قيل لهم عن هذا أجوبة :
أحدها : أنه في الكتب المتقدمة مما يظن أنه متعارض أضعاف ما في القرآن وأقرب إلى التناقض ، فإذا كانت تلك الكتب متفقة لا تناقض فيها ، وإنما يظن تناقضها من يجهل معانيها ومراد الرسل فيكون كما قيل :
[ ص: 379 ]
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
فكيف القرآن الذي هو أفضل الكتب ؟الثاني : أنهم متمسكون بالمتشابه في تلك الكتب ، ومخالفون المحكم منها كما فعلوه بالقرآن وأبلغ .
الثالث : أنه إذا كان ما جاء به متناقضا لم يكن رسول الله ، فإن ما جاء به من عند الله لا يكون مختلفا متناقضا ، وإنما يتناقض ما جاء من عند غير الله ، قال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
، وحينئذ فإن كان متناقضا لم يجز لهم الاحتجاج بشيء منه ; فإنه ليس من عند الله ، وإن لم يكن متناقضا ثبت أن ما فيه من عموم رسالته ، وأنه رسول إليهم ، فليس فيه شيء يناقضه ، فإن ما جاء من عند الله لا يتناقض . فكل كتاب ليس من عند الله لا بد أن يكون فيه تناقض ، وما كان من عند الله لا يتناقض
الرابع : أنا نبين أن ما فيه من عموم رسالته لا ينافي ما فيه من أنه أرسل إلى العرب ، كما أن ما فيه من إنذار عشيرته الأقربين ، وأمر قريش لا ينافي ما فيه من دعوة سائر العرب ; فإن تخصيص بعض العام بالذكر [ ص: 380 ] إذا كان له سبب يقتضي التخصيص لم يدل على أن ما سوى المذكور مخالفة ، وهذا الذي يسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب .
والناس كلهم متفقون على أن كقوله تعالى : التخصيص بالذكر متى كان له سبب يوجب الذكر غير الاختصاص بالحكم لم يكن للاسم اللقب مفهوم ، بل ولا للصفة ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق .
[ ص: 381 ] فإنه نهاهم عن ذلك ; لأنه هو الذي كانوا يفعلونه ، وقد حرم في موضع آخر قتل النفس بغير الحق ، سواء كان ولدا ، أو غيره ، ولم يكن ذلك مناقضا لتخصيص الولد بالذكر .
الخامس : أنه في ذلك أسوة بالمسيح عليه السلام فإن المسيح خص أولا بالدعوة ، ثم عم ، كما قيل في الإنجيل : ما بعثت وأرسلت إلا لبني إسرائيل . وقال أيضا في الإنجيل : ما بعثت إلا [ ص: 382 ] لهذا الشعب الخبيث . ثم عم ، فقال لتلامذته حين أرسلهم كما في الإنجيل : كما بعثني أبي أبعث بكم ، فمن قبلكم فقد قبلني . وقال : أرسلني أبي ، وأنا أرسلكم . وقال : كما أفعل أنا بكم ، كذلك افعلوا أنتم بعباد الله فسيروا في البلاد ، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس ، ولا يكون لأحدكم ثوبان ، ولا يحمل معه فضة ولا ذهبا ولا عصا ولا حرابة ونحو ذلك مما هو في الأناجيل التي بين أيديهم من تخصيص الدعوة ثم تعميمها ، وهو صادق في ذلك كله ، فكيف يسوغ لهم إنكار ما في الإنجيل عن المسيح نظيره ؟ ثم يقال في بيان الحال : إن الله تعالى بعث محمدا [ ص: 383 ] صلى الله عليه وسلم ، كما بعث المسيح وغيره ، وإن كانت رسالته أكمل وأشمل كما نذكر في موضعه ، فأمره بتبليغ رسالته بحسب الإمكان إلى طائفة بعد طائفة ، وأمر بتبليغ الأقرب منه مكانا ونسبا ، ثم بتبليغ طائفة بعد طائفة ; حتى تبلغ النذارة إلى جميع أهل الأرض ، كما قال تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ .
أي من بلغه القرآن محمد صلى الله عليه وسلم . فكل من بلغه القرآن فقد أنذره
ونبين هنا أن النذارة ليست مختصة بمن شافههم بالخطاب ، بل ينذرهم به وينذر من بلغهم القرآن ، فأمره الله تبارك وتعالى أولا بإنذار عشيرته الأقربين وهو قريش ، فقال تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين .
ولما أنزل الله عليه هذه الآية انطلق صلى الله عليه وسلم إلى مكان عال فعلا عليه ، ثم جعل ينادي : . يا بني عبد مناف إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه ، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه
[ ص: 384 ] وهذه القصة رواها ابن عباس وأبو هريرة وغيرهم في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن والمسانيد والتفسير . وعائشة
قال : لما ابن عباس وأنذر عشيرتك الأقربين . ورهطك منهم المخلصين ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فجعل ينادي : يا بني فهر ، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج [ ص: 385 ] أرسل رسولا لينظر ما هو ؟ فاجتمعوا إليه فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقا ، ما جربنا عليك كذبا . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . نزلت هذه الآية :
وقال : أبو هريرة وأنذر عشيرتك الأقربين . دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ، فاجتمعوا ، فعم وخص ، فقال : يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا محمد أنقذي نفسك من النار ، [ ص: 386 ] فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها فاطمة بنت . لما نزلت هذه الآية :
وقالت رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية : عائشة وأنذر عشيرتك الأقربين . محمد ، يا فاطمة بنت عمة رسول الله ، يا صفية عم رسول الله لا أملك لكم من الله شيئا عباس . قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، فقال : يا
وقال : ابن إسحاق لما نزلت هذه الآية جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينادي : يا بني عبد المطلب ، يا بني عبد مناف ، يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش ، ثم قال : إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وإني لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله ، فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ؟ [ ص: 387 ] تبا لك سائر اليوم ، فأنزل الله : تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد .
ودعا قريشا إلى الله ، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له ، وأنزل تعالى : لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
وقد أنزل الله عليه في غير موضع أمر جميع الخلق بعبادته ، كقوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون .
وقوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
وقريش هم قومه الذين كذبه جمهورهم أولا ، كما قال تعالى : وكذب به قومك وهو الحق .
[ ص: 388 ] كما أن جمهور بني إسرائيل وهم قوم المسيح كذبوه أولا .
ثم أمره الله تعالى أن يدعو سائر العرب ، فكان يخرج بنفسه ومعه صديقه إلى قبائل العرب قبيلة قبيلة ، وكانت العرب لم تزل تحج البيت من عهد أبو بكر إبراهيم الخليل عليه السلام ، فكان صلى الله عليه وسلم يأتيهم في منازلهم بمنى ، وعكاظ ، ومجنة ، وذي المجاز ، فلا يجد أحدا إلا دعاه إلى الله ، ويقول : قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي فمن يمنعني أن أبلغ كلام ربي إلا رجل [ ص: 389 ] يحملني إلى قومه ، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي ، يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ، وتملكوا بها العرب ، وتذل لكم بها العجم فيقولون : يا يا أيها الناس ، إني رسول الله آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما يعبد من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني ; حتى أبين عن الله ما بعثني به ، يا أيها الناس إن محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا ؟ إن أمرك هذا لعجب .
وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن دعوته ، ويظهر رسالته ، ويدعو الخلق إليها ، وهم يؤذونه ويجادلونه ويكلمونه ، ويردون عليه بأقبح الرد ، وهو صابر على أذاهم ، ويقول : اللهم لك الحمد لو شئت لم يكونوا هكذا .
فلما اشتد عليه أمر قريش خرج إلى الطائف وهي مدينة معروفة [ ص: 390 ] شرقي مكة بينهما نحو ليلتين ومعه زيد بن حارثة ، ومكث بها عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه في منزله وكلمه ودعاه إلى التوحيد ، فلم يجبه أحد منهم ، وخافوه على أحداثهم ، وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة إذا مشى حتى أن رجليه لتدميان ، وزيد مولاه يقيه بنفسه حتى ألجئوا إلى ظل كرمة في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فرجع عنه ما كان تبعه من سفهائهم ، فدعا ، فقال : اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك .
فلما رأى ابنا ربيعة ما صنع به رثيا له ، وقالا لغلام لهما يقال له [ ص: 391 ] عداس - وكان نصرانيا - : خذ قطفا من عنب ، ثم اجعله في طبق ، ثم اذهب إلى ذلك الرجل يأكله ، ففعل عداس وأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، قال : بسم الله ، ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ، ثم قال له : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أي البلاد أنت ؟ وما دينك ؟ فقال عداس : أنا نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ والله لقد خرجت من نينوى ، وما فيها عشرة يعرفون متى ، من أين عرفت أنت متى وأنت أمي وفي أمة أمية ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو أخي كان نبيا وأنا نبي ، فأكب عداس على رسول الله صلى الله [ ص: 392 ] عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه ، فلما رجع عداس فقالا : ويلك يا عداس ، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه ورجليه ، فقال : يا سيدي ، ما في الأرض خير من هذا الرجل ، لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي .
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون ، إذ لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة ، فقال له : كيف تدخل عليهم يا رسول الله وقد فعلوا وفعلوا ، فقال : يا زيد بن حارثة ، إن الله عز وجل جاعل لما ترى فرجا ومخرجا ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه . زيد
[ ص: 393 ] ثم ذكر دخوله إلى ابن إسحاق مكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقي من أهل مكة والطائف ما لقي ودعا بالدعاء المتقدم نزل عليه جبريل ومعه ملك الجبال - كما في صحيح - أن البخاري رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : عائشة ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت ، فإذا فيها [ ص: 394 ] جبريل فناداني : إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . قال : فناداني ملك الجبال وسلم علي ، ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له . هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على
وأخرج في صحيحه عن مسلم : أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة ادع الله على المشركين ، فقال : إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة .
وفي الصحيحين : عن ، أنه قال : خباب بن الأرت . لما اشتد البلاء [ ص: 395 ] علينا من المشركين أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا : ألا تدعو الله لنا ؟ ألا تستنصر الله لنا ؟ فقال : لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ، ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه حتى يجعل فرقتين ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب ، ما يصرفه عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله ولكنكم تستعجلون
وذكر ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قومه من الأذى والاستهزاء والإغراء وهو صابر محتسب ، مظهر لأمر الله بتبليغ رسالته ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، مواجه لقومه بما يكرهون من عيب دينهم وآلهتهم ، وتضليل آبائهم ، وتسفيه أحلامهم ، وإظهار عداوته ، وقتاله إياهم ما بلغ مبلغ القطع .
[ ص: 396 ] قال عكرمة ، عن : ابن عباس مكة فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار ، فانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى فريق منهم ، فقرأ عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله ، وأخبرهم بالذي آتاه الله فأيقنوا واطمأنت قلوبهم إلى دعوته ، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته ، وما يدعوهم إليه فصدقوه وآمنوا به ، وكان من أسباب الخير الذي ساق الله للأنصار إلى ما كانوا يسمعون من الأخبار في صفته ، فلما رجعوا إلى قومهم جعلوا يدعونهم سرا ، ويخبرونهم بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي بعثه الله به من النور والهدى والقرآن ، فأسلموا حتى قل أن يوجد دار من دورهم إلا أسلم فيها ناس لا محالة . ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى
وقد ذكر الله ذلك في القرآن ، وأخبر أن ، فقال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب : أهل الكتاب كانوا يخبرون العرب به ويستفتحون به عليهم ، فكان أهل الكتاب مقرين بنبوته مخبرين بها مبشرين بها قبل أن يبعث
[ ص: 397 ] ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين .
فقد أخبر تعالى أن أهل الكتاب كانوا يستفتحون على العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث - أي يستنصرون به - وكانوا هم والعرب يقتتلون فيغلبهم العرب ، فيقولون : سوف يبعث [ ص: 398 ] النبي الأمي من ولد إسماعيل فنتبعه ونقتلكم معه شر قتلة ، وكانوا ينعتونه بنعوته .
وأخبارهم بذلك كثيرة متواترة ، وكما قال تعالى : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
وأخبر بما كانت عليه اليهود من أنه كلما جاءهم رسول الله بما لا تهوى أنفسهم كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم ، وأخبر أنهم باءوا بغضب على غضب ; فإنهم ما زالوا يفعلون ما يغضب الله عليهم ، فإما أن يراد بالتثنية تأكيد غضب الله عليهم ، وإما أن يراد به مرتان ، والغضب الأول : تكذيبهم المسيح والإنجيل ، والغصب الثاني : لمحمد والقرآن .