الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
والمقصود هنا أن آيات الأنبياء ، ودلائل صدقهم متنوعة قبل المبعث وحين المبعث ، في حياتهم ، وبعد موتهم ، فقبل المبعث مثل إخبار من تقدم من الأنبياء به ، ومثل الإرهاصات الدالة عليه ، وأما حين المبعث فظاهر ، وأما في حياته فمثل نصره ، وإنجائه ، وإهلاك أعدائه ، وأما بعد موته فمثل نصر أتباعه ، وإهلاك أعدائه كما قال تعالى :

[ ص: 409 ] إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد

وقال تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( 171 ) إنهم لهم المنصورون ( 172 ) وإن جندنا لهم الغالبون

وقال للمسيح :

إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . . .

وقال :

ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين

ومحمد صلى الله عليه وسلم جعلت له الآيات البينات قبل مبعثه ، وحين مبعثه ، وفي حياته ، وبعد موته إلى الساعة ، وإلى قيام [ ص: 410 ] الساعة ، فإن ذكره ، وذكر كتابه ، والبشارة بذلك موجود في الكتب المتقدمة كما قد بسط في موضعه .

والخليل دعا به فقال في دعائه لذريته :

ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم

ولما ولد اقترن بمولده من الآيات ما هو معروف ، وجرى ذلك [ ص: 411 ] العام قصة أصحاب الفيل المشهورة ، وكان يحصل له في مدة نشأته من الآيات والدلائل أمور كثيرة قد ذكر طرف منها في كتب دلائل النبوة والسيرة وغيرها ، مثل الآيات التي حصلت لمرضعته لما صار عندها ، ومثل ما شوهد من أحواله في صغره ، وأما انتصار الله له ولأتباعه ، وإعلاء ذكره ، ونشر لسان الصدق له ، وإهلاك أعدائه ، وإذلال من يحاده ، ويشاقه ، وإظهار دينه على كل دين باليد واللسان والدليل والبرهان ، فهذا مما يطول وصف تفصيله . قال تعالى :

قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار

وقال تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار

[ ص: 412 ] والأنبياء صلوات الله عليهم ، وأتباعهم المؤمنون ، وإن كانوا يبتلون في أول الأمر فالعاقبة لهم كما قال تعالى لما قص قصة نوح تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين .

وفي الحديث المتفق على صحته لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى ملك الروم فطلب من يخبره بسيرته ، وكان المسئولون حينئذ أعداءه لم يكونوا آمنوا به فقال : كيف الحرب بينكم وبينه ؟ قالوا : الحرب بيننا وبينه سجال يدال علينا المرة ، وندال عليه الأخرى .

فقال : كذلك الرسل تبتلى ، وتكون لها العاقبة .

فإنه كان يوم بدر نصر الله المؤمنين ، ثم يوم أحد ابتلى المؤمنين ثم لم ينصر الكفار بعدها حتى أظهر الله الإسلام


[ ص: 413 ] فإن قيل : ففي الأنبياء من قد قتل كما أخبر الله أن بني إسرائيل يقتلون النبيين بغير حق ، وفي أهل الفجور من يؤتيه الله ملكا وسلطانا ، ويسلطه على مذنبين كما سلط ( بخت نصر ) على بني إسرائيل ، وكما يسلط كفار المشركين وأهل الكتاب أحيانا على المسلمين . قيل : أما من قتل من الأنبياء فهم كمن يقتل من المؤمنين في الجهاد شهيدا . قال تعالى :

وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ( 146 ) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ( 147 ) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين

ومعلوم أن من قتل من المؤمنين شهيدا في القتال كان حاله أكمل من حال من يموت حتف أنفه قال تعالى :

ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون

[ ص: 414 ] ولهذا قال تعالى : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين

أي إما النصر والظفر ، وإما الشهادة والجنة ، ثم الدين الذي قاتل عليه الشهداء ينتصر ويظهر ، فيكون لطائفته السعادة في الدنيا والآخرة ، من قتل منهم كان شهيدا ، ومن عاش منهم كان منصورا سعيدا ، وهذا غاية ما يكون من النصر ، إذ كان الموت لا بد منه فالموت على الوجه الذي يحصل به سعادة الدنيا والآخرة أكمل بخلاف من يهلك هو وطائفته فلا يفوز لا هو ولا هم بمطلوبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة .

والشهداء من المؤمنين قاتلوا باختيارهم ، وفعلوا الأسباب التي بها قتلوا ، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهم اختاروا هذا الموت إما أنهم قصدوا الشهادة ، وإما أنهم قصدوا ما به يصيرون شهداء عالمين بأن لهم السعادة في الآخرة ، وفي الدنيا بانتصار طائفتهم ، وببقاء لسان الصدق لهم ثناء ودعاء بخلاف من هلك من الكفار فإنهم هلكوا بغير اختيارهم هلاكا لا يرجون معه سعادة الآخرة ، ولم يحصل لهم ولا لطائفتهم شيء من سعادة الدنيا بل أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ، وقيل فيهم :

[ ص: 415 ] كم تركوا من جنات وعيون ( 25 ) وزروع ومقام كريم ( 26 ) ونعمة كانوا فيها فاكهين ( 27 ) كذلك وأورثناها قوما آخرين ( 28 ) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين

وقد أخبر سبحانه أن كثيرا من الأنبياء قتل معه ربيون كثير أي ألوف كثيرة ، وأنهم ما ضعفوا ، ولا استكانوا لذلك ، بل استغفروا من ذنوبهم التي كانت سبب ظهور العدو ، وأن الله آتاهم ثواب الدنيا ، وحسن ثواب الآخرة ، فإذا كان هذا قتلى المؤمنين فما الظن بقتلى الأنبياء ، ففيه لهم ولأتباعهم من سعادة الدنيا والآخرة ما هو من أعظم الفلاح .

وظهور الكفار على المؤمنين أحيانا هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أحد ، فإن تابوا انتصروا على الكفار ، وكانت العاقبة لهم كما قد جرى مثل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار ، وهذا من آيات النبوة وأعلامها ودلائلها ، فإن النبي إذا قاموا بعهوده ، ووصاياه نصرهم [ ص: 416 ] الله ، وأظهرهم على المخالفين له ، فإذا ضيعوا عهوده ظهر أولئك عليهم ، فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي وجودا وعدما من غير سبب يزاحم ذلك ، ودوران الحكم مع الوصف وجودا وعدما من غير مزاحمة وصف آخر موجب للعلم بأن المدار علة للدائر .

وقولنا : ( من غير مزاحمة وصف آخر ) : يزيل النقوض الواردة ، فهذا الاستقراء والتتبع يبين أن نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي ، وأنه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه على من خالفه ، وأن يجعل لهم السعادة ، ولمن خالفهم الشقاء ، وهذا يوجب العلم بنبوته ، وأن من اتبعه كان سعيدا ، ومن خالفه كان شقيا ، ومن هذا ظهور بخت نصر على بني إسرائيل فإنه من دلائل نبوة موسى إذ كان ظهور بخت نصر إنما كان لما غيروا عهود موسى ، وتركوا اتباعه ، فعوقبوا بذلك ، وكانوا إذ كانوا متبعين لعهود موسى منصورين مؤيدين كما كانوا في زمن داود وسليمان وغيرهما . قال تعالى :

وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 4 ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( 6 ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ( 7 ) عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا

[ ص: 417 ] فكان ظهور بني إسرائيل على عدوهم تارة ، وظهور عدوهم تارة من دلائل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم ، وكذلك ظهور أمة محمد صلى الله عليه وسلم على عدوهم تارة ، وظهور عدوهم عليهم تارة هو من دلائل رسالة محمد وأعلام نبوته ، وكان نصر الله لموسى وقومه على عدوهم في حياته وبعد موته ، كما جرى لهم مع يوشع وغيره من دلائل نبوة موسى ، وكذلك انتصار المؤمنين مع محمد صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته مع خلفائه من أعلام نبوته ودلائلها ، وهذا بخلاف الكفار الذين ينتصرون على أهل الكتاب أحيانا ، فإن أولئك لا يقول مطاعهم : إني نبي ، ولا يقاتلون أتباع الأنبياء على دين ، ولا يطلبون من أولئك أن يتبعوهم على دينهم ، بل قد يصرحون بأنا إنما نصرنا عليكم بذنوبكم ، وأن لو اتبعتم دينكم لم ننصر عليكم ، وأيضا فلا عاقبة لهم ، بل الله يهلك الظالم بالظالم ثم يهلك الظالمين جميعا ، ولا قتيلهم يطلب بقتله سعادة بعد الموت ، ولا يختارون القتل ليسعدوا بعد الموت ، فهذا وأمثاله مما يظهر به الفرق بين انتصار الأنبياء وأتباعهم ، وبين ظهور بعض الكفار على المؤمنين أو ظهور بعضهم على بعض .

[ ص: 418 ] وبين أن ظهور محمد وأمته على أهل الكتاب اليهود والنصارى هو من جنس ظهورهم على المشركين عباد الأوثان ، وذلك من أعلام نبوته ودلائل رسالته ، ليس هو كظهور بخت نصر على بني إسرائيل ، وظهور الكفار على المسلمين ، وهذه الآية مما أخبر بها موسى

وبين أن الكذاب المدعي للنبوة لا يتم أمره ، وإنما يتم أمر الصادق ، فإن من أهل الكتاب من يقول : محمد وأمته سلطوا علينا بذنوبنا مع صحة ديننا الذي نحن عليه كما سلط بخت نصر وغيره من الملوك ، وهذا قياس فاسد ، فإن بخت نصر لم يدع نبوة ، ولا قاتل على دين ، ولا طلب من بني إسرائيل أن ينتقلوا عن شريعة موسى إلى شريعته ، فلم يكن في ظهوره إتماما لما ادعاه من النبوة ودعا إليه من الدين ، بل كان بمنزلة المحاربين قطاع الطريق إذا ظهروا على القوافل ، بخلاف من ادعى نبوة ودينا دعا إليه ، ووعد أهله بسعادة الدنيا والآخرة ، وتوعد مخالفيه بشقاوة الدنيا والآخرة ، ثم نصره الله ، وأظهره ، وأتم دينه ، وأعلى كلمته ، وجعل له العاقبة ، وأذل مخالفيه ، فإن هذا من جنس خرق العادات المقترن بدعوى النبوة فإنه دليل عليها ، وذلك من جنس خرق العادات التي لم تقترن بدعوى النبوة ، فإنه ليس دليلا عليها .

وقد يغرق في البحر أمم كثيرة فلا يكون ذلك دليلا على نبوة نبي بخلاف غرق فرعون وقومه ، فإنه كان آية بينة لموسى ، وهذا موافق لما أخبر به موسى عليه الصلاة والسلام من أن الكذاب لا يتم أمره ، وذلك أن الله حكيم لا يليق به تأييد الكذاب على [ ص: 419 ] كذبه من غير أن يتبين كذبه ، ولهذا أعظم الفتن فتنة الدجال الكذاب لما اقترن بدعواه الإلهية بعض الخوارق كان معها ما يدل على كذبه من وجوه :

منها : دعواه الإلهية وهو أعور ، والله ليس بأعور ، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ ، والله تعالى لا يراه أحد حتى يموت ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلامات الثلاث في الأحاديث الصحيحة ، فأما تأييد الكذاب ، ونصره ، وإظهار دعوته دائما فهذا لم يقع قط ، فمن يستدل على ما يفعله الرب سبحانه بالعادة والسنة فهذا هو الواقع ، ومن يستدل على ذلك بالحكمة فحكمته تناقض أن يفعل ذلك إذ الحكيم لا يفعل هذا ، وقد قال تعالى :

ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ( 22 ) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا

فأخبر أن سنة الله التي لا تبديل لها نصر المؤمنين على الكافرين .

والإيمان المستلزم لذلك يتضمن طاعة الله ورسوله فإذا نقض [ ص: 420 ] الإيمان بالمعاصي كان الأمر بحسبه كما جرى يوم أحد ، وقال تعالى :

وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ( 42 ) استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ، ولن تجد لسنت الله تحويلا

فأخبر أن الكفار لا ينظرون إلا سنة الأولين ، ولا يوجد لسنة الله تبديل تستبدل بغيرها ولا تتحول ، فكيف النصر للكفار على المؤمنين الذين يستحقون هذا الاسم ، وكذلك قال في المنافقين ، - وهم الكفار في الباطن دون الظاهر - ، ومن فيه شعبة نفاق :

[ ص: 421 ] لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ( 60 ) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ( 61 ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا

والسنة هي العادة ، فهذه عادة الله المعلومة ، فإذا نصر من ادعى النبوة وأتباعه على من خالفه ، وإما ظاهرا وباطنا ، وإما باطنا نصرا مستقرا كان ذلك دليلا على أنه نبي صادق إذ كانت سنة الله وعادته نصر المؤمنين بالأنبياء الصادقين على الكافرين والمنافقين ، كما أن سنته تأييدهم بالآيات البينات ، وهذه منها

ومن ادعى النبوة وهو كاذب فهو من أكفر الكفار ، وأظلم الظالمين قال تعالى :

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله

وقال تعالى :

فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه

[ ص: 422 ] وقال تعالى :

فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين

ومن كان كذلك كان الله يمقته ، ويبغضه ، ويعاقبه ، ولا يدوم أمره ، بل هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال : " إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ :

وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد


وقال أيضا في الحديث الصحيح عن أبي موسى أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقومها تارة وتميلها أخرى ، ومثل [ ص: 423 ] المنافق مثل شجرة الأرز ، لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة " . فالكاذب الفاجر وإن أعطي دولة فلا بد من زوالها بالكلية ، وبقاء ذمه ، ولسان السوء له في العالم ، وهو يظهر سريعا ويزول سريعا كدولة الأسود العنسي ، ومسيلمة الكذاب ، والحارث الدمشقي ، وبابا الرومي ، ونحوهم .

وأما الأنبياء فإنهم يبتلون كثيرا ليمحصوا بالبلاء ، فإن الله إنما يمكن العبد إذا ابتلاه ، ويظهر أمرهم شيئا فشيئا كالزرع ، قال تعالى :

محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما

[ ص: 424 ] ولهذا كان أول ما يتبعهم ضعفاء الناس ، فاعتبار هذه الأمور ، وسنة الله في أوليائه وأنبيائه الصادقين ، وفي أعداء الله والمتنبئين الكذابين ، مما يوجب الفرق بين النوعين ، وبين دلائل النبي الصادق ، ودلائل المتنبئ الكذاب .

وقد ذكر ابتلاء النبي والمؤمنين ، ثم كون العاقبة لهم في غير موضع ، كقوله تعالى :

ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين

وقال تعالى :

أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب

وقال تعالى :

[ ص: 425 ] وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ( 109 ) حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ( 110 ) لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

التالي السابق


الخدمات العلمية