الطريق الرابع : أن يقال : هذه الآيات التي ذكرنا بعضها كانت تكون بمحضر من الخلق الكثير كتكثير الطعام يوم الخندق فإنه كان أهل الخندق رجالهم ونساؤهم ألوفا .
وكذلك نبع الماء من بين أصابعه ، وفيضان البئر بالماء يوم الحديبية ، وكانوا يومئذ ألفا وخمسمائة ، وكلهم صالحون من أهل [ ص: 356 ] الجنة ، لا يعرف فيهم من تعمد كذبة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك تكثير الماء والطعام في غزوة خيبر كانوا ألفا وخمسمائة ، وفي تبوك كانوا ألوفا مؤلفة ، وكان بعض من حضر هذه المشاهد نقل هذه الآيات قدام آخرين ممن حضرها ، وينقلها لأقوام فيذهب أولئك فيخبرون بها أولئك ، ويصدق بعضهم بعضا ، ويحكي هذا مثل ما حكى هذا من غير تواطئ وتشاعر ، وأدنى أحواله أن يقره ولا ينكر عليه روايتها ، ونحن نعلم بموجب العادة الفطرية التي جبل الله عليها عباده ، وبموجب ، وتعظيمهم ذلك ، إذ قد تواتر عندهم عنه أنه قال : ما كان عليه سلف الأمة من اعتقاد الصدق وتحريه ، واعتقادهم أن ذلك واجب ، ومن شدة توقيهم الكذب على نبيهم " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "
فنحن نعلم أنهم لم يكونوا يقرون من يعلمون أنه يكذب عليه ، ومن أخبر عنه بما كانوا مشاهدين له ، وكذب عليه فقد علموا أنه كذب [ ص: 357 ] عليه ، فلما اتفقوا على الإقرار على ذلك ، وعلى تناقله بينهم من غير إنكار أحد منهم لذلك علم قطعا أن القوم كانوا متفقين على نقل ذلك كما هم متفقون على نقل القرآن والشريعة المتواترة ، وإن كان جمهورهم ليس منتصبا لتلقين القرآن ، بل هذا يلقنه وهذا يسمعه من هذا المتلقن ، لا ينكر بعضهم على بعض القراءة ، وهذا يعلم هذا الصلاة : أن الظهر في الحضر أربع ركعات ، والمغرب ثلاثا ، والفجر ركعتان ، وهذا يقر هذا ، فلما كان بعضهم يقر بعضا على نقل ذلك علم اتفاقهم على نقل ذلك ، وهذا غاية التواتر .
وكذلك ما نقلوه من شرائعه ومن آياته وبراهينه ، يبين ذلك أن ما أنكره بعضهم رده على الآخر ولم يوافقه ، وإن كانوا متأخرين عن زمن الصحابة فكيف بالمتقدمين ، كتنازعهم هل كان يجهر بالبسملة أم لا يجهر بها ؟ وهل كان يداوم على القنوت في الفجر أم كان يقنت أحيانا للنوازل ، أم قنت مرة ثم تركه ، فهذا من أهون الأمور وأيسرها ، إذ كلهم متفقون على صحة صلاة من قنت ، وعلى صحة صلاة من لم يقنت ، ومن جهر ، ومن خافت ، ولكن لما تنازعوا فيما فعله الرسول تنازعوا في الحكم ، فعلم بذلك أن ما كان مشهورا في الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينكره أحد من علمائها كانت الأمة متفقة على نقله كنقلهم للقرآن ، وللشرائع الظاهرة [ ص: 358 ] المشهورة ، وإن نقل ذلك أعظم من نقل سائر أخبار الأنبياء والعلماء والملوك والزهاد
وكذلك حجه ، فإنهم كلهم متفقون على ما تواتر عنه من أنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة ، وهي التي تسمى حجة الوداع ، وإنما عاش بعدها نحوا من ثلاثة أشهر ، وأنه لما حج أمر أصحابه كلهم إلا من ساق الهدي منهم إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل من عمرته ، وأنه لم يعتمر هو ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه بعد الحج إلا وحدها ، وأنه هو نفسه لم يحل من حجته ، ولا أحد ممن ساق الهدي معه ، وإنما اشتبه على بعضهم بعض ألفاظه أو بعض الأمور التي تخفى على أكثر الناس ، وكان الصحابة ينقلون تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرادهم بالتمتع أنه قرن بين العمرة والحج ، فظن بعض الناس أنهم أرادوا أنه أخر الإحرام بالحج إلى أن قضى العمرة ، وقال بعض الصحابة : إنه أفرد بالحج ، فظن بعض الناس أنه حج ، واعتمر بعد الحج ، وهذا لم ينقله أحد من العلماء ، بل اتفقوا على أنه لم يعتمر بعد الحج ، وروى بعض الصحابة أنه قرن ، فظن بعض الناس أنه طاف طوافين ، وسعى سعيين ، وهذا لم ينقله أحد عنه ، وكان من أسباب غلط كثير من الناس أنهم كانوا يستعملون تلك الألفاظ في معان غير ما استعملته فيها الصحابة ، فغلط بعض الناس على بعض الصحابة ، وأما ما فعله في الحج مشهورا فهو [ ص: 359 ] متواتر لم يختلف فيه النقل ، ولا علماء النقل ، ومن تدبر هذه الطريق أفادته علما يقينيا قطعيا بصحة هذه الآيات عن عائشة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الطرق المتقدمة فإنا قد ذكرنا أن ، ما كان الناس أحوج إلى معرفته يسر الله دلائله للناس أعظم من تيسير غيره ، إذ بذلك تحصل سعادتهم في الآخرة ، ونجاتهم من العذاب ، وبه يحصل صلاح العباد في المعاد والمعاش وحاجة الخلق إلى تصديق الرسول أشد من حاجتهم إلى جميع الأشياء