وأنس بن مالك ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وعلقمة ، والأسود ، وغير هؤلاء ما لا يعلمه غيرهم .

وأهل العلم بالنحو يعلمون من حال سيبويه ، والأخفش ، والمبرد ، والزجاج ، والفراء [ ص: 348 ] والكسائي ما لا يعلمه غيرهم .

والقراء يعلمون من قراءة أبي عمرو ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وابن عامر ، ويعقوب بن إسحاق ، والأعمش [ ص: 349 ] وخلف بن هشام ، وأبي جعفر ما لا يعلمه غيرهم .

فإذا كان آحاد أهل العلم من أهل الفقه أو الطب أو الحساب أو النحو أو القراءات ، بل وآحاد الملوك يعلم الخاصة من أمورهم ما لا يعلمه غيرهم ويقطعون بذلك ، فكيف بمن هو عند أتباعه أعلى قدرا من كل عالم ، وأرفع منزلة من كل ملك ، وهم أرغب الخلق في معرفة أحواله ، وأعظم تحريا للصدق فيها ، ولرد الكذب منها حتى قد صنفوا الكتب الكثيرة في أخبار جميع من روى شيئا من أخباره ، وذكروا فيها أحوال نقلة حديثه ، وما يتصل بذلك من جرح وتعديل ، ودققوا في ذلك ، وبالغوا مبالغة لا يوجد مثلها لأحد من الأمم ، ولا لأحد من هذه الأمة إلا لأهل الحديث ، فهذا يعطي أنهم أعلم بحال نبيهم من كل أحد بحال متبوعهم ، وأنهم أعلم بصدق الناقل وكذبه من كل أحد بصدق من نقل عن متبوعهم وكذبه [ ص: 350 ] فإذا كان أولئك فيما ينقلونه عن متبوعهم متفقين عليه جازمين بتصديقه لا يكون إلا صدقا ، فهؤلاء مع جزمهم بالصدق ، واتفاقهم على التصديق أولى أن لا يكون ما جزموا بصدقه إلا صدقا .

وعامة أخبار الصحيحين مما اتفق علماء الحديث على التصديق بها ، وجزموا بذلك ، وإنما تنازعوا في أحاديث قليلة منها ، وعامة ما ذكرناه من آيات النبي صلى الله عليه وسلم التي في الصحاح هي من موارد إجماعهم المستفيضة عندهم التي يجزمون بصدقها ، ليست من موارد نزاعهم ، فهذا طريق يسلكه من عرفه من العلماء ، ويعلم خيرة أهله من كان خبيرا بهم ، فهذه طريقان في تصديق هذه الآيات : التواتر العام ، والتواتر الخاص .

التالي السابق


الخدمات العلمية