الطريق الخامس : أن ما من صنف من أصناف العلماء إلا وقد تواتر عندهم من الآيات ما فيه كفاية ، فكتب التفسير مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها ، وكتب الحديث مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها ، وكتب السير والمغازي والتواريخ مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها ، وكتب الفقه مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها ، وإن لم يكن هذا مقصودا منها ، وإنما المقصود الأحكام لكنهم في ضمن ما يروونه من الأحكام يروون فيها من الآيات ما هو متواتر عندهم ، وكتب الأصول والكلام مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها ، ونقل كل طائفة من هذه الطوائف يفيد العلم اليقيني ، فكيف بما ينقله كل طائفة من هذه الطوائف ، وهذه الطريق وغيرها مثل طريق الإقرار والتصديق ، وطريق التواتر المعنوي ، وطريق تصديق أهل العلم بالحديث بها ، وغير ذلك ، يستدل بها تارة على تواتر الجنس العام للآيات الخارقة للعادة ، وهذا أقل ما يكون ، ويستدل بها على تواتر جنس جنس منها ، كتواتر تكثير الطعام ، وتواتر تكثير الطهور [ ص: 360 ] والشراب ، وعلى تواتر نوع نوع منها ، كتواتر نبع الماء من بين أصابعه ، وتواتر إشباع الخلق العظيم من الطعام القليل ، وتواتر شخص شخص منها ، كتواتر حنين الجذع إليه ، وأمثال ذلك ، وكلما أمعن الإنسان في ذلك النظر ، واعتبر ذلك بأمثاله ، واعتبر وأعطاه حقه من النظر والاستدلال ازداد بذلك علما ويقينا ، وتبين له أن العلم بذلك أظهر من جميع ما يطلب من العلم بالأخبار المتواترة ، فليس في الدنيا علم مطلوب بالأخبار المتواترة إلا والعلم بآيات الرسول وشرائع دينه أظهر من ذلك ، وما من حال أحد من الأنبياء والملوك والعلماء والمشايخ المتقدمين وأقواله وأفعاله وسيرته إلا والعلم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم أظهر من العلم به ، وما من علم يعلم بالتواتر مما هو موجود الآن كالعلم بالبلاد البعيدة كعلم أهل الشام بالعراق وخراسان والهند والصين والأندلس ، وعلم أهل المغرب بالشام والعراق وخراسان والهند ، وعلم أهل خراسان بالشام والعراق ومصر ، وعلم أهل الهند بالعراق والشام ، وأمثال ذلك من علم أهل البلاد بعضهم بحال بعض إلا وعلم الإنسان بحال المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها ، وما هم عليه من الدين ، وما ينقلونه عن نبيهم من آياته وشرائعه أظهر من علمه بهذا كله .
وهذا مما يبين أنه ليس في الوجود أمر يعلم بالنقول المتواترة إلا وآيات الرسول وشرائعه تعلم بالنقول المتواترة أعظم مما يعلم ذلك [ ص: 361 ] الأمر تحقيقا لقوله تعالى :
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا
وظهوره على الدين كله بالعلم والحجة والبيان إنما هو بما يظهره من آياته وبراهينه ، وذلك إنما يتم بالعلم بما ينقل عن محمد من آياته التي هي الأدلة ، وشرائعه التي هي المدلول المقصود بالأدلة ، فهذا قد أظهره الله علما وحجة وبيانا على كل دين ، كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا على كل دين ، والحمد لله رب العالمين .
كما أنه ما من دليل يستدل به على مدلول إلا والأدلة على آيات الرب أكبر وأكثر .


