الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 481 ] وإذا كان جنس من يخبر قد يكون كاذبا ، وقد يكون صادقا ، فقد علم أنه ليس كل واحد أخبر بخبر يصدق مطلقا ، ولا يكذب مطلقا ، فلم يقل أحد من العقلاء أن كل خبر واحد أو خبر كل واحد يكون صدقا أو يفيد العلم ، ولا أنه يكون كذبا ، بل الناس يعلمون أن خبر الواحد قد يقوم دليل على صدقه فيعلم أنه صدق وإن كان خبر واحد ، وقد يقوم الدليل على كذبه فيعلم أنه كذب ، وإن أخبر به ألوف إذا كان خبرهم على غير علم منهم بما أخبروا به ، أو عن تواطئ منهم على الكذب ، مثل إخبار أهل الاعتقادات الباطلة بالباطل الذي يعتقدونه ، وأما إذا أخبروا عن علم منهم بما أخبروا به فهؤلاء صادقون في نفس الأمر ، ويعلم صدقهم تارة بتوافق أخبارهم من غير مواطأة ، ولو كانا اثنين ، فإن الاثنين إذا أخبرا بخبر طويل أسنداه إلى علم ، وقد علم أنهما لم يتواطأا عليه ، ولا هو مما قد يتفق في العادة تماثلهما فيه في الكذب أو الغلط علم أنه صدق .

[ ص: 482 ] وقد يعلم صدق الخبر الواحد بأنواع من الدلائل تدل على صدقه ، ويعلم صدق خبر الواحد بقرائن تقترن بخبره يعلم بها صدقه ، وتلك الدلائل والقرائن قد تكون صفات في المخبر ، من علمه ، ودينه ، وتحريه الصدق ، بحيث يعلم قطعا أنه لا يتعمد الكذب ، كما يعلم علماء أهل الحديث قطعا أن ابن عمر ، وعائشة ، وأبا سعيد ، وجابر بن عبد الله ، وأمثالهم ، لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وأمثالهم ، بل يعلمون علما يقينيا أن الثوري ، ومالكا ، وشعبة ، ويحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، والبخاري ، وأبا زرعة ، وأبا داود ، وأمثالهم ، لا يتعمدون الكذب في الحديث .

وقد تكون الدلائل صفات في المخبر به مختصة بذلك الخبر أو بنوعه يعلم بها أن ذلك المخبر لا يكذب مثل ذلك الخبر ، كحاجب [ ص: 483 ] الأمير إذا قال بحضرته لعسكره : إن الأمير قد أذن لكم في الانصراف ، أو أمركم أن تركبوا غدا ، أو أمر عليكم فلانا ، ونحو ذلك ، فإنهم يعلمون أنه لا يتعمد الكذب في مثل هذا وإن لم يكن بحضرته ، فكيف إذا كان بحضرته ، وإن كانوا قد يكذبونه في غير هذا .

وقد تكون الدلائل سماع من شاركه في العلم بذلك الخبر ، وإقراره عليه ، فإن العادة كما قد تمنع التواطؤ على الكذب فإنها قد تمنع التواطؤ على الكتمان وإقرار الكذب والسكوت ، وعن إنكاره ، فما توافرت الهمم والدواعي على ذكره والخبر به يمتنع أن يتواطأ أهل التواتر على كتمانه ، كما يمتنع في العادة أن تحدث حادثة عظيمة تتوفر الهمم والدواعي على نقلها في الحج أو الجامع أو العسكر ، وحيث توجب العادة نقل الحاضرين لما عاينوه ثم لا ينقل ذلك أحد .

وإقرار الكذب ، والسكوت على رده أعظم امتناعا في العادة من الكتمان فإن الإنسان في العادة قد تدعوه نفسه إلى أن يسكت على ما رآه وسمعه فلا يخبر به ، ولا تدعوه نفسه إلى أن يكذب عليه ، ويخبر عنه بما يعلم أنه كذب عليه فيقره ولا ينكره إذ كانت عادة الناس إلى [ ص: 484 ] تكذيب مثل هذا أبلغ من عادتهم بالإخبار به ، وكذلك إذا كذب في قصة ، وبلغ ذلك من شاهدها ، فتوفر الهمم على تكذيب هذا أعظم من توفرها على إخبارهم بما وقع ابتداء ، فإذا كانت من القضايا التي يمتنع السكوت عن إظهارها ، فالسكوت عن تكذيب الكاذب فيها أشد امتناعا ، وقد تكون الدلائل صفات فيه تقترن بخبره ، فإن الإنسان قد يرى حمرة وجهه فيميز بين حمرته من الخجل والحياء وبين حمرته من الحمى وزيادة الدم ، وبين حمرته من الحمام ، وبين حمرته من الغضب ، وكذلك يميز بين صفرته من الفزع ، والوجل ، وبين صفرته من الحزن ، والخوف ، وبين صفرته من المرض ، فكما أن سحنته ، ووجهه يعرف بها أحوال بدنه الطبيعية من أمراضه المختلفة حتى إن الأطباء الحذاق يعلمون حال المريض من سحنته فلا يحتاجون مع ذلك إلى نبض وقارورة ، وكذلك تعرف أحواله النفسانية هل هو فرح مسرور أو محزون مكروب ؟ ويعلم هل هو محب صديق مريد للخير [ ص: 485 ] أو هو مبغض عدو مريد للشر ؟ كما قيل :


تحدثني العينان ما القلب كاتم



والعين تعرف من عيني محدثها     إن كان من حزبها أو من أعاديها


، وكما قيل :

،

ولا خير في الشحناء والنظر الشزر



[ ص: 486 ] ثم إذا تكلم مع ذلك دل كلامه على أبلغ مما يدل عليه سيما وجهه ، كما قال تعالى عن المنافقين :

ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول

فأخبر أنه لا بد أن يعرف المنافقين في لحن القول ، وأن معرفتهم بالسيما معلقة بالمشيئة ، والمنافق الكاذب يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فبين أنه في لحن قوله يعلم أنه كاذب ، وقال في حق المؤمنين :

سيماهم في وجوههم من أثر السجود

وقال في حق الكافر :

عتل بعد ذلك زنيم

أي له زنمة من الشر أي علامة يعرف بها .

[ ص: 487 ] وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه " ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه "

وقد بسطنا الكلام على هذه في مسألة الإيمان ، وبينا أن ما يقوم بالقلب من تصديق ، وحب الله ورسوله ، وتعظيم ، لا بد أن يظهر على الجوارح ، وكذلك بالعكس ، ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألا إن في الجسد مضغة إذا [ ص: 488 ] صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب " . وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن رآه يعبث في الصلاة : " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " . ومن هذا الباب قوله تعالى :

لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله

وقوله :

ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء

وقوله : ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة

فإن [ ص: 489 ] الإرادة التي في القلب مع القدرة توجب فعل المراد ، والسفر في غزوة بعيدة لا يكون إلا بعدة ، ومن هذا الباب أن عثمان قال لعمر لما شاوره في المرأة التي أقرت بالزنا : " إني أراها تستهل به استهلال من لا يعرف أنه حرام " فإنه لما رآها تجهر بما فعلته ، وتحكيه من غير اكتراث ، تبين له أنها لم تعتقد تحريمه ، وأنه يذم ، وتعاقب عليه ، ووافقه عمر وعلي وغيرهما على ذلك .

والرجل الصادق البار يظهر على وجهه من نور صدقه ، وبهجة وجهه سيما يعرف بها ، وكذلك الكاذب الفاجر ، وكلما طال عمر الإنسان ظهر هذا الأثر فيه ، حتى إن الرجل يكون في صغره جميل الوجه ، فإذا كان من أهل الفجور مصرا على ذلك يظهر عليه في آخر عمره من قبح الوجه ما أثره باطنه ، وبالعكس .

وقد روي عن ابن عباس أنه قال : إن للحسنة لنورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وقوة في البدن ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن للسيئة لظلمة في القلب ، وسوادا في الوجه ، ووهنا في البدن ، وبغضة في قلوب الخلق .

وقد يكون الرجل ممن لا يتعمد الكذب لكن يعتقد اعتقادات [ ص: 490 ] باطلة كاذبة في الله أو في رسله أو في دينه أو عباده الصالحين ، وتكون له زهادة ، وعبادة ، واجتهاد في ذلك فيؤثر ذلك الكذب الذي ظنه صدقا وتوابعه في باطنه ، ويظهر ذلك على وجهه فيعلوه من القترة والسواد ما يناسب حاله ، كما قال بعض السلف : لو ادهن صاحب البدعة كل يوم بدهان ، إن سواد البدعة لفي وجهه "

وهذه الأمور تظهر يوم القيامة ظهورا تاما . قال تعالى :

ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ( 60 ) وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون

وقال تعالى :

يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( 106 ) وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون

. [ ص: 491 ] قال ابن عباس وغيره : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة .

والمقصود أن ما في القلوب من قصد الصدق والمحبة والبر ونحو ذلك قد يظهر على الوجه حتى يعلم ذلك علما ضروريا من أبلغ العلوم الضرورية ، وكذلك ما فيها من قصد الكذب والبغض والفجور وغير ذلك ، والإنسان يرافق في سفره من لم يره قط إلا تلك الساعة فلا يلبث إذا رآه مدة ، وسمع كلامه أن يعرف هل هو مأمون يطمئن إليه ؟ أو ليس كذلك ؟ وقد يشتبه عليه في أول الأمر ، وربما غلط ، لكن العادة الغالبة أنه يتبين ذلك بعد لعامة الناس .

وكذلك الجار يعرف جاره ، والمعامل يعرف معامله ، ولهذا لما شهد عند عمر بن الخطاب رجل فزكاه آخر قال : هل أنت جاره الأدنى تعرف مساءه وصباحه ؟ قال : لا . قال : هل عاملته في الدرهم والدينار الذين تمتحن بهما أمانات الناس ؟ قال : لا . قال : هل رافقته في السفر الذي ينكشف فيه أخلاق الناس ؟ قال : لا . قال : فلست [ ص: 492 ] تعرفه وروي أنه قال : لعلك رأيته يركع ركعات في المسجد . وذلك أن المنافق قد يظهر الصلاة فمن لم يخبره لا يعرف باطن أمره كما قيل :

ذئب تراه مصليا     فإذا مررت به ركع


يدعو وجل دعائه ما للفريسة لا تقع     ، وإذا الفريسة خيلت
ذهب التنسك والورع

فإذا كان كذلك فمن نبأه الله واصطفاه للرسالة كان قلبه من أفضل القلوب صدقا وبرا ، ومن افترى على الله الكذب كان قلبه من شر القلوب كذبا وفجورا كما قال عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لرسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب [ ص: 493 ] العباد فاتخذهم لصحبة نبيه ، وإقامة دينه فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيئ ، وقال عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة . أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم .

وإذا كان من أعظم بل أعظم أهل زمانه صدقا وبرا فإنه لا بد أن يظهر على فلتات لسانه وصفحات وجهه ما يناسب ذلك ، كما أن الكاذب الكافر لا بد أن يظهر على وجهه وفلتات لسانه ما يناسب ذلك ، وهذا يكون تارة حين إخباره بما يخبر به ، وتارة موجودا في غير تلك الحال ، فإن الرجل إذا جاء ، وقال : إن السلطان أو الأمير أو الحاكم أو الشيخ أو فلانا أرسلني إليكم بكذا ، فإنه قد يقترن بنفس إخباره من كيفيته وحاله ما يعلم به أنه صادق أو كاذب ، وإن كان معروفا قبل ذلك [ ص: 494 ] بالصدق أو الكذب كان ذلك دلالة أخرى ، وقد يكون ممن يكذب ، ولكن يعرف أنه صادق في ذلك الخبر ، دع من يستمر على خبر واحد بضعا وعشرين سنة مع أصناف الناس ، واختلاف أحوالهم .

ومما ينبغي أن يعلم أن الناس تختلف أحوالهم في المعرفة ، والخبرة ، والنظر ، والاستدلال في جميع المعارف ، فقد يتفطن الإنسان لدلالة لا يتفطن لها غيره ، وقد يتبين له ما يخفى على غيره ، حتى الأنبياء يتفاضلون كما قال تعالى :

وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما والمقصود أن العلم بصدق الصادق ، وكذب الكاذب كغيرهما من المعلومات قد يكون ضروريا ، وقد يكون نظريا ، وهو ليس من الضروريات الكلية الأولية ، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين ، بل من العلم بالأمور المعينة كالعلم بحمرة الخجل ، وصفرة الوجل ، وعدل العادل ، وظلم الظالم ، ونحو ذلك مما يعرفه الخبير بذلك علما ضروريا ، وإذا كان استدلاليا فالمعرفة بالعلم لا تحصل بمجرد وجود [ ص: 495 ] الدليل في نفسه ، بل لا بد من معرفة القلب به ، والناس متفاوتون في ذلك ، والدليل أبدا هو ما استلزم المدلول ، فكل ما كان مستلزما للشيء كان دليلا عليه ، لكن لا بد من معرفته ، ومعرفة أنه مستلزم ثم إذا حصل العلم صار ضروريا ، وقد يكون ضروريا بلا واسطة دليل معين ، وليس العلم بالمعينات كالعلم بصدق هذا وكذب هذا ، مما يحتاج فيه إلى القياس الشمولي ، فإن ذلك إنما يفيد بتوسط قضية كلية ، والمعينات قد لا يحتاج فيها إلى ذلك ، وإن كان لا بد فيها من خبرة بحال ذلك المعين .

وإذا كان القائل : إني رسول الله ، إما أن يكون من خيار الناس ، وأصدقهم ، وأبرهم ، وأفضلهم ، وإما أن يكون من شرار الناس ، وأكذبهم ، وأفجرهم ، والفرق بين هذين يكون من وجوه كثيرة لا تكاد تنضبط ، كل منها يعرف به صدق هذا وكذب هذا ، وكانت المعرفة بذلك قد تحصل عند سماع خبر هذا وخبر هذا ، ورؤية وجهه ، وسماع كلامه ، وما يلزم ذلك ويقترن به من بهجة الصدق ونوره ، ومن ظلمة الكذب وسواده وقبحه .

يتبين بذلك أن كثيرا من الناس يحصل لهم علم ضروري بأن [ ص: 496 ] هذا النبي صادق ، وهذا المتنبي كاذب بمثل ذلك ، من قبل أن يروا خارقا للعادة .

وقول بعض المتكلمين : ما لم يكن خارقا للعادة ، لا اختصاص للنبي به ، فلا يدل . فيقال له : لفظ خرق العادة لفظ مجمل ، وإن تعين دعوى النبوة صدقا وكذبا ليس هو أمرا معتادا ، ولم يقع هذا إلا في أفراد من العالم ، وهو أقل بكثير من الإخبار بالمغيبات ، فإن هذا أكثر في الوجود من دعوى النبوة ، إذ كل نبي يخبر بالمغيبات ، وليس كل من أخبر بها كان نبيا ، وهؤلاء الذين يقولون هذا يقول أكثرهم أو كثير منهم : إن دعوى النبوة والتحدي والمعجز مجموعها هو المختص بالنبي ، وإلا فهم يقولون : إن ما كان معجزة لنبي جاز أن يظهر على يدي ولي أو ساحر ، وإنما يفرق بينهما التحدي وعدم المعارضة . ومنهم من ينكر خرق العادة أن يظهر على يد غير نبي ، ومنهم من لا يفرق بين الولي والساحر إلا ببر هذا وفجور هذا ، ومنهم من يطرد ذلك في النبي لا سيما متفلسفة اليونان ، فإنهم من أجهل [ ص: 497 ] الناس بأمر النبوة ، إذ كانوا لم يأخذوها من العلم بصدق الأنبياء ، وبما جاءوا به من الآيات والبراهين والعلم بصفاتهم ، وإنما أخذوها من القياس على المنامات ، فجوزوا فيها مثل ما يجوز على النائم من الأحلام والتخيل ، وما يصيب أهل المرة السوداء مما يشبه ذلك .

وهذا هو الموجود في عامة أتباع أرسطو ، ولكن متأخروهم كابن سينا ضم إلى ذلك تصرفه في هيولي العالم لما بلغه من خوارقهم الفعلية التي لم يكن يعرفها أولئك ، إذ كان علم أرسطو هو ما كان يعلمه قومه من اليونان ، وهم أمة أولاد يافث لم يكن [ ص: 498 ] فيهم ما في أولاد سام كهود ، وصالح ، وغيرهما ، ثم أولاد إبراهيم الخليل الذي وعده الله أن يجعل في ذريته النبوة والكتاب حتى يكون علم النبوة مشهورا فيهم ، وقد جعل الله تعالى من زمن الخليل في ذريته النبوة والكتاب ، كما أخبر بذلك في القرآن ، وهم لم يكونوا من ذريته ، ولا كانوا خبيرين بأحوال ذريته ، وقد ذكر طائفة منهم كمحمد بن يوسف العامري ، وصاعد بن صاعد الأندلسي أن أساطينهم خمسة [ ص: 499 ] ثم أربعة ابندقلس ثم فيثاغورس ثم سقراط ثم أفلاطن قدموا الشام ، واستفادوا من بني إسرائيل ، ولهذا لم يكن من هؤلاء من قال بقدم العالم بخلاف أرسطو قالوا : فإنه لم يقدم الشام ، وذكر هؤلاء كمحمد بن يوسف العامري ، وغيره أن أول من لقب بالحكمة لقمان ، وأن ابندقلس استفاد منه ، ومن أتباع داود عليه السلام - [ ص: 500 ] فإنه كان في زمن داود ، وإذا كان هذا قول هؤلاء النظار ، وأهل الكلام والفلسفة ، فمجرد خرق العادة عندهم ليس وحده مستلزما للنبوة حتى يكون وحده دليلا بل لا بد أن ينضم إلى ذلك التحدي وعدم المعارضة .

ولهذا لما اختلف قول طائفة منهم كأبي الحسن وأتباعه : هل يجوز ظهور الخارق على يد الكاذب ؟ فقيل : لا يجوز لأنه علم النبوة ، فيمتنع أن يتخلف عنه مدلوله كسائر الأدلة ، وقيل : بل يجوز ، ولكن الله لا يفعله . ثم قيل : لأنه يستلزم عجزه عن تصديق الرسول إذ لا طريق إليه إلا المعجز عندهم ، وقيل : بل هو مقدور ممكن ، ولكن نحن نعلم اضطرارا أنه لا يفعله مثل كثير مما يمكن في العادة ، ونعلم أن الله لا يفعله ، وجميع من جمع بين القولين ، وقال : مجموع ما يدل على النبوة ، وهو الخارق السالم عن المعارض يمتنع أن يكون لغير نبي بخلاف جنس الخارق ، فقيل له : هذا الامتناع إما أن يكون عاديا ، وإما أن يكون لاستلزامه العجز عن تصديق النبي ، وذلك ممتنع فإذا كان ممتنعا لاستلزامه العجز عن تصديق النبي ، وذلك ممتنع فإذا كان ممتنعا لاستلزامه أمرا ممتنعا ، وإذا كان انفلات [ ص: 501 ] العادة ليس عندك ممتنعا فلا بد لك من ذلك الجواب ، وهو القول بأنا نعلم ضرورة أن ذلك لم يكن ، ثم إذا علمت أن هذا علم ضروري ، وأن العلم بدلالتها على الصدق أمر ضروري كالمثل الذي ضربته في إرسال الملك رسولا ، وقول رسوله : إن كنت صادقا فغير عادتك بقيامك ثم قعودك ، ففعل ذلك عقب سؤال الرسول ، فإن ذلك يوجب العلم الضروري بصدق الرسول .

وقيل لك : الملك تعلم عادته ، ويعلم أنه فعل ذلك للتصديق ، والرب عندك لم يخلق شيئا لشيء . فقلت : بل يخلق شيئا مقارنا لشيء كالعاديات ، وهذا منها . فقيل لك : العادات قد تكررت . فقلت : قد نعلم ذلك بلا تكرر ، وجعلت ذلك من باب الدلالة الوضعية كدلالة اللفظ على قصد المتكلم ، وقلت : قد نعلم قصده اضطرارا من غير سبق مواضعة ، وهذه العلوم الضرورية التي ذكرت أنه يعلم بها صدق الرسول ، وإن كانت حقا فجمهور الناس يقولون : إنك لم تقر بلوازمها من كونه يفعل لأجل كذا ، ويقولون : القول بأنه خلق المعجزة لقصد التصديق مع القول بأنه لا يخلق شيئا لأجل شيء تناقضا . فقلت : لا يشترط في العلم الضروري العلم بأنه يفعل كذا لأجل كذا . فقيل [ ص: 502 ] لك : هب أنه كذلك لكن لا يحصل العلم الضروري مع العلم بما يناقضه .

والمقصود أن ما يذكره هؤلاء وأمثالهم من النظار ، بل وعامة الناس هم فيما يثبتونه من العلم والحقائق المعلومة أسد منهم وأصوب فيما ينفونه ، فإن الإنسان لما يثبته أعلم منه بما ينفيه ، وشهادته على الإثبات أقوى من شهادته على النفي ، وإن كان النفي قد يكون معلوما لكن غلط الناس فيما ينفونه ويكذبون به أكثر من غلطهم فيما يثبتونه ويصدقون به ، ولهذا قال تعالى :

بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله

ولهذا تجد من سلك طريقا من الطرق إما في إثبات العلم بالصانع ، وإما في العلم بالنبوة أو العلم بالمعاد أو غير ذلك ، واحد يقول : لا طريق إلا هذا الطريق ، يخطئ في النفي أكثر من خطئه في الإثبات ، ومنهم هؤلاء فإنهم قد ينفون من العلم والطرق ما يعلمه غيرهم بالاضطرار ، ويثبتون ما يقولون إنه معلوم بالاضطرار ، وقد يكون غيرهم أصوب فيما يثبته منهم فيما ينفونه ، بل وفيما يثبتونه .

[ ص: 503 ] ولهذا الذين اتفقوا على أنه لا طريق إلا المعجزات تنوعوا في وجه دلالتها فيثبت هؤلاء وجها يستدلون به ، وينفون طريق غيرهم ، وبالعكس ، فإذا قالوا ما سوى الخارق للعادة ليس يختص بالنبي فلا يدل على نبوته . قيل لهم : الدليل هو الذي يكون مستلزما للمدلول يلزم من تحققه تحقق المدلول ، ولفظ الخارق للعادة فيه إجمال كما تقدم ، وحينئذ فنفس إنباء الله للنبي ، واصطفائه لرسالته ، وإقداره على التلقي من الملك هو من خوارق العادات ، وذلك من المعجزات التي أعجز الله الخلق أن يفعلوه ، وهو مختص بالأنبياء ، وهذا الوصف أجل وأعظم قدرا من غيره من الخوارق ، والمستلزم لهذا الخارق لا يكون إلا خارقا ، وهو الدليل ، إذ يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت اللازم ، ومن انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ، والمعتاد الذي يوجد بدون النبوة لا يكون دليلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية