[ ص: 399 ] وكان تزيد على ألف معجزة ، مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات ، ومثل القرآن المعجز ، ومثل أخبار أهل الكتاب قبله وبشارة [ ص: 400 ] الأنبياء به ، ومثل أخبار الكهان والهواتف به ، ومثل قصة الفيل التي جعلها الله آية عام مولده ، وما جرى عام مولده من العجائب الدالة على نبوته ، ومثل امتلاء السماء ورميها بالشهب التي ترجم بها الشياطين بخلاف ما كانت العادة عليه قبل مبعثه وبعد مبعثه ، ومثل إخباره بالغيوب التي لا يعلمها أحد إلا بتعليم الله عز وجل من غير أن يعلمه إياها بشر . فأخبرهم بالماضي مثل قصة يأتيهم بالآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ، ومعجزاته آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح وهود وشعيب وصالح وغيرهم ، وبالمستقبلات .
وكان قومه يعلمون أنه لم يتعلم من أهل الكتاب ، ولا غيرهم ، ولم يكن بمكة أحد من علماء أهل الكتاب ممن يتعلم هو منه ، بل ولا كان يجتمع بأحد منهم يعرف اللسان العربي ، ولا كان هو يحسن لسانا غير العربي ، ولا كان يكتب كتابا ، ولا يقرأ كتابا مكتوبا .
ولا سافر قبل نبوته إلا سفرتين : سفرة وهو صغير مع عمه أبي طالب [ ص: 401 ] لم يفارقه ، ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب ولا غيرهم ، وسفرة أخرى وهو كبير مع ركب من قريش لم يفارقهم ، ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب .
وأخبر من كان معه بأخبار أهل الكتاب بنبوته مثل إخبار بحيرى الراهب بنبوته ، وما ظهر منه مما دلهم على نبوته ، ولهذا تزوجت [ ص: 402 ] به قبل نبوته لما أخبرت به من أحواله . خديجة
وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ، ولكن المقصود هنا : محمدا صلى الله عليه وسلم له معجزات كثيرة ، مثل نبع الماء من بين أصابعه غير مرة ، ومثل تكثير الطعام القليل حتى أكل منه الخلق العظيم ، وتكثير الماء القليل حتى شرب منه الخلق الكثير . التنبيه بأن
وهذا ما جرى غير مرة له ولأمته من الآيات ما يطول وصفه ، فكان بعض أتباعه يحيي الله له الموتى من الناس والدواب ، وبعض أتباعه يمشي بالعسكر الكثير على البحر حتى يعبروا إلى الناحية الأخرى ، [ ص: 403 ] ومنهم من ألقي في النار ، فصارت عليه بردا وسلاما ، وأمثال ذلك كثير .
ولكن المقصود هنا ذكر بعض ما في القرآن من أنه كان يخبرهم بالأمور الماضية خبرا مفصلا لا يعلمه أحد إلا أن يكون نبيا ، أو من أخبره نبي وقومه يعلمون أنه لم يخبره بذلك أحد من البشر ، وهذا مما قامت به الحجة عليهم ، وهم مع قوة عداوتهم له وحصرهم على ما يطعنون به عليه لم يمكنهم أن يطعنوا طعنا يقبل منهم ، وكان علم سائر الأمم بأن قومه المعادين له المجتهدين في الطعن عليه لم يمكنهم أن يقولوا : إن هذه الغيوب علمها إياه بشر ، فوجب على جميع الخلق أن هذا لم يعلمه إياها بشر ; ولهذا قال تعالى : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا .
فأخبر أنه لم يكن يعلم ذلك هو ولا قومه ، وقومه تقر بذلك ، ولم يتعلم من أحد غير قومه ; ولهذا زعم بعضهم أنه تعلم من بشر ظهر [ ص: 404 ] كذبه لكل أحد ، كما قال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .
فكان بمكة رجل أعجمي مملوك لبعض قريش ، فادعى بعض الناس أن محمدا كان يتعلم من ذلك الأعجمي ، فبين الله أن هذا كذب ظاهر ، فإن ذلك رجل أعجمي لا يمكنه أن يتكلم بكلمة من هذا القرآن العربي ، ومحمد صلى الله عليه وسلم عربي لا يعرف شيئا من ألسنة العجم ، فمن كلمه بغير العربية لا يفقه كلامه ، فلا ذلك [ ص: 405 ] الرجل يحسن التكلم بالعربية ، ولا محمد صلى الله عليه وسلم يفهم كلاما بغير العربية ، فلهذا قال تعالى : لسان الذي يلحدون إليه . أي : يميلون إليه ويضيفون إليه أنه علم محمدا صلى الله عليه وسلم : أعجمي وهذا لسان عربي مبين .
وكذلك قال بعض الناس عن القرآن : إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون .
قال تعالى : فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما .
فبين سبحانه أن قول هذا من الكذب الظاهر المعلوم لأعدائه فضلا عن أوليائه ، فإنهم يعلمون أنه ليس عنده أحد يعينه على ذلك ، [ ص: 406 ] وليس في قومه ، ولا في بلده من يحسن ذلك ليعينه عليه ; فلهذا قال تعالى فقد جاءوا ظلما وزورا .
فإن جميع أهل بلده وقومه المعادين له يعلمون أن هذا ظلم له وزور ، ولهذا لم يقل هذا أحد من عقلائهم المعروفين ، وكذلك ، فإن قومه المكذبين له يعلمون أنه ليس عنده من يملي عليه كتابا ، وقد بين ما يظهر كذبهم بقوله قولهم : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض .
فإن ، ثم لما تبين بطلان قولهم هذا ، ذكر ما قدحوا به في نبوته فقال تعالى : وقالوا في القرآن من الأسرار ما لا يعلمه بشر إلا بإعلام الله إياه ، فإن الله يعلم السر في السماوات والأرض مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا .
فهذا كلام المعارضين له الذين أنكروا أكله ومشيه في الأسواق التي يباع فيها ما يؤكل وما يلبس ، وقالوا : هلا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ، أو يستغني عن ذلك بكنز ينفق منه أو جنة يأكل منها ؟ وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا .
[ ص: 407 ] قال تعالى : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .
يقول مثلوك بالكاذب والمسحور والناقل عن غيره ، وكل من هذه الأقوال يظهر كذبه لكل من عرفك ; ولهذا قال تعالى فضلوا فلا يستطيعون سبيلا والضال : الجاهل العادل عن الطريق ، فلا يستطيع الطريق الموصلة إلى المقصود ، بل ظهر عجزهم وانقطاعهم في المناظرة .
وقال تعالى : وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى .
فإنه أتاهم بجلية ما في الصحف الأولى ، كالتوراة والإنجيل مع علمهم بأنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا ، فإذا أخبرهم بالغيوب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي ، وهم يعلمون أنه لم يعلم ذلك بخبر أحد من الأنبياء تبين لهم أنه نبي ، وتبين ذلك لسائر الأمم ; فإنه إذا [ ص: 408 ] كان قومه المعادون وغير المعادين له مقرين بأنه لم يجتمع بأحد يعلمه ذلك ، صار هذا منقولا بالتواتر ، وكان مما أقر به مخالفوه مع حرصهم على الطعن لو أمكن .
فهذه قامت بها الحجة على قومه وعلى جميع من بلغه خبر ذلك ، وقد الأخبار بالغيوب المتقدمة وهذه تقوم بها الحجة على من عرف تصديق ذلك الخبر كما قال تعالى : أخبر بالغيوب المستقبلة غلبت الروم في أدنى الأرض .
ثم قال : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء .
وقال تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا .
فأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك في المستقبل ، وكان كما أخبر .
[ ص: 409 ] وقال تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
فأخبر أنه لا يقدر الإنس والجن إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وهذا الخبر قد مضى له أكثر من سبعمائة سنة ، ولم يقدر أحد من الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وقال عن الكفار وهو بمكة : سيهزم الجمع ويولون الدبر .
وظهر تصديق ذلك يوم بدر وغيره ، وبعد ذلك بسنين كثيرة .
وقال تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا .
وكان الأمر كما وعده وظهر تصديق ذلك بعد سنين كثيرة ، وكذلك قوله : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .
فأظهر الله ما بعثه به بالآيات والبرهان واليد والسنان .
وقال تعالى : قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد .
[ ص: 410 ] فكان كما أخبرهم غلبوا في الدنيا كما شاهده الناس ، وهذا يصدق الخبر الأخير وهو أنهم يحشرون إلى جهنم وبئس المهاد .
وقد أيده تأييدا لا يؤيد به إلا الأنبياء ، بل لم يؤيد أحد من الأنبياء كما أيد به ، كما أنه بعث بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع ، وجعله سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم فلا يعرف قط أحد ادعى النبوة وهو كاذب إلا قطع الله دابره وأذله وأظهر كذبه وفجوره .
وكل من أيده الله من المدعين للنبوة لم يكن إلا صادقا كما أيد نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان ، بل وأيد شعيبا وهودا وصالحا ، فإن سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، وهذا هو الواقع ، فمن كان لا يعلم ما يفعله الله إلا بالعادة فهذه عادة الله وسنته يعرف بها ما يصنع ، ومن كان يعلم ذلك بمقتضى حكمته فإنه يعلم أنه لا يؤيد من ادعى النبوة وكذب عليه [ ص: 411 ] تأييدا لا يمكن أحدا معارضته ، وهكذا أخبرت الأنبياء قبله أن الكذاب لا يتم الله أمره ولا ينصره ولا يؤيده فصار هذا معلوما من هذه الجهات ; ولهذا أمر سبحانه أن نعتبر بما فعله في الأمم الماضية من جعل العاقبة للأنبياء وأتباعهم ، وانتقامه ممن كذبهم وعصاهم .
قال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
وقال تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون .
وقال تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب .
وقال تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
[ ص: 412 ] وقال تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون .
وقال تعالى : ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب .
وقال تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب .
[ ص: 413 ] وقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون .
وقال تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب .
وقال تعالى : وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون .
فأخبر بأن المكذبين له سيأتيهم في المستقبل أخبار القرآن الذي استهزءوا به ، وبين أن ما أخبرهم به حق بوقوع الخبر مطابقا للخبر ، وكان الأمر كذلك ومثله قوله : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد .
[ ص: 414 ] أخبر أنه سيريهم في أنفسهم وفي الآفاق ما يبين أن القرآن حق بأن يروا ما أخبر به كما أخبر به ، ثم قال : أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد .
فإنه قد يشهد للقرآن بأنه حق بالآيات البينات والبراهين الدالة على صدقه التي تتبين بشهادة الرب تعالى بأنه حق ، فلا يحتاج مع الشهادة الحاضرة إلى انتظار الآيات المستقبلة .
وقال تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر .
أخبر باقتراب الساعة وانشقاق القمر ، وانشقاق القمر قد عاينوه وشاهدوه وتواترت به الأخبار ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة في المجامع الكبار مثل الجمع والأعياد ; ليسمع الناس ما فيها من آيات النبوة ودلائلها والاعتبار ، وكل الناس يقر ذلك ولا ينكره ، فعلم أن . ثم ذكر حال الأنبياء ومكذبيهم ، فقال : انشقاق القمر كان معلوما عند الناس عامة كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر .
[ ص: 415 ] فأخبر أنه أبقى السفن آية على قدرة الرب وعلى ما جرى لنوح مع قومه ، ثم قال : فكيف كان عذابي لمن كذب ونذري ؟ وكذلك ذكر قصة عاد وثمود ولوط وغيرهم ، يقول في عقب كل قصة : فكيف كان عذابي ونذر ؟ ونذره وإنذاره وهو ما بلغته عنه الرسل من الإنذار ، وكيف كانت عقوبته للمنذرين .
والإنذار : هو الإعلام بالمخوف ، فتبين بذلك صدق ما أخبرت به الرسل من الإنذار وشدة عذابه لمن كذب رسله ، وذكر قصة فرعون فقال : ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر .
وذكر في قصة محمد صلى الله عليه وسلم مع الناس أنواعا من ذلك فقال : [ ص: 416 ] قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .
وقال تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومثل هذا كثير في القرآن من ذكر دلائل النبوة وأعلام الرسالة ليس هذا موضع بسطه ، وإنما المقصود هنا التنبيه على جنس ذلك . وما يذكره بعض أهل الكتاب أو غيرهم من أنه نصر فرعون ونمرود [ ص: 417 ] وسنحاريب وجنكسان وغيرهم من الملوك الكافرين جوابه ظاهر ، فإن هؤلاء لم يدع أحد منهم النبوة ، وأن الله أمره أن يدعو إلى عبادة الله وطاعته ، ومن أطاعه دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار ، بخلاف من ادعى أن الله أرسله بذلك ; فإنه لا يكون إلا رسولا صادقا ينصره الله ويؤيده وينصر أتباعه ، ويجعل العاقبة لهم ، أو يكون كذابا فينتقم الله منه ، ويقطع دابره ، ويتبين أن ما جاءه به ليست من الآيات والبراهين التي لا تقبل المعارضة ، بل هي من جنس مخارق السحرة والكهان والكذابين التي تقبل المعارضة ، فإن ، بخلاف غيرها فإن معارضتها ممكنة فيبطل دلالتها . معجزات الأنبياء من خواصها أنه لا يقدر أحد أن يعارضها ويأتي بمثلها
والمسيح الدجال : يدعي الإلهية ، ويأتي بخوارق ، ولكن نفس دعواه الإلهية دعوى ممتنعة في نفسها ، ويرسل الله عليه المسيح ابن مريم فيقتله ويظهر كذبه ، ومعه ما يدل على كذبه من وجوه :
منها : أنه مكتوب بين عينيه كافر .
ومنها : أنه أعور ، والله ليس بأعور .
[ ص: 418 ] ومنها : أن أحدا لن يرى ربه حتى يموت ، ويريد أن يقتل الذي قتله أولا فيعجز عن قتله .
فمعه من الدلائل الدالة على كذبه ما يبين أن ما معه ليس آية على صدقه ، بخلاف مثل قلب العصا حية معجزات الأنبياء ، فإنه لا يمكن أحد من الإنس والجن أن يأتي بنظيرها ولا يبطلها لموسى ، وإخراج ناقة لصالح من الأرض ، وإحياء الموتى للمسيح ، وانشقاق القمر وإنزال القرآن وغير ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية واقترحوا عليه انشقاق القمر فأراهم ذلك .
وقد أخبر الله تعالى بذلك في القرآن ، فقال تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر .
ثم ذكر تعالى ما جرى قبله للمكذبين فذكر قصة قوم نوح وهود وصالح ولوط ثم فرعون ، وهذه السورة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في أعظم اجتماعات الناس عنده وهي الأعياد ، والناس كلهم يسمعون ما يذكره من انشقاق القمر ، وقول المكذبين أنه سحر [ ص: 419 ] والناس كلهم المؤمن به والمنافق والكافر يقرون على هذا لم يقل أحد منهم أن القمر لم ينشق ولا أنكره أحد .
وفي صحيح أن مسلم رضي الله عنه : سأل عمر بن الخطاب ما يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر ، فقال : كان يقرأ فيهما بـ أبا واقد الليثي ق والقرآن المجيد و اقتربت الساعة وانشق القمر .
ومعلوم بالضرورة في مطرد العادة أنه لو لم يكن انشق لأسرع الناس المؤمنون به إلى تكذيب ذلك فضلا عن أعدائه من الكفار والمنافقين ، لا سيما وهو يقرأ عليهم ذلك في أعظم مجامعهم .
وأيضا فمعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الخلق على تصديق الناس له واتباعهم إياه ، مع أنه كان أخبر الناس بسياسة الخلق ، فلو لم يكن القمر انشق لما كان يخبر بهذا ، ويقرأه على جميع الخلق ويستدل به ، ويجعله آية له ، فإن من يكون من أقل الناس خبرة بالسياسة لا يتعمد إلى ما يعلم جميع الناس أنه كاذب به فيجعله من أعظم آياته الدالة على صدقه ، ويقرأه على الناس في أعظم المجاميع .
[ ص: 420 ] وقال : اقتربت الساعة وانشق القمر بصيغة الفعل الماضي ، ولم يقل قامت الساعة ، ولا ستقوم ، بل قال : اقتربت أي دنت وقربت ، و وانشق القمر الذي هو دليل على نبوة محمد وعلى إمكان انحراق الفلك الذي هو قيام القيامة ، وهو سبحانه قرن بين خبره باقتراب الساعة وخبره بانشقاق القمر ، فإن مبعث محمد صلى الله عليه وسلم هو من أشراط الساعة وهو دليل على قربها ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : بعثت أنا والساعة كهاتين ، وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى . وقد قال تعالى : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها .
، كما يذكر ذلك عن [ ص: 421 ] وعلم الساعة أخفاها الله عن جميع خلقه المسيح في الإنجيل ، أنه لما سئل عنها فقال : إنها لا يعلمها أحد من الناس ولا الملائكة ولا الابن ، وإنما يعلمها الأب وحده . وهذا مما يدل على أنه ليس هو رب العالم ، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك لما سئل عنها . قال تعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض .
أي : خفيت على أهل السماوات والأرض : لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
وفي الصحيح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ، تسألوني عن الساعة ، وإنما علمها عند الله : على صدق الرسول ، وعلى مجيء الساعة وإمكان انشقاق الفلك ; فإن المنكرين لقيام القيامة الكبرى قيام الناس من قبورهم لرب العالمين ، وانشقاق السماوات وانفطارها سواء أقروا بالقيامة الصغرى ، وأن الأرواح بعد الموت تنعم أو تعذب ، كما هو قول الفلاسفة اللاإلهيين ، أو أنكروا المعاد مطلقا ، كما أنكر ذلك من أنكره من مشركي العرب فانشقاق القمر كان آية [ ص: 422 ] على شيئين والفلاسفة الطبيعيين ، وغيرهم ينكرون انشقاق السماوات [ ص: 423 ] ويزعم هؤلاء الدهرية أن الأفلاك لا يجوز عليها الانشقاق ، كما ذكر ذلك أرسطو وأتباعه وزعموا أن الانشقاق يقتضي حركة مستقيمة وهي ممتنعة بزعمهم في الفلك المحدد إذ لا خلاء وراءه عندهم ، وهذا لو دل فإنما يدل على ذلك في الفلك الأطلس لا فيما دونه ، فكيف وهو باطل ؟ فإن الحركة المستقيمة هناك بمنزلة جعل الأفلاك ابتداء في هذه الأحياز التي هي فيها - سواء سمي خلاء أو لم يسم - كما هو مذكور في غير هذا الموضع .
[ ص: 424 ] والمقصود هنا أنه تعالى أخبر بانشقاق القمر مع اقتراب الساعة ; لأنه دليل على إمكان انشقاق الأفلاك ، وانفطارها الذي هو قيام الساعة الكبرى ، وهو آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو من أشراط الساعة ، والله تعالى في كتابه يجمع بين ذكر القيامة الكبرى والصغرى ، كما في سورة الواقعة ذكر في أولها القيامة الكبرى ، وفي آخرها القيامة الصغرى ، وذلك كثير في سور القرآن مثل سورة ق ، وسورة القيامة ، وسورة التكاثر ، وسورة الفجر ، وغير ذلك .
وقد استفاضت الأحاديث بانشقاق القمر ، ففي الصحيحين ، عن أنه قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشهدوا ، وفي لفظ ونحن معه بمنى ، فقال كفار ابن مسعود قريش سحركم ابن أبي كبشة ، فقال رجل منهم : إن محمدا إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها ، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر ، هل رأوا هذا ؟ فأتوا فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك .
[ ص: 425 ] وعن أنه قال : سأل أهل أنس بن مالك مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهما فنزلت : اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر .
وهذا حديث صحيح مستفيض ، رواه ابن مسعود وأنس بن مالك ، وهو أيضا معروف عن وابن عباس ، قال حذيفة أبو الفرج بن الجوزي والروايات في الصحيح بانشقاق القمر عن ابن عمر وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم . وأنس
[ ص: 426 ] ولما زعموا أن هذا القرآن هو ألفه ، قال الله تعالى : أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين .
ثم تحداهم بعشر سور فقال تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون .
ثم تحداهم بسورة واحدة فقال : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا .
وقال تعالى أيضا : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله .
فعجز جميع الخلق أن يعارضوا ما جاء به ثم سجل على جميع الخلق العجز إلى يوم القيامة بقوله : [ ص: 427 ] قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
فأخبر من ذلك الزمان أن ، والأمر كذلك فإنه لم يقدر أحد من العرب وغيرهم مع قوة عداوتهم وحرصهم على إبطال أمره بكل طريق وقدرتهم على أنواع الكلام أن يأتوا بمثله ، وأنزل الله إذ ذاك آيات بين فيها أنه رسول إليهم ، ولم يذكر فيها أنه لم يرسل إلى غيرهم . فقال تعالى في سورة القصص : الإنس والجن إذا اجتمعوا لا يقدرون على معارضة القرآن بمثله ، فعجز لفظه ومعناه ومعارفه وعلومه أكمل معجزة وأعظم شأنا ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين .
[ ص: 428 ] وقال في سورة السجدة : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون .
وقال في سورة يس : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون .
ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث نعمته على هؤلاء ، وحجته عليهم بإرساله ، وذكر بعض حكمته في إرساله وذلك لا يقتضي أنه لم يرسل إلا لهذا ، بل مثل هذا كثير معروف في لسان العرب وغيرهم .
[ ص: 429 ] قال تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون .
ومعلوم أن في هذه الدواب منافع غير الركوب ، وقال تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون .
فقد أخبر أنه ، وذلك لا يمنع أن يكونوا نزلوا بالبشارة للمؤمنين والأمر والنهي بالشرائع . ينزل الملائكة بالوحي على الأنبياء ; لينذروا يوم القيامة
وقال تعالى : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما .
فأخبر تعالى أنه خلق العالم العلوي والسفلي ; ليعلم العباد قدرته وعلمه ، ومع هذا ففي خلق ذلك له من الحكمة أمور أخرى غير علم العباد ، ومثل ذلك قوله تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم .
ومعلوم أن في جعل الكعبة قياما للناس والهدي والقلائد حكما ومنافع أخرى .
[ ص: 430 ] وقال تعالى : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .
ومعلوم أن في ملك الله حكما أخرى غير جزاء المحسن والمسيء ، وكذلك قوله : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون .
وقال تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح . إلى قوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .
ومعلوم أن في ، وغيرها حكم أخرى غير دفع حجة الخلق على الله ، وكذلك قوله تعالى : إرسال الرسل سعادة من آمن بهم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم .
ومعلوم أن في تسخيرها حكما ومنافع غير التكبير . وقوله : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم .
[ ص: 431 ] وقال تعالى : وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار .
ومعلوم آدم ، وكذلك قوله : أن لله حكما في خلق الشمس والقمر ، والليل والنهار ، غير انتفاع بني هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه .
وقوله : وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا .
وفيها حكم أخرى .
وقال : وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .
وفي إنزال الكتاب من هدى من اهتدى به واتعاظه وغير ذلك مقاصد غير الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .
وقال تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين .
[ ص: 432 ] ومعلوم أن في مبعث الخلق يوم القيامة مقاصد غير بيان المختلف في علم هؤلاء ، ومما يبين ذلك أنه قال في الآية التي احتجوا بها : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم .
ومعلوم أنه لم يبعث لمجرد الإنذار ، بل وليبشر من آمن به ، ولأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتحليل الطيبات ، وتحريم الخبائث ، وغير ذلك من مقاصد الرسل ، كما قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين .
وقوله : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين . لا ينافي كونه لم يصفهم في موضع آخر إلا بالإنذار ، وقد قال : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
وكان المسلمون مرة صلوا صلاة العيد بحضرة حصار النصارى فقام خطيبهم فخطب بهذه الآية ، ولما قرأ قوله : [ ص: 433 ] ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أشار إلى جند الإيمان .
ولما قرأ قوله : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا أشار إلى جند الصلبان .
وقال تعالى : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط .
وفي إنزال الكتاب والميزان حكم أخرى من البشارة والإنذار وغير ذلك ، وكذلك قوله : ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .
وفي بعثهم حكم أخرى بدليل قوله : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها .
وقال تعالى : فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
ومعلوم أن في ذلك مقاصد أخرى من هداية الخلق ، وقيام [ ص: 434 ] الحجة على من بلغهم وغير ذلك ، وقوله : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب .
وفيه حكم أخرى من قيام الحجة على الخلق وضلال من ضل به ، ومثله قوله : هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب .
ومعلوم أن في ذلك مقاصد أخرى من البشارة والأمر والنهي وغير ذلك ، وكذلك قوله : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله .
ومعلوم أن في جزاء المؤمنين مقاصد أخرى غير علم أهل الكتاب وما معه ، وقال تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها .
ومعلوم أن فيه حكما أخرى مثل تبشير من آمن به ، والأمر والنهي ، وإنذار غير هؤلاء من العرب .
[ ص: 435 ] وقال تعالى : إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين .
ومعلوم أن فيه حكمة أخرى غير الإنذار .
وقال تعالى : ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين .
ومعلوم أن فيه حكمة أخرى من إنذار الخلق كلهم ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتبشير المؤمنين ، فقال تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم .
ومعلوم أن في أخذ الميثاق حكما أخرى .
وقال تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما .
[ ص: 436 ] وقوله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .
وقوله : لنريه من آياتنا .
وكذلك قوله : وجعلنا الليل والنهار آيتين إلى قوله : لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب .
وكذلك قوله : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب .
وفي ذلك كله حكم أخرى ، وكذلك قوله : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا .
وإن كانت هذه لام العاقبة ، فليست العاقبة منحصرة في ذلك ، بل في ذلك من الإحسان إلى موسى وتربيته وغير ذلك حكم أخرى ، ومثل قوله : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم .
[ ص: 437 ] وقال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله .
وفي إرساله حكم أخرى ، وكذلك قوله : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله .
وفي إنزاله تبشير وإنذار وأمر ونهي ووعد ووعيد وكذلك قوله في عيسى ابن مريم : هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .
وكذلك قوله : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله .
وفيه حكم أخرى كما قال في الآية الأخرى : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها .
وقال : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .
[ ص: 438 ] وقال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك إلى قوله : ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون .
وكذلك قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا .
وفي كونهم وسطا حكم أخرى .
وقوله : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا .
وفيهما حكم أخرى ، وكذلك قوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا .
وفي ذلك حكم أخرى من البشارة والأمر والنهي .
[ ص: 439 ] وقال تعالى : وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء .
وفي ذلك حكم أخرى ، ومثل ذلك كثير في كلام الله عز وجل وغير كلام الله إذا ذكر حكمة للفعل لم يلزم أن لا تكون له حكمة أخرى ، لكن لا بد لتخصيص تلك الحكمة بالذكر في ذلك الموضع من مناسبته ، وهذا كالمناسبة في قوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم .
فإن هؤلاء كانوا أول المنذرين ، وأحقهم بالإنذار ، فكان في تخصيصهم بالذكر فائدة لا أنه خصهم لانتفاء إنذار من سواهم .
وقال تعالى : نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين .
ومعلوم أنه نزل به ليكون بشيرا ، وليأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويحل الطيبات ، ويحرم الخبائث ، ويضع الآصار والأغلال صلى الله عليه وسلم .