الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الطريق السادس : أن العلماء قد صنفوا مصنفات كثيرة في ذكر  آياته وبراهينه المنقولة في الأخبار ، وجردوا لذلك كتبا مثل كتاب دلائل النبوة للفقيه الحافظ أبي بكر البيهقي ، وقبله دلائل النبوة [ ص: 362 ] للشيخ أبي نعيم الأصبهاني ، وقبله دلائل النبوة لأبي الشيخ الأصبهاني ، ولأبي القاسم الطبراني ، وقبلهما دلائل النبوة للإمام الحافظ أبي زرعة الرازي ، والشيخ المصنف أبي بكر عبد الله بن أبي الدنيا ، وللمصنف الحافظ الإمام أبي إسحاق إبراهيم [ ص: 363 ] الحربي ، وأبي بكر جعفر الفريابي ، وما صنفه الشيخ العالم أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه المسمى بالوفا في فضائل المصطفى ، وما صنفه الحافظ أبو عبد الله المقدسي من دلائل النبوة ، وهؤلاء وغيرهم يذكرون ما يذكرون من الأسانيد المعروفة ، والطرق المتعددة الكثيرة المتواترة .

وهؤلاء منهم من يميز ما يذكره من الأحاديث بين ما في صحيحي البخاري ، ومسلم ، وما في غيرهما ، وإن كان صحيحا [ ص: 364 ] أيضا كالبيهقي ، وابن الجوزي ، والمقدسي ، ومنهم من يذكر ذلك جميعه بأسانيده ، وقد يتكلم على الأسانيد والطرق ويذكر تعددها من غير احتياج منه أن يذكر ما رواه البخاري ، ومسلم كأبي زرعة شيخ مسلم ، وأبي الشيخ ، وأبي نعيم ، وغيرهم ، وآخرون يذكرونه معزوا مسندا إلى من رواه ، وإن لم يذكروا إسناده كما يفعله القاضي عياض السبتي في كتابه المسمى بالشفا بتعريف حقوق المصطفى ، ومنهم من يقرر ذلك بشهرة ذلك وطرق أخرى من صحته كما يفعله كثير من النظار كالقاضي عبد الجبار [ ص: 365 ] والجاحظ ، والماوردي القاضي ، وسليم الرازي الفقيه ، وغيرهم ، وهذه الكتب فيها من الأحاديث المتضمنة لآيات نبوته وبراهين رسالته أضعاف أضعاف الأحاديث المأثورة فيما هو متواتر عنه مثل حجة الوداع ، وعمرة الحديبية ، وصد المشركين له ، ومصالحته [ ص: 366 ] إياهم ، وحله هو وأصحابه بالحديبية ، ورجوعهم ذلك العام ، وفتح خيبر ، وعمرة القضية ، وعمرة الجعرانة .

ومثل حصاره لأهل الطائف ، وفتح مكة قبل ذلك ، ومثل غزوه النصارى عام تبوك ، وإرساله جيشا لغزوهم بمؤتة من مشارف الشام قريبا من الحصن المسمى بالكرك ، ومثل [ ص: 367 ] غزوه لليهود بخيبر ، وغزوه لليهود قبل ذلك لمن كان عند المدينة مثل بني قينقاع ، والنضير ، وقريظة ، ومثل إرساله أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع ، ونبذه العهود ، ومناداته أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومثل هجرته مع أبي بكر وعامر بن فهيرة ورجل ثالث كان دليلا لهم .

ومثل ما تواتر عنه أنه كان يصلي بالمسلمين في العيدين بالمصلى خارج المدينة لم يكن يصلي العيد في مسجده إلا مرة نقل أنه صلى في المسجد لأجل المطر ، ولم يكن على عهده يصلي أحد بالمدينة صلاة العيد إلا خلفه لم يكن يصلي صلاتي عيد على عهده وعهد أبي بكر وعمر وعثمان ، وأول من فعل ذلك علي بن أبي طالب لما كثر الناس وضعف أقوام عن الخروج إلى الصحراء استخلف من يصلي [ ص: 368 ] بهم في المسجد .

وكما تواتر عنه أنه كان يصلي الجمعة بأذان وإقامة لا يؤذن لها إلا إذا قعد على المنبر ، وكذلك كان الأمر على عهد أبي بكر وعمر فلما كان في أثناء خلافة عثمان كثر الناس فأمر بالنداء الثالث على دار قريبة من المسجد من جهة المشرق يقال لها الزوراء ، وكما تواتر أن مسجده كان باللبن ، وسقفه كان من جذوع النخل ، وكانت حجر أزواجه قبلي المسجد وشرقيه فلما كثر الناس زاد فيه عمر ثم زاد فيه عثمان ، وبناه بالقصة والحجارة ، ثم في إمارة الوليد أمر نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد ، فدخلت حجرة عائشة التي دفن فيها هو وأبو بكر وعمر في المسجد من حينئذ ، وإنما كانت في حياته خارجة عن المسجد إلى سنة إحدى وتسعين ، وقال في مرض موته : [ ص: 369 ] لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا . قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا .

وكما تواتر عنه أنه نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ، ووقت غروبها ، وتواتر عنه أنه كان يضحي في عيد الأضحى ، بل تواتر عند أهل العلم بأحواله تروكه المشهورة كما تواترت أفعاله المشهورة ، فتواتر عنه أنه لم يكن يؤذن للعيدين ، ولا الكسوف ، ولا الاستسقاء ، وأنه صلى الكسوف بركوعين في كل ركعة صلاة طويلة ، وتواتر عنه كان يطوف بالبيت سبعا ، ويصلي ركعتين بعد الطواف ، ولم يكن يصلي بعد السعي بالصفا والمروة ركعتين ، وتواتر أنه كان يواصل ، ونهى [ ص: 370 ] أصحابه عن الوصال ، ويقول : " إني لست كهيأتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " وأنه لم يفرض صوما إلا صوم شهر رمضان ، ولم يفرض الحج على المستطيع إلا مرة ، وأنه فرض الصلوات الخمس على كل بالغ عاقل إلا الحائض والنفساء ، وأنه منع الحائض والنفساء من الصوم والصلاة ، وكان الحيض يؤمرن بقضاء الصوم ، ولا يؤمرن بقضاء الصلاة .

وأنه أمر بالاغتسال من الجنابة للصلاة ، وأمر بالوضوء عند الصلاة لمن بال أو تغوط أو خرج منه ريح أو مذي ، وأنه رخص في الاستجمار بثلاثة أحجار ، ونهى عن الاستنجاء باليمين ، ونهى عن الاستجمار بالعظم والبعر ، وقال : " إنها زاد إخوانكم من الجن " وأنه لم يكن يجمع المسلمين على سماع كف ، ولا دف ، ولا رقص [ ص: 371 ] ولا صعق ، لا هو ولا أصحابه عند سماع القرآن ، بل كانوا توجل قلوبهم ، وتقشعر جلودهم ، وتدمع عيونهم ، وأنه لم يكن على عهده وعهد خلفائه تعاد امرأة مطلقة إلى زوجها بنكاح يقصد به التحليل ، بل لعن المحلل والمحلل له لأن ذلك ربما فعل سرا .

وأنه أمر بعيادة المريض ، وتشييع الجنازة ، وإفشاء السلام ، وإجابة الدعوة ، وأنه كان يصلي على الميت ويكبر أربع تكبيرات ، وقد كان أحيانا يكبر خمسا وسبعا ، وأمر بتغسيل الميت وتكفينه ، والصلاة عليه ودفنه ، وأنه حرم كل مسكر ، وحرم بيع الدرهم بالدرهمين ، والدينار بالدينارين ، والصاع بالصاعين من الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، وأنه أمر بصدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير لما كان أهل المدينة يقتاتون التمر والشعير ، وأنه أباح الدواء وقال : " تداووا عباد الله فإنه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء إلا السام " والسام [ ص: 372 ] الموت ، وأنه كان يتداوى بالحجامة وغيرها

وكذلك ما تواتر عنه من أحاديث سوى ما في القرآن من صفة الجنة والنار ، وذكر العرش والملائكة ، والجن ، وإرساله إلى الثقلين ، وما ذكره من أسماء الله ، وصفاته ، وما أخبر به من فتنة الإنسان في قبره ، ومن عذاب القبر ونعيمه ، ومن دخول من يدخل النار من أهل الكبائر من أمته ، وخروجهم من النار بشفاعته ، وشفاعة غيره ، ومن ذكر حوضه ، وما أخبر به من رؤية الله يوم القيامة ، ومحاسبة الله للعباد ، وغير ذلك .

وما تواتر عنه من أنه كان يرسل رسلا إلى الملوك يدعوهم إلى الإيمان بالله وبما جاء به ، كما أرسل إلى ملوك اليمن ، وإلى ملوك الشام ومصر والعراق ، وإلى ملوك المشركين واليهود والنصارى والمجوس بعد ما حارب اليهود مرة بعد مرة ، وما تواتر عنه أنه كان يركب الخيل والإبل والبغال والحمير ، وأنه رجم الزاني المحصن مرة بعد مرة ، وقطع يد السارق ، وجلد شارب الخمر ، وأنه كان يصلي في السفر الرباعية ركعتين ركعتين ، وأنه جمع بين الصلاتين الظهر والعصر بعرفة ، وفي مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء ، وأنه كان يصلي بمنى ركعتين ركعتين ، وأمر [ ص: 373 ] المسلمين في حجة الوداع أن يحلوا من إحرامهم ، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه أمره أن يبقى على إحرامه ، وأنه هو لم يحل من إحرامه ، ولا اعتمر بعد الحج لا هو ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لكونها كانت حائضا ، وأن شهر رمضان فرض في السنة الثانية من الهجرة فصام تسع رمضانات .

وأنه كان له أربع بنات وثلاثة بنين ، وكان يكنى بأكبر أولاده القاسم فيدعى أبا القاسم ، وأنه تزوج بنتي أبي بكر وعمر ، وزوج عثمان ابنتيه ، وزوج عليا بنتا ، وأنه آمن به من أعمامه حمزة والعباس ، ولم يؤمن أبو لهب ولا أبو طالب مع أن أبا طالب كان يحوطه ، ويذب عنه ، وأنه استخلف أبا بكر ليصلي بالناس لما مرض وثقل عن الصلاة لم يصل أحد بإذنه مع حضوره غير أبي بكر في مرضه ، ولما ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف ، وأنه كان من خواص أصحابه العشرة أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن [ ص: 374 ] أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعبد الرحمن بن عوف ، وغير هؤلاء كعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وأبي طلحة ، وأبي أيوب ، وأسيد بن حضير ، وأضعاف هؤلاء ، وأنه بايعه تحت الشجرة ألف وأربعمائة ، وهم الذين أنزل الله فيهم : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة

وأنه لما قدم المدينة بنى مسجده ، وكان في شماليه صفة ينزلها العزباء ، وأن المهاجرين والأنصار كلهم أسلموا طوعا بلا رغبة ولا [ ص: 375 ] رهبة ، وأن المهاجرين آذاهم الكفار إيذاء عظيما حتى هاجر منهم طائفة إلى الحبشة عند النجاشي ، وأن النجاشي آمن به ، وأنه لما مات أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموته يوم مات ، وأنه صلى عليه بأصحابه في المصلى كما يصلي على الميت الحاضر

وأنه كان يخطب يوم الجمعة قبل الصلاة ، ويخطب في العيد بعد الصلاة ، وكان يؤذن للجمعة وللصلوات الخمس ، ولا يؤذن للعيدين ، ولا غير الصلوات الخمس ، وأن بلالا كان يؤذن له بالمدينة هو وابن أم مكتوم الأعمى ، وكان سعد القرظ يؤذن لأهل قباء ، وأبو محذورة يؤذن لأهل مكة ، وكما تواتر عنه وعن خلفائه أنهم [ ص: 376 ] لم يكونوا بمنى يصلون صلاة عيد بل يرمون جمرة العقبة ، وينحرون كما أمر أهل الأمصار أن يصلوا ثم ينحروا ، إلى أمثال هذه الأمور مما هو متواتر عند كل من كان عالما بأحواله ، ومنها ما هو متواتر عند جميع الأمة .

ومنها ما هو متواتر عند جمهورها ، وليس منها شيء إلا وتواترت آياته وبراهينه صلى الله فيها عليه وسلم التي لم تذكر في القرآن أعظم من تواتر هذه الأمور ، والكتب المصنفة في آياته وبراهينه الخارجة عن القرآن فيها من الأحاديث أضعاف أضعاف ما يوجد من الأحاديث في مثل هذه الأمور ، بل في كل صنف من أصناف آياته من الأحاديث أضعاف ما يوجد في مثل ذلك كتواتر إخباره بالغيوب المستقبلة ، وتواتر تكثيره للطعام والشراب مرات متعددة ، وتكثيره الطهور إما بنبع الماء بين أصابعه ، وإما بفيضان الينبوع الذي يضع فيه بعض آثاره ، وإما [ ص: 377 ] بفيضان الماء من الوعاء الذي برك فيه ، والماء باق بحاله لم ينقص .

فالأحاديث المتواترة في مثل هذه الأنواع أكثر من الأحاديث المتواترة في مثل تلك الأمور التي هي متواترة ، ولهذا كان شهرة هذه الأمور في الأمة وفي أهل العلم بأحواله أعظم من شهرة كثير من تلك الأمور ، والمقصود هنا أن تواتر آياته المستفيضة في الأحاديث أعظم من تواتر أمور كثيرة هي متواترة عند الأمة أو عند علمائها وعلماء أهل الحديث ، وهذا غير الآيات والبراهين المستفادة بالقرآن  فإن تلك قد تجرد لها طوائف من المسلمين ذكروا من أنواعها وصفاتها ما هو مبسوط في غير هذا الموضع حتى بينوا أن ما في القرآن من الآيات يزيد على عشرات ألوف من الآيات ، وهذا غير ما في كتب أهل الكتاب من الإخبار به

وهذه الأجناس الثلاثة غير ما في شريعته التي بعث بها ، وغير صفات أمته ، وغير ما يدل من المعرفة بسيرته وأخلاقه وصفاته وأحواله ، وهذا كله غير نصر الله وإكرامه لمن آمن به ، وعقوبته وانتقامه ممن كفر به كما فعل بالأنبياء المتقدمين فإن تعداد أعيان دلائل النبوة   [ ص: 378 ] مما لا يمكن بشرا الإحاطة به إذ كان الإيمان به واجبا على كل أحد .

فيبين الله لكل قوم بل لكل شخص من الآيات والبراهين ما لا يبين لقوم آخرين

كما أن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كل دليل على كل مدلول ، ولكل قوم بل ولكل إنسان من الدلائل المعينة التي يريه الله إياها في نفسه وفي الآفاق ما لا يعرف أعيانها قوم آخرون . قال تعالى :

سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق

والضمير في ذلك عائد إلى القرآن عند المفسرين والسلف وعامة العلماء كما يدل على ذلك القرآن بقوله :

قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ( 52 ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . . .

وقد قيل : إن الضمير عائد إلى الله ، والصواب الأول كما قال :

قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به

[ ص: 379 ] وهذا هو القرآن . ثم قال بعد ذلك :

سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق

ثم قال :

أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد

فأخبر أنه سيري الناس في أنفسهم وفي الآفاق من الآيات العيانية المشهورة المعقولة ما يبين أن الآيات القرآنية المسموعة المتلوة حق فيتطابق العقل والسمع ، ويتفق العيان والقرآن ، وتصدق المعاينة للخبر .

وإذا كان القرآن حقا لزم كون الرسول الذي جاء به صادقا ، وأن الله تعالى أنزله ، وأنه يجب التصديق بما أخبر به  ، والطاعة لما أوجبه وأمر به ، وذلك يتضمن إثبات الصانع وتوحيده  وأسماءه وصفاته ، وإثبات النبوات  ، وإثبات المعاد  ، وهذه هي أصول العلم والإيمان التي علقت بها السعادة والنجاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية