[ ص: 117 ] وأما تفسيرهم لقوله - تعالى - : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين بأن مراده قومه كما قالوا .
وأما قوله - تعالى - : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين يريد بحسب مقتضى العدل قومه الذين أتاهم بلغتهم لا غيرهم ممن لم يأتهم بما جاء فيه .
فيقال لهم من فسر مراد متكلم : أي متكلم كان بما يعلم الناس أنه خلاف مراده فهو كاذب مفتر عليه وإن كان المتكلم من آحاد العامة ولو كان المتكلم من المتنبئين الكذابين ، فإن من عرف كذبه إذا تكلم بكلام وعرف مراده به لم يجز أن يكذب عليه فيقال : أراد كذا [ ص: 118 ] وكذا ، فإن بل يعلم علما ضروريا أنه أراد العموم . الكذب حرام قبيح على كل أحد سواء كان صادقا أو كاذبا فكيف بمن يفسر مراد الله ورسوله بما يعلم كل من خبر حاله علما ضروريا أنه لم يرد ذلك
فإن ومن يبتغ غير الإسلام دينا صيغة عامة ، وصيغة " من " الشرطية من أبلغ صيغ العموم كقوله - تعالى - قوله - تعالى - : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ( 7 ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ثم إن سياق الكلام يدل على أنه أراد أهل الكتاب وغيرهم ، فإن هذا في سورة آل عمران في أثناء مخاطبته لأهل الكتاب ومناظرته للنصارى ، فإنها نزلت لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد نجران النصارى وروى أنهم كانوا ستين راكبا وفيهم السيد والأيهم والعاقب وقصتهم مشهورة معروفة كما تقدم ذكرها .
وقد قال قبل هذا الكلام بذم دين النصارى الذي ابتدعوه وغيروا به دين المسيح ولبسوا الحق الذي بعث به المسيح بالباطل الذي ابتدعوه [ ص: 119 ] حتى صار دينهم مركبا من حق وباطل واختلط أحدهما بالآخر فلا يكاد يوجد معه من يعرف ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره والمسيح قرر أكثر شرع التوراة وغير المعنى وعامة النصارى لا يميزون ما قرره مما غيره فلا يعرف دين المسيح .
قال - تعالى - : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ( 79 ) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون فقد بين أن بقوله - تعالى - : من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر فمن اتخذ من دونهم أربابا كان أولى بالكفر وقد ذكر أن النصارى اتخذوا من هو دونهم أربابا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ثم قال - تعالى - : في سورة آل عمران وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [ ص: 120 ] قال وغيره من السلف : ابن عباس محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه والآية تدل على ما قالوا ، فإن قوله - تعالى - : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين يتناول جميع النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وهذه اللام الأولى تسمى اللام الموطئة للقسم واللام الثانية : تسمى لام جواب القسم ، والكلام إذا اجتمع فيه شرط وقسم وقدم القسم سد جواب القسم مسد جواب الشرط ، والقسم كقوله - تعالى - : لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ومنه قوله - تعالى - : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين [ ص: 121 ] وقوله : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها وقوله : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا وقوله : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ومنه قوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( وقوله ) : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ( وقوله ) : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين وقوله : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم [ ص: 122 ] وقوله : ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك وقوله : وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم وقوله : ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين وقوله : ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون وقوله : ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم وقوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ومثل هذا كثير وحيث لم يذكر القسم فهو محذوف مراد تقدير [ ص: 123 ] الكلام - والله - لئن أخرجوا لا يخرجون معهم - والله - ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ومن محاسن لغة العرب أنها تحذف من الكلام ما يدل المذكور عليه اختصارا وإيجازا لا سيما فيما يكثر استعماله كالقسم ( وقوله ) : لما آتيتكم من كتاب وحكمة هي ما الشرطية ، والتقدير : أي شيء أعطيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ، ولا تكتفوا بما عندكم عما جاء به ولا يحملنكم ما آتيتكم من كتاب وحكمة على أن تتركوا متابعته بل عليكم أن تؤمنوا به وتنصروه ، وإن كان معكم من قبله من كتاب وحكمة فلا يغنيكم ما آتيتكم عما جاء به ، فإن ذلك لا ينجيكم من عذاب الله .
فدل ذلك على أنه من أدرك محمدا من الأنبياء وأتباعهم وإن كان معه كتاب وحكمة فعليه أن يؤمن بمحمد وينصره كما قال لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه [ ص: 124 ] وقد أقر الأنبياء بهذا الميثاق وشهد الله عليهم به كما قال - تعالى - : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ثم قال - تعالى - : فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ثم قال - تعالى - : أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ثم قال - تعالى - : قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ثم قال - تعالى - : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ ص: 125 ] قالت طائفة من السلف : لما أنزل الله هذه الآية قال من قال من اليهود والنصارى نحن مسلمون . فقال - تعالى - : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فقالوا : لا نحج فقال - تعالى - : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين فكل من فهو كافر باتفاق المسلمين كما دل عليه القرآن . لم ير حج البيت واجبا عليه مع الاستطاعة
واليهود والنصارى لا يرونه واجبا عليهم فهم من الكفار حتى أنه روي في حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " " . من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا
[ ص: 126 ] وهو محفوظ من قول - رضي الله عنه - وقد اتفق المسلمون على أن من عمر بن الخطاب ، فإنه كافر . جحد وجوب مباني الإسلام الخمس الشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت
وأيضا فقد قال - تعالى - : في أول السورة شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( 18 ) إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ( 19 ) فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد [ ص: 127 ] فقد أمره - تعالى - بعد قوله : إن الدين عند الله الإسلام أن يقول أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ، وأن يقول للذين أوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى والأميين وهم الذين لا كتاب لهم من العرب وغيرهم : أأسلمتم ، فالعرب الأميون يدخلون في لفظ الأميين باتفاق الناس .
وأما من سواهم : فإما أن يشمله هذا اللفظ أو يدخل في معناه بغيره من الألفاظ المبينة أنه أرسل إلى جميع الناس .
قال - تعالى - : فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد فقد أمر أهل الكتاب بالإسلام كما أمر به الأميين وجعلهم إذا أسلموا مهتدين وإن لم يسلموا فقد قال : ( إنما عليك البلاغ ) أي تبلغهم رسالات ربك إليهم والله هو الذي يحاسبهم فدل هذا كله على أنه عليه أن يبلغ أهل الكتاب ما أمرهم به من الإسلام كما يبلغ الأميين ، وأن الله يحاسبهم على ترك الإسلام كما يحاسب الأميين .
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب الذي كتبه إلى هرقل ملك النصارى محمد رسول الله إلى هرقل [ ص: 128 ] عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين " . " من
و ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وأبلغ من ذلك أن الله تعالى أخبر في كتابه أن الإسلام دين الأنبياء كنوح وإبراهيم ويعقوب وأتباعهم إلى الحواريين وهذا تحقيق لقوله - تعالى - : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وإن . الدين عند الله الإسلام في كل زمان ومكان
قال - تعالى - : عن نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ( 71 ) فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فهذا نوح الذي غرق أهل الأرض بدعوته وجعل جميع الآدميين [ ص: 129 ] من ذريته يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين .
وأما الخليل فقال - تعالى - : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ( 127 ) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم قال - تعالى - : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( 130 ) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ( 131 ) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون فقد أخبر تعالى أنه أمر الخليل بالإسلام وأنه قال : أسلمت لرب العالمين وأن إبراهيم وصى بنيه ويعقوب وصى بنيه أن لا يموتن إلا وهم مسلمون .
وقال - تعالى - : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ( 67 ) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين وقال - تعالى - : عن يوسف الصديق ابن يعقوب أنه قال [ ص: 130 ] رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين وقال - تعالى - : عن موسى وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وقال عن السحرة الذين آمنوا بموسى : قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون ( 50 ) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين وقالوا أيضا وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين وقال - تعالى - : في قصة سليمان إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( 30 ) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين وقال قال ياأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين وقال : وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين [ ص: 131 ] وقال عن بلقيس التي آمنت بسليمان رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين وقال : عن أنبياء بني إسرائيل إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال - تعالى - عن الحواريين : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون وقال - تعالى - ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .
فهؤلاء الأنبياء وأتباعهم كلهم يذكر تعالى أنهم كانوا مسلمين وهذا مما يبين أن قوله - تعالى - : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وقوله : إن الدين عند الله الإسلام لا يختص بمن بعث إليه محمد بل [ ص: 132 ] هو حكم عام في الأولين والآخرين ولهذا قال - تعالى - : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا وقال - تعالى - : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .