الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 445 ] هذا الكلام على الوجه الأول ، وهو قول من يقول أنه لم يقل أنه أرسل إلا إلى العرب .

وأما الوجه الثاني : وهو أن نقول : هو ذكر أنه رسول إلى الناس كافة ، كما نطق به القرآن في غير موضع ، كقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا .

وقوله : ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض .

وقد صرح فيه بدعوة أهل الكتاب وبدعوة الجن في غير موضع ، فإذا سلموا أنه ذكر ذلك ولكن كذبوه في ذلك ، فإما أن يقروا برسالته إلى العرب ، أو لا يقروا .

فإن أقروا بأنه رسول أرسله الله ، لم يمكن مع ذلك تكذيبه كما تقدم ، بل يجب الإقرار برسالته إلى جميع الخلق كما أخبر بذلك ، كما تقدم أن من ذكر أنه رسول الله لا يكون إلا من أفضل الخلق وأصدقهم ، أو من شر الخلق وأكذبهم ، فإنه إن كان صادقا فهو من أفضلهم وإن كان [ ص: 446 ] كاذبا فهو من شرهم ، وإذا كان الله قد أرسله - ولو إلى قرية كما أرسل يونس بن متى إلى أهل نينوى - كان من أفضل الخلق ، وكان صادقا لا يكذب على الله ، ولا يقول عليه إلا الحق ، ولو كذب على الله ولو في كلمة واحدة لكان من الكاذبين ، لم يكن من رسل الله الصادقين ، فإن الكاذب لا يكذب في كل شيء ، بل في البعض ، فمن كذب على الله في كلمة واحدة ، فقد افترى على الله الكذب ، وكان من القسم الكاذبين في دعوى الرسالة لا من الصادقين .

وأيضا فإن مقصود الرسالة تبليغ رسالات الله على وجهها ، فإذا خلط الكذب بالصدق لم يحصل مقصود الرسالة .

وأيضا فإذا علم أنه كذب في بعضها لم يتميز ما صدق فيه مما كذب فيه إلا بدليل آخر غير رسالته ، فلا يحصل المقصود برسالته .

ولهذا أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله تبارك وتعالى لم يقل أحد قط أن من أرسله الله يكذب عليه ، وقد قال تعالى ما يبين أنه لا يقر كاذبا عليه ، قال تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين .

[ ص: 447 ] وقال تعالى : أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك .

ثم قال تعالى : ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته .

فقوله تعالى : ويمح الله الباطل ويحق الحق كلام مستأنف ، ليس داخلا في جواب الشرط ، فإنه لو كان معطوفا على جواب الشرط ، لقال ويحق الحق بالكسر لالتقاء الساكنين ، كما في قوله قم الليل .

فلما قال ويحق الحق بالضم دل على أنه جملة مستأنفة أخبر فيها أنه تعالى يمحو الباطل كباطل الكاذبين عليه ، ويحق الحق كحق الصادقين عليه ، فمحو الباطل نظير إحقاق الحق ، ليس مما علق بالمشيئة ، بل لا بد منه ، بخلاف الختم على قلبه ، فإنه معلق بالمشيئة ، ولا يجوز أن يعلق بالمشيئة محو الباطل كتعليق الختم ، بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه .

[ ص: 448 ] وقال تعالى في صيانته وإحكامه لما تبلغه رسله : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم .

وأيضا فإذا لم يكن أرسل إلا إلى العرب ، وقد دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان به ، وكفرهم إذا لم يؤمنوا به ، وجاهدهم ، وقتل مقاتلهم ، وسبى ذرياتهم ، كان ذلك ظلما لا يفعله إلا من هو من أظلم الناس ، ومن كان نبيا قد أرسله الله فهو منزه عن هذا وهذا .

فالإقرار برسالته إلى العرب دون غيرهم - مع ما ظهر من عموم دعوته للخلق كلهم - قول متناقض ظاهر الفساد ، وكل ما دل عليه أنه رسول ، فإنه يستلزم رسالته إلى جميع الخلق ، وكل من اعترف بأنه رسول لزمه الاعتراف بأنه رسول إلى جميع الخلق ، وإلا لزم أن يكون الله أرسل رسولا يفتري عليه الكذب ، ويقول للناس : إن الله أمركم باتباعي ، وأمرني [ ص: 449 ] بجهادكم إذا لم تفعلوا ، وهو كاذب في ذلك ، ومعلوم أن كل ما دل على أن الله أرسله فإنه يدل على أنه صادق في الرسالة وإلا فلا ، فالرسول الكاذب لا يحصل به مقصود الرسالة ، بل يكون من جملة المفترين على الله الكذب ، وأولئك ليسوا من رسل الله ، ولا يجوز تصديقهم في قولهم : إن الله أرسلهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية